اهتم
سيد الخلق سيدنا محمد _صلى الله عليه وسلم_ منذ اللحظة الأولى ببناء الإنسان الذي
هو بحق العنصر الرئيس بين عناصر التنمية، فعمل على إعداده إعداداً خاصاً تمهيداً
لتسليمه راية الإعمار والبناء والاستخلاف في هذه الأرض، وكان ذلك جلياً واضحاً في
أحداث الهجرة، حيث سعى نبينا -صلى الله عليه وسلم- عقب هجرته وهو يضع اللبنات
الأولى في أركان الدولة الإسلامية لترسيخ عملية بناء الفرد المسلم على أسس واضحة
أهمها:
أولاً:
ترسيخ علاقة العبد بربه من خلال بناء المسجد لبيان
أهمية العلاقة بين الخالق وعباده، وتعميق الإيمان في نفوس الأفراد في هذه الدولة
الناشئة، ولإرشاد المؤمنين إلى أهمية المسجد ومكانته في المجتمع المسلم، فرسالة
المسجد عظيمة أدرك شأنها الأعداء، فشنوا على هذه المؤسسة حرباً ضارية لا هوادة
فيها، وقاموا بتقييدها بضوابط وقيود جائرة، تقلل من فاعليها وأثرها في المجتمع.
ثانياً:
ترتيب علاقة المسلمين فيما بينهم، وتقوية أواصر
الحب والمودة والنصرة، من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حيث آخى النبي –صلى
الله عليه وسلم- بينهم بعيداً عن أية اعتبارات شخصية أو فوارق مجتمعية أو عرقية أو
مادية، وكان الاعتبار الأوحد للرابطة الإيمانية.
ومن
الجدير ذكره في هذا المقام التوازن الكبير في شخصية المسلمين سواء من المهاجرين أو
الأنصار، فعندما آخى صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي
الله عنهما، وعرض سعد أن يقتسم كل ما لديه مناصفة بينه وبين ابن عوف، رفض عبد
الرحمن وقال له: بارك الله في أهلك ومالك، دلّني على السوق، إنها نفوس كريمة أبية عالية
في البذل والعطاء من جهة، والتعفف وعدم المسارعة في قبول هذه العطايا بهذه السهولة
من جهة أخرى، وهكذا الإسلام يبني شخصية المسلم بناء دقيقاً من الناحية الإيمانية
والنفسية والمزاجية، فنجده يُرغِّب في العطاء كما يُرغِّب في الترفعِ والسعي للكسب
بكدّ اليمين، ويُرغِّب بالسماحة من جهة البائع والمشتري على السواء، فيقول نبينا
صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عبدا سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى"،
فانظر معي إلى هذا التوازن العجيب، يطلب من البائع السماحة بوفاء الكيل وزيادته إن
أحب، والحطّ من سعر السلعة إن رغب في ذلك، وفي الوقت نفسه لا يعني بأن المشتري هو
المستفيد الوحيد بل هو مطالب بموقف مشابه في الجهة المقابلة بالتسامح ودفع السعر
الملائم أو التنازل عن بعض حقه إن رأى ذلك، وعلى الحاكم العادل رعاية مصالح
الجميع، فليست مصلحة المشتري برخص الثمن أولى –كما يظن الكثير من الناس- من مصلحة
البائع بتوفير الثمن المناسب، فلذلك ترك لهما الشرع حرية الاجتهاد ضمن ضوابط
أخلاقية عظيمة تدل على عظمة هذا الدين ورفعته وعدالته.
ثالثاً:
ترتيب العلاقة مع غير المسلمين من اليهود الذين يعيشون في المدينة،
حيث أقرهم على دينهم وحفظ ذمتهم المالية وبين حقوقهم وواجباتهم نحو الوطن الذي
يحيون فيه وواجبهم في المشاركة في دفع أي عدوان أو دهم للمدينة، وفي حال الاختلاف
معهم في أي قضية فالمرجع هو الله ورسوله.
هذا الميثاق بكل ما جاء فيه فهو
سبق تاريخي وحضاري متميز، سبق فيه محمد صلى الله عليه وسلم كل المنظمات الحقوقية
والإنسانية والمدنية بأكثر من 1400 عام، في حين ما زال الكثير مما ورد في هذه
الوثيقة مثار نقاش وخلاف وتقنين، كحرية الاعتقاد وحق المواطنة، وما زال الباحثون
وفقهاء القانون وعلماء الاجتماع والساسة يبحثون في قضية قبول الآخر وتقرير حقوقه،
وتبيان واجباته، ورسم حدود حريته، وضبط أنفاسه، وعدّ خطواته، وإحصاء سكناته،
وخصوصاً إذا كنا نحن هو هذا الآخر؟!
فهناك الكثير من الدروس والفوائد
والعبر والمهارات التي نفيدها من هجرة نبيينا محمد عليه أكمل وأفضل الصلاة
والسلام، ولكن لا يتسع المقام لبسط ذلك كله في هذه العجالة، ولنا لقاء آخر مع
الهجرة بإذن الله عز وجل.
الخميس: 11 محرم 1438هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق