تكتمل في العاشر من محرم طقوس المهرجانات الدامية التي تقام في ذكر
مصرع #الحسين في مدينة #النجف العراقية وأخواتها من المدن ذات الأغلبية الشيعية.
ومن المؤكد أن يوم مقتل الحسين يوم حزين في التاريخ الإسلامي بل
لعله أشد الأيام بؤساً ونحساً على هذه الأمة، حيث تخلى أهل #الكوفة من شيعة الحسين عنه كما تخلى آباؤهم عن أبيه #علي، وأسلموه لقدره في مواجهة عساكر قساة جلف آخر
همهم كتاب الله أو سنة رسوله.
ولكن الشيعة بدؤوا بعد مصرعه مشروع بكاء مستمر، ولطم لا ينتهي، في
طقوس غريبة، يتم فيها تقديس الدم واللطم واللعن، واللطم بالجنازير والجراح في
التطبير، في فائض أحزان وأحقاد يتوجه تلقائياً إلى النواصب وهو اسم يقصد به في
الذهنية الشيعية التقليدية كل أهل السنة وبشكل خاص أهل الشام.
ليس في هذه المقدمة أي مبالغة فهذا بالضبط هو واقع الحال وإن يكن
ليس بالضرورة موقف عقلاء الشيعة الذين ينكرون منذ عقود طويلة كل مظاهر اللطم
والتطبير والجرح والتشهير التي تجري في الطقوس العاشورائية الدامية.
ولكن الحسين أخو الحسن، والحسن بن علي هو الابن الأكبر لأمير
المؤمنين وهو خليفته على رسالته، ووصيه من بعده، وحين استشهد الامام علي عهد إليه
بالأمر من بعده وبايعه الناس في بيعة شهيرة الدم الدم والهدم الهدم، ولست أدري
لماذا تغيب حكمته وبصيرته في هذا الهياج الطامي، ولماذا يخفت صوت الحديث عن رسالته
في الصلح والإخاء لصالح ثورة الحسين وظلالها التي لا تنتهي من القتال الداخلي
وتأجيج الكراهية.
يعتبر الإمام الحسن أبرز قائد إسلامي نجح في تجنب الحرب الأهلية،
وقد تمكن من إنهاء حرب طاحنة استمرت ستة أعوام ووفر سلماً اجتماعياً نبيلاً استمر
عشرين سنة تالية، وظل رمزاً للإخاء والاستقرار في المجتمع الإسلامي.
والحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله من ابنته فاطمة، وفي
تكريم الإمام الحسن قال النبي الكريم : “إن ولدي هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين
فئتين عظيمتين من المسلمين”.
ولي الإمام الحسن بن علي الخلافة بعد أن تمكن #الخوارج من قتل الإمام علي في محراب العيد، في شوال عام 40 للهجرة في مدينة
الكوفة، وقد جاء ذلك في أعقاب حربين طاحنتين بين علي وخصومه يوم #الجمل ويوم #صفينوراح فيهما على أقل تقدير آلاف الضحايا.
وفي أجواء بالغة الانفعال والثورة أقبل الناس يبايعون الإمام الحسن
على الخلافة بعد أبيه، وقد تلقى حشداً كبيرا من المبايعات في الكوفة والمدينة
واليمن، وبايعه ثلاثة وأربعون ألفاً كفلاء على من وراءهم من قومهم، وكانت بيعة
شديدة مباشرة، يبايعونه الدم الدم والهدم الهدم…. وكانت غاية المبايعة دون شك قتال
الخوارج وقتال #معاوية ومن معه في الشام، وقد تمت مواعدة الثائرين بعد ستة أشهر في الكوفة
لإنجاز الحسم ضد معاوية وجيشه.
ولكن الحسن بن علي كان في الواقع رجل دبلوماسية وعقل، وتسامح وصلح،
وهكذا وصفه الرسول الكريم: لعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
بدأ الحسن حراكه الدبلوماسي من الأسابيع الأولى، ومع أن كتائب
الموت كانت تعقد له البيعة على حرب معاوية، ولكنه كان ينظر في أفق آخر، وأدرك أن
الثأر كماء البحر لا يزيد شاربه إلا عطشاً، وأن الثأر يستجلب الثأر، والموت لا
يجلب الحياة، ورأى أن معاوية قد نجح خلال عشرين عاماً من حكمه في الشام أن يثبت
أركان الدولة، وأن منازعة الملك يعني لا محالة الدخول في حرب أهلية لا يعلم
نهايتها إلا الله.
مضت على بيعته شهور، ونظر حال الأمة حينئذ، ورأى ما يتقلب الناس
فيه من الفرقة والضياع، وأيقن أن الخلافة ستكون مضرجة بالدم، وأن الوصول إلى
الخلافة لن يتم دون حرب طاحنة، تراق فيها الدماء والأرواح.
وبدأ الحسن بالفعل مشروعه للتواصل مع معاوية، وفي شجاعة نادرة
اختار الحسن برنامجاً حكيماً يفضي إلى وقف الحرب وبناء المصالحة.
كانت المفاجأة كبيرة على معاوية حين علم أن الحسن يرغب في الصلح،
ويبحث عن حل دبلوماسي، وحين تحقق من ذلك أرسل إليه صفحة بيضاء وقد وقع في أسفلها
وطلب إليه أن يشترط ما يشاء، وبالفعل بعد عدة جولات من المراجعات اشترط الحسن
شروطاً محددة، وتم الاتفاق بين الرجلين على تخلي الحسن عن الخلافة حقناً للدماء
وإيثاراً لمصلحة الأمة.
كان الصلح بين علي ومعاوية يتم في مفاوضات سرية، أو قل إنها غير
معلنة، فيما كان الناس في العراق يستعدون ليوم الفصل لحرب معاوية وانتزاع الخلافة
منه، وعلى هذا بايعوه، وواعدهم ستة أشهر.
وآثر جانب الله على هوى أصحابه، وجعل يتصل بخصومه يدعوهم إلى مشروع
رشد وجماعة، وواعد الناس بمسجد الكوفة آخر ربيع الآخر، واجتمعت في مسجد الكوفة
الألوف المؤلفة غاضبة ثائرة، مشرعة السيوف، على جباههم عصائب الدم، وقد ادّهنت
بالقطران، حتى إذا صارت جماجم العرب بين يديه يحاربون من حارب ويسالمون من سالم،
فوجئ الناس حينئذ بإمامهم وزعيمهم عميد أهل البيت يدخل المسجد يداً بيد مع خصمه
معاوية، ومشى حتى قام على المنبر، وألقى كلمته الخالدة التي ينبغي أن تكون دستور
الوحدة الإسلامية الباقية، وها أنا أجمع أطرافها من روايات ابن عساكر والطبري.
قال في كلمته على منبر الكوفة: (يا أيها الناس.. إنما نحن أمراؤكم
ضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل فيهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيراً..) فكررها حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يخن بكاء.
ثم قال: (أيها الناس.. إن الله هداكم بأولنا.. ويحقن دماءكم بآخرنا.. وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور….).
لم يكن كثير من الناس يعلم ما أنجزه الإمام الحسن من شأن الصلح،
وكانوا يحسبون أنهم ذاهبون إلى جهاد طاحن، فيما كان الإمام الحسن قد انجز الصلح مع
معاوية ولم يبق إلا إعلانه في الناس.
وبعيون طافحة بالعزيمة واليقين قال الإمام الحسن بصوت حاسم:
(أيها الناس: إن هذا الأمر الذي
اختلفت فيه مع معاوية لا يخلو أن يكون حقاً له فأنا أدفعه إليه، أو حقاً لي فأنا
أنزل عنه إرادة صلاح المسلمين وحقن دمائهم!).
وضج الناس بما يسمعون ولم يكن غالبهم عارفاً بما تم من أمر
المصالحة، ولكن الإمام الحسن كان موقناً بما يصنع، والتفت إلى معاوية بنظرة قاسية
وقال:
(إن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن
أدري أقريب أم بعيد ما توعدون، إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري
لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).
ثم استغفر الله ونزل……
كان مشهداً عجباً، وكان معاوية عند المنبر حين نزل الإمام الحسن،
وصعد بعده المنبر وقال كلمات لم يحفظها أحد من الرواة، فقد كانت كلمات الحسن قد
اخذت عليهم كل مأخذ، ولم يعد في هم الناس إلا أن يعرفوا سبب إعراض الحسن عن
الخلافة والمجد على الرغم من بيعة الآلاف له على الموت.
وخلال مهرجان الصلح والسلم جاء شقي من الأشقياء وهمس في أذن الحسن:
يا مذل المسلمين!!
فالتفت إليه عميد أهل البيت، وقال له كلمته الخالدة: العار ولا
النار!!…
وسلم الحسن بن علي الكوفة لمعاوية ثم خرج صوب المدينة، وخرج في
ركبه أصحابه وإخوانه وأهل بيته في مشهد من الغم شديد، فقد ترك الرجل الخلافة، وبدا
معاوية منتصراً بما جرى، فيما بدا الحسن بسيطاً مغبوناً في نظر أصحابه، وحين
عاتبوه في ذلك قال لهم الإمام الحسن:
(كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوماً
لا يثق بهم أحد إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية
لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً، فليت شعري، لمن يصلحون بعدي
وهي أسرع البلاد خراباً).
وكان يقول بعد ذلك: (قد كانت جماجم العرب في يدي، يحاربون من
حاربت، ويسالمون من سالمت، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً تنضح
أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم أريق دمه؟).
ثم قال: (والله ما أحب أن تكون لي خلافة محمد وأن يراق من المسلمين
محجمة دم!!).
وقد عرف المسلمون فضل ذلك اليوم، وسموا ذلك العام كله عام الجماعة،
وعرفوا فضل الإمام الحسن، الذي لا بد أنه أقدم على ما أقدم عليه من غير جبن ولا
خور، ولا شك، ولا وهن، وقد علمت سائر الأمة أن الحسن خير عند الله من طلاع الأرض
من أخصامه، ولكنها رسالة الصلح التي بشره بها النبي الكريم، وها هو ينجز
بالدبلوماسية الحكيمة ما عجزت عنه الحروب الدامية، ويتمكن من توفير عشرين عاماً من
الأمن والسلام في العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب.
والسؤال المشروع اليوم لماذا لا تهتم الأمة بذكرى الحسن كما تهتم
بذكرى الحسين، ولمصلحة من نوقد أعنف ما في التاريخ من طبول الحرب، ونطفئ أرق ما في
التاريخ من شموع السلام، مع أن الرجلين سداة الأسرة النبوية وكوثرها.
الحسين نار والحسن نور،
ولطميات الحسين تصنع الحرب وكلمات الحسن تصنع الحب، نحتاج فداء الحسين وجراحه في
فلسطين، ولكننا نحتاج عقل الحسن وروحه وتسامحه في #دمشق و #حلب، وكان على الذين يلطمون للحسين أن يعرفوا جيداً
طريق #القدس و #حيفا و #يافا، وليس طريق #الكاستيلو و#الراموسة وإطلاق قذائف النار والموت على البائسين المستضعفين الذين لا
يعرفون من دينهم إلا المحبة لله ولرسوله وللحسن والحسين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق