عند باب المطعم، ودّع عدنان صديقيه
اللذين أصرا على مرافقته في عبور طريق كاستيلو، تحسباً من مفاجآت الطريق، فلم يمضِ
على توقف المعارك سوى ليلة واحدة ! وجاء صديقه "أبو صالح" صاحب المقهى،
فاحتضنه ورحب به في حرارة ودعاه للدخول :
- أهلين
.. شيخ عدنان .. تفضل !
ردّ عدنان
:
- صباح
الخير .. عمي أبو صالح ..
- صباحك
عربي بالصلاة على النبي .. شيخنا .. تفضل .. تفضل
!!
دخل عدنان ووضع بندقيته جانباً،
ولاحت الحيرة على أبو صالح وهو يراه على غير عادته يلبس قميصاً مشجراً فاقع اللون
وبنطال جينز أزرق خفيفاً، ولا يحمل في خصره القنابل ولا حزام الرصاص الذي لم يكن
يفارقه حيثما كان، فسأله مداعباً :
- خير
.. شيخنا .. أراك اليوم لا تحمل العدة !!
وانطلق يضحك، وضحك عدنان لوصفه
بهذه الطريقة، وأخذ كرسيه على الطاولة مقابل صديقه أبي صالح الذي تابع يقول :
- ما
شاء الله .. شيخنا .. شايفك اليوم مشبشب حالك زيادة حبتين .. شو القصة ؟!!
والتفت أبو صالح فنادى ابنه ليحضر
فنجانين من القهوة قائلاً وهو يواصل ضحكته المنغمة
:
- صالح
.. الله يرضى عليك .. هات لنا قهوة ..
واستدرك قائلاً :
- قهوة
سادة .. خلاص ما عدنا نحتاج سكّر .. انتصرت الثورة وحليت أيامنا بفضل الله ..
ومد يده يربت على كتف صديقه عدنان
وتابع يقول :
- حليت
أيامنا بفضل هالأبطال ..
ورشف رشفة طويلة من سيكارته ثم
نظر في عيني عدنان وتابع يقول :
- شيخنا
.. أراك مبكراً اليوم على غير العادة ! خير .. ما الحكاية؟!
ودون أن يترك له فرصة للجواب تابع
يقول :
- أهو
.. موعد غرام؟!
هز عدنان رأسه مع ابتسامة شفافة
فضحت مكنونات صدره، فضحك أبو صالح، وعاد يسأل
:
- سمعت
أنكما سوف تتزوجان .. هل هذا صحيح ؟!!
هز عدنان رأسه :
- طبعاً..
وهل تظن غير ذلك !!؟
رد أبو صالح وهو يضحك ضحكة ذات
مغزى :
- بصراحة
.. كنت أظن أنك تريد أن تتسلى بها ريثما تنقضي الظروف الصعبة التي كنت فيها
فقاطعه عدنان بنبرة عاتبة :
- لا
.. يا صاحبي .. لست أنا من يتسلى بأعراض الناس!
فسارع أبو صالح يعتذر :
- آسف
.. آسف جداً .. يا شيخ عدنان، أنا لم أقصد .. والله لم أقصد ..
ورشف رشفة أخرى من سيكارته قبل أن
يعود فيقول :
- لكن
.. اسمح لي .. شيخنا .. أنا أعرف أن "مايا" من نفس الطائفة التي
كنت أنت والثوار تقاتلونها!! فكيف تفكر الآن بالزواج منها!!؟
- يا
عزيزي .. لا تغلط .. نحن لم نكن نقاتل العلويين ، نحن كنا نقاتل الدكتاتورية
والفساد الذي أصاب كل شيء في البلد !!
وجاء صالح بالقهوة فتناول عدنان
فنجانه ووضعه جانباً، ونظر إلى صاحبه وسأله
:
- وما
المشكلة .. أخي أبو صالح .. أن أتزوج علوية ؟!! أليس العلويون مسلمون مثلنا ؟!!
- العلويون
مسلمون مثلنا!؟ والله هذه آخر سمعة !! كلنا نعرف أن العلويين كفار !! هكذا
يقول كل الناس.. فكيف تقول إنهم مسلمون!؟
- يا
عزيزي .. أبا صالح .. أصلح الله أمرك!! هذه إشاعات يروّج لها أعداؤنا فيقولون سني
وعلوي وشيعي وكردي .. لكي يوقعوا العداوة بيننا .. مع أننا كلنا مسلمون !!
- لكن
.. يا شيخ عدنان اسمح لي .. بغض النظر عن حبيبة القلب، سواء كانت مسلمة أم
كافرة ، فلا تنسى أن هؤلاء الناس لا يقيمون للشرف والعِرض أية قيمة !! فكيف تقبل
الزواج من امرأة تفرّط بعرضها وشرفها ؟!!
- يا
حبيبي.. أبا صالح .. وهذا أيضاً غير صحيح على الإطلاق .. كلها إشاعات
كما قلت لك، لقد مضى على علاقتي مع مايا أكثر من سنة، وطوال هذه الفترة لم تمكني
من تقبيلها مجرد قبلة ولو عابرة .. ألا يكفي هذا البرهان ؟!!
هز أبو صالح رأسه في حيرة، ولاح
في عينيه الكثير من الأسئلة لكنه اختار السكوت عندما لمح مايا عبر النافذة تتجه
نحو باب المقهى،
- صباح
الخير يا جماعة
قالت وهي تضع جانباً الحقيبة
الكبيرة التي كانت تحملها :
- صباح
الخيرات .. آنسة مايا .. أهلين تفضلي
قال أبو صالح وقدم لها الكرسي
الذي كان يجلس عليه، وانصرف، بينما مدت يدها تصافح عدنان وقالت :
- صباح
الخير .. يا زعيم .. كيفك؟
- الحمد
لله .. زعيم .. كما ترين !!
- الحمد
لله على سلامتك .. يا زعيم .. لأول مرة في حياتي أشعر بالاطمئنان عليك، بعد أن
انتهت هذه الحرب اللعينة
- نعم،
الحمد لله أنها انتهت، وأصبح لزاماً علينا أن نفكر بمستقبلنا !!؟
قال، وسكت منتظراً أن تقول شيئاً،
لكنها لاذت بالصمت وراحت تفرك أصابعها بعصبية بادية، فمد يده وأمسك يدها يهدئها،
ونظر في عينيها نظرة حائرة وقال :
- خير
.. حبيبتي!! ما الحكاية ؟!! أراك صامتة ! مالك !!؟
ترقرقت عيناها وارتعشت جفونها قبل
أن ترد :
- خير
.. إن شاء الله..
وعادت
إلى صمتها القلق، فنظر إلى حقيبتها، وسألها
:
- ما
الذي معك ؟!
- كتبي
وحاجياتي، أنا عائدة إلى اللاذقية .. إلى بيت الأهل
..
- لكن
.. والجامعة التي ستفتح أبوابها غداً لمواصلة الدراسة ؟!!
- لن
أكمل دراستي !!
- معقول
!!؟ بقي لك سنة واحدة وتتخرجين دكتورة قد الدنيا !! فهل يعقل أن تضيعي تعب السنين
التي قضيتها وتعودي إلى البيت دون شهادة؟!!
- وماذا
أفعل ؟! إنه حكم القوي
- من
تعنين ؟! أبوك .. السيد العميد .. أبو الأوامر العسكرية ؟!!
هزت رأسها بانكسار :
- أجل
قال :
- إذا
كان الأمر عند والدك فالموضوع محلول .. دعي الأمر لي .. أنا أكلمه وأقنعه باستكمال
دراستك
- لا
.. أرجوك .. أرجوك
- لكن
.. لماذا ؟!!
- أرجوك
أن تعفيني من الإجابة
- أعفيك
!! وهل بيننا أسرار نكتمها على بعضنا ؟! مايا .. أنت تعرفين جيداً أنك أصبحت كل
شيء في حياتي ، ولن أسمح لك بالرحيل والتفريط بمستقبلك
!
- ومع
هذا أرجو أن تعفيني من الإجابة
قالت وعادت تشهق بالدموع وقامت
تحمل حقيبتها لتمضي فأمسك بها، واستحلفها بالعيون التي راح يمسح الدموع عنها أن
تجلس، وتهدأ، وتفضي بما لديها، فتركت الحقيبة من يدها وجلست صامتة، فعاد يستحلفها
أن تقول كل ما في نفسها، فتنهدت بحرقة وقالت بنبرة منكسرة
:
- أمس
.. سمعت أبي يهتف إلى جهة ما باسمك لتصفيتك بحجة أنك من قادة الإرهابيين
وعادت تجهش بالبكاء فربت على
كتفها وابتسم لها في ثقة وقال :
- لكنك
ترين أن الثورة انتصرت وغيرت كل شيء، فلا تقلقي ( وضحك ضحكة رائقة وتابع يقول )
عمر الشقي بقي .. كما يقولون .. فلا تخافي عليّ .. وثقي أن والدك يبقى بمكانة
والدي مهما فعل ، فلا تشغلي بالك!!
- لكني
خائفة !! عدنان .. لم أعد أحتمل أن أفتقدك، وأنت تعلم جيداً ان للنظام خلايا نائمة
مازالت قادرة على فعل الكثير !!!
- ولا
يهمك! ( وأشار إلى البندقية وأضاف ) نحن لم نضع السلاح، ولن نضع السلاح حتى نطمئن
لتحقيق كل أهداف الثورة ، وأولها تنظيف البلد من فلول النظام
!!
- ومع
هذا .. لا أشعر بالاطمئنان .. يا حبيبي .. أنت معروف لدى الجميع أنك على رأس فصيل
ثوري كبير، واسمك أصبح معروفاً ليس في سوريا وحدها، بل على المستوى الدولي !!؟
- يا
حبيبتي .. لا تشغلي بالك، كلها تهويلات وإشاعات لن تخيفنا، لقد حملنا السلاح
دفاعاً عن الوطن .. يسلم لي قلبه!!
قال وانطلق يضحك، وانطلقت تجاريه
، وجاء أبو صالح بالقهوة ، فقال وهو يراهما آخر انبساط، فقال مداعباً :
- هل
نقول مبروك .. هل نزغرد ؟!
ردت مايا
:
- طبعاً
.. عمي أبو صالح .. زغرد .. زغرد .. واملأ الدنيا فرح .. لقد انتصرت الثورة
.. زغرد .. عمي أبو صالح .. والله اشتهينا الفرح .. خمسين سنة ما شفنا يوم فرح !!
انطلق أبو صالح يزغرد بانبساط،
ويبدو أن صالح سمع الزغاريد فجاء يحمل صينية نحاسية وراح يعزف عليها لحن زفة
العروس، فتلقاه عدنان بالأحضان، وسحب له كرسياً وأجلسه إلى جانبه، ومد يده فتناول
البندقية وقدمها له :
- أخي
صالح هذه هدية لك مني .. عربون أخوة في الله
..
- ولكن
.. شيخنا الكريم .. لم نعد بحاجة للسلاح بعد أن انتصرت الثورة، وقد تبرعت ببندقيتي
قبل أيام عندما أعلنتم وقف المعارك وانتصار الثورة
- ومع
هذا .. أخي صالح .. أرجو أن تقبل هديتي، وأن تبقى أنت وبقية الشباب مستعدين للثورة
دائماً، ولا تغلطوا كما غلط جيلنا حين سكتنا عن الظلم أربعين سنة فدفعنا هذه
الضريبة الباهظة التي تعرفها .. صالح .. يا عزيزي .. يجب أن تظلوا دائماً على
استعداد للثورة ضد الغلط من أي جهة كان، وتذكّر .. أخي صالح .. أن أمة غير مستعدة
للثورة هي أمة غير حية !
- ما
شاء الله .. يا شيخ .. كلامك جواهر !!
- بل
أنتم .. جيل الشباب .. جواهر هذا الوطن، فكونوا مستعدين للثورة دائماً كرما للوطن..
وتدخل أبو صالح قائلاً :
- هيا
بنا، لن نمضي الوقت بالكلام، لا تضيعوا الوقت على العرسان
!!
فقام الجميع وتحرك العروسان
لمغادرة المقهى وقام خلفهما صالح يدق على الصينية، وأبو صالح يغني : اتمختري يا
حلوة يا زينة يا وردة من أحلى جنينة
وخرجوا إلى طريق الكاستيلو الذي
عادت إليه الحياة بعد شهور طويلة من المعارك التي هجّرت أهله ورأى صالح الحياة تدب
في الطريق الذي يعشقه فبالغ في العزف على الصينية ، وابتهج أبو صالح فارتفع غناؤه
بموال من القدود الحلبية : فوق النخل فوق فوق / يابا فوق النخل فوق / يا با ما
ادري لمع خدا يا ما القمر فوق
وقبل أن يكمل مواله، برز ثلاثة من
المسلحين فجأة اعترضوا الزفة ببنادقهم، وصرخ كبيرهم ذو اللحية الحمراء في غضب بالغ :
- خلاص
.. سكوت .. ما هذه المهزلة ؟! اخرسوا قبل أن أفرغ هذا المخزن في رؤوسكم!!
وضرب بكفه على خزان الرصاص في
بندقيته !
فقال أبو صالح :
- طول
بالك .. الله يرضى عليك !! هذه زفة للعروسين كما ترى !!؟
فنظر إليه المسلحع بازدراء وقال :
- استح
على شيبتك .. صرت على حفة قبرك ، وتغني لتذهب الى جهنم !!؟ ارجع إلى دكانك صلي
واستغفر ربك، واكسب آخرتك !!
همّ أبو صالح أن يقول شيئاً لكن
المسلح عاجله بلكمة في صدره أوقعته أرضاً، فعاجل عدنان بتوجيه لكمة في وجه المسلح
أطاحت البندقية من يده، فتناولها عدنان ووجهها إلى المسلحين وأمرهم بالانصراف ،
والتفت إلى صالح وناوله البندقية قائلاً
:
- عمي
صالح .. بإمكانكم أن تبدؤوا ثورتكم !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق