2- الفهم الصحيح، والتصور السليم،
فريضة شرعية، وضرورة سياسية، وحاجة واقعية.
- لا يمكن لأي حركة أو جماعة تعمل
للإسلام، وتنجح في ذلك، إلا إذا تحقق شرط الفهم الصحيح، في مناهجها ومقرراتها، وكتبها
ومربيها، ونشراتها وأدبياتها، تنطلق منه، وتربي أتباعها عليه، ويكون محور دعوتها، حيث
تدعو الناس إليه، وصدق من قال: "قل لي كيف تفكر؛ أقل لك من أنت".
فالفهم الصحيح، هو مؤشر الخير الابتدائي،
لهذه الجماعة أو تلك، وهو عنوان على فضيلة هذه الجماعة أو تلك، هو المقدمة الآمنة،
التي تعطي نتائج السلامة، وهو مفتاح الخير، ودليل على الطريق السليم، ثم يأتي العمل
مصدقاً، وتكون المسيرة الإيجابية، ترجمة لهذه الأفكار، في واقع الحياة.
وبالمقابل، فإن الفهم المغلوط، والعقائد
الغالية (المتطرفة) أو الشاذة، والتصورات المشوشة، والأفكار الضبابية، التي تجنح نحو
الإفراط أو التفريط، حيث تحيط بهذه الجماعة أو تلك، يكون مؤشر خلل، وعنوان خطر، وبرهان
ضياع، على هؤلاء الذين ينتمون لهذه الأفكار التي تحمل في طياتها معالم الانحراف، والمرء
– مهما كان مخلصاً – إذا لم يحمل الفكرة النقية الصافية، التي تضعه على جادة الصواب،
فهو ماض في أزقة التيه الضيقة، التي كلما طالت ضاقت، حتى يصل صاحبها إلى طريق مسدود،
ثم تكون المراجعات، ولكن بعد خراب البصرة.
وما أوتي أحد من شيء، أكثر من أن يؤتى،
من جهة فهمه، فهو المدخل السيئ، الذي تلج منه، قوى الشر البشري، من خلال صناعة الأفكار
الفاسدة، ووضع برامج إشاعتها بين الناس، ومن هذه النافذة المرعبة، يعملون على خلط الأوراق،
ونشر الفوضى الفكرية، ويصبح الناس فوضى لا سراة لهم، مما يعكس سلوكيات، تتنافى بل تتعارض
مع قيم الإسلام وتعاليمه، وهنا تبرز ظاهرة الغلو (التطرف).
ومن يتابع هذا الأمر بدقة – قديماً
وحديثاً – يجد هذه الحقيقة ماثلة أمامه، تحكي قصة مأساة هذه الكارثة على الأمم والشعوب،
من هنا قال قائلهم: "إذا أردت أن تنتصر على عدوك، فغيِّر فكره؛ ينتحر به".
يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه
القيم "إعلام الموقعين" (1/ 87): "صحة الفهم، وحسن القصد، من أعظم نعم
الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام، ولا أجل منهما، بل
هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد
قصدهم، وطريق الضالين، الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم، الذين حسنت أفهامهم
وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، في كل صلاة، وصحة الفهم نور، يقذفه الله في قلب
العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشد".
ونبينا – صلى الله عليه وآله وصحبه
وسلم – أشار إلى هذا المعنى، لما وصف الخوارج، وكيف أنهم كانت مصيبتهم في جملة من الأشياء،
ومنها أنهم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"، وفعلاً كان ذلك كذلك، فبسبب
قراءاتهم المنحرفة، للنصوص، كان منهم تلك الفهوم الغالية (المتطرفة) حتى كفروا بكل
كبيرة، وكل معصية، ووقعت نتيجة هذه المغالطات العقدية، كوارث على الأمة، وجرت عليها
ويلات، وكلفتها كثيراً من الدماء الزكية، وشغلت الأمة، وفي ظرف عصيب، وفترة زمنية بالغة
التعقيد، فصرفت الجهود غير العادية، لمعالجة مثل هذه الخلل الذي كان نتيجة الفهم غير
الصحيح، والاستنباط غير المنضبط، كما بذلت أموال، وبددت الأوقات، كانت الأمة في أمس
الحاجة، إلى هذه الجهود والأموال، لبناء المشروع الإسلامي.
فكانت تجربة الخوارج من التجارب المريرة،
التي تؤكد أن اختلال الفهوم، وضياع بوصلة الفهم الصحيح، يكون كارثة على الأمة، ومن
أراد بحث العواقب والنتائج والآثار، التي تركتها حركة الخوارج، على الواقع الإسلامي،
والمستقبل الإسلامي، سيجد ما يذهل الألباب، ويحير العقول، ومنه نخرج إلى النتيجة التي
ندندن حولها، ألا وهي ضرورة الفهم الصحيح، وخطر غيابه، على الفرد والجماعة والأمة.
- وفي تلك الفترة، كانت فتنة ابن سبأ،
الذي استطاع أن يخترق الصف الإسلامي، ويتسلل إليه، ليفسد من الداخل - والتخريب من الداخل،
أشد خطراً من الحرب من الخارج - خصوصاً من هذا الصنف الذي تظاهر بالإسلام، واندس وسط
الصفوف، وراح يخرب يمنة ويسرة، ولا همَّ له سوى هذه المهمة، ولقد استطاع هذا الشقي
أن يدس السم بالعسل، ويشيع الأفكار الفاسدة، والعقائد الزائغة، والتصورات الشاذة، وكان
من نتاجها تلك التي ظهرت باسم "العلي إلهية"، وكذلك بعض انسحاباتها الرافضية،
ومن ذلك اليوم وإلى يومنا هذا نعاني، من تيار "السبئية" وسمومها ومكائدها.
- وفي سبب من أسباب الوضع في الحديث
النبوي (الكذب على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم)، كان الاتجاه نحو صناعة
مدروسة في الكذب على رسول الله، لنفس الغرض، الذي يقوم على خلط الفهوم، وترويج الخرافة،
ونشر الشرك، وبث المقولات التي أدت فيما أدت، إلى جدل طويل الذيل، في جملة من المسائل
العقدية والفكرية، وقد تولى كبر هذا الجانب في الوضع في الحديث النبوي، طائفة
"الزنادقة".
- ومن ذلك بروز الحركات الباطنية القرمطية،
وأثرها السيئ على أمة الإسلام، التي زعمت أن النصوص لها ظاهر وباطن، وصارت هذه النظرية
الفاسدة، مدخل سوء، للتحلل من تكاليف الشريعة، وتفسير النصوص تفسيراً باطنياً من ناحية
الاعتقاد، وبهذا شكلوا مستنقعاً عفناً، صبت فيه وثنيات وضلالات ومفاسد، نشتكي من ويلها
إلى يومنا هذا، حيث يتجلى موقف الباطنيين، بما يعرف بالقراءة الثانية للنص، ليحققوا
ذات الغرض الذي لأجله ابتدع هذا الاتجاه الخطير.
- وفي شعبة من شعب هذه المأساة، وفي
سبب من أسبابها، كان ظهور "الفرق"؛ وهو ما أدى إلى طوام وكوارث في الأمة،
سواء على مسار الفكر، أم مسار العقيدة، ومن يوم ظهورها، وإلى يومنا هذا نعاني من تلك
الفهوم المصائبية التي أتت على كثير من جهود الأمة، وشغلتنا في مربعات ما كان ينبغي
أن يشتغل علماء الأمة فيها، أما وقد ظهرت فلا يجوز للعلماء إلا أن يبينوا ويوضحوا،
ويصححوا المفاهيم، ويقودوا الأمة إلى كتاب الله تعالى وسُنة نبيه – صلى الله عليه وآله
وصحبه وأزواجه، وسلم تسليماً كثيراً – على فهم السلف الصالح لهما.. فكتب الإمام الأشعري
"مقالات الإسلاميين"، وسطر الإمام ابن حزم "الفصل في الملل والنحل"،
ولذات الهدف كان كتاب "الفرق بين الفرق" للإمام البغدادي، ومن أجل نفس الغاية
كتب الأئمة ابن تيمية والنووي وابن قدامة والشوكاني والشهرستاني وابن عابدين وابن الوزير،
وغيرهم من أعلام العلم والاجتهاد، ما كتبوا في هذا الشأن، حقاً إن مهمة تصحيح المفاهيم،
وجعل الأمة على جادة الصواب من أوجب الواجبات، ورب فكرة منحرفة، تهوي بجيل من الأمة،
إلى هاوية الدمار، والأمثلة في هذا كثيرة.
وهذا وغيره، هو الذي دفع العلماء،
إلى تقعيد القواعد، ووضع المناهج، وتأصيل الضوابط، فكانت علوم القرآن وشروط المفسر،
وكان أصول الفقه، ومن هو العالم، وما شروط المجتهد والاجتهاد، وكان علم مصطلح الحديث،
وعلم الرجال، وكان الحفاظ، وكان الشراح، وكانت تلك الثروة الفقهية المدهشة، والموسوعات
الرائقة، والدواوين الماتعة، في مجال الفقه المذهبي، والفقه المقارن، ولنفس الغرض،
كان ذلك الاهتمام منقطع النظير، في علوم اللغة العربية وفنونها المختلفة، وقل مثل ذلك
في جملة من العلوم والمعارف والضوابط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق