روى عبد الله بن عباس رضي
الله عنهما أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام عام ثمان عشرة
للهجرة، يريد الاطلاع على أحوال أهلها، وعمل أمرائها، حتى إذا كان بمنطقة تدعى
"سرغا" لقي أمراء الأجناد، وسرغُ هذه تقع قرب تبوك – وعلى رأسهم أبو
عبيدة بن الجراح، فأخبروه أن الطاعون وقع في الشام وكثر الموت في أهلها، وأنه قد
مات ممن دخلها من الجزيرة العربية فقط خمسة وعشرون ألفاً، فنرى أن تعود فلا
تدخلها، فقال عمر لعبد الله بن عباس: ادعُ لي المهاجرين الأولين من صلوا إلى القبلتين
أستشيرهم، فدعاهم وأخبرهم أن وباء الطاعون قد فشا في الشام أفيدخلها؟ فاختلفوا في
آرائهم.
فقال بعضهم: قد خرجت لأمر
عزمت عليه، ولا نرى أن ترجع عنه.
وقال بعضهم: معك بقية
الناس الكرام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى أن تقدم بهم على
هذا الوباء، فتفنى ويفنون معك.
قال: قد سمعت مقالتكم
ونصحكم، وسنسمع رأي غيركم، ونادى عبد الله بن عباس فأمره أن يدعوَ من كان من
الأنصار فجاءوه، فاستشارهم في دخوله بلاد الشام، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا
في الرأي اختلافهم، فأمرهم بالخروج من خيمته، واستدعى المهاجرين الذين أسلموا
وهاجروا إلى المدينة قبل الفتح ممن كانوا معه فاستشارهم، فأشاروا عليه جميعاً أن
يعود إلى المدينة، وأن لا يُقدِم بهم على هذا الوباء الذي سيحصدهم.
قال: هذا ما ارتاحت نفسي
إليه وعزمت عليه، ونادى مناديه في الناس: إنَّ أمير المؤمنين عزم على العودة إلى
المدينة، فجهزوا أنفسكم، اتخذ هذا القرار لأنه رأى أكثر الناس نصحوه بذلك.
لم يكن هذا الأمر ليعجِب
أميرَ الجند أبا عبيدة بن الجراح، فقال معاتباً خليفة المسلمين: أفراراً من قدر
الله يا أمير المؤمنين؟!
قال عمر رضي الله عنه: لو غيرك
قالها يا أبا عبيدة! فما ينبغي لي أن أخالف غالبية الناس وآراءهم، وكنت أود أن
تكون منهم، فهو الرأي الأرجح والقرار الأصوب، نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله،
ووضَّح له الأمر فضرب له مثلاً فقال: أرأيت يا أبا عبيدة لو كان لك إبل فهبطت
وادياً له جانبان: الأول خصب المرعى كثيره، والثاني ليس فيه إلا القليل من الكلأ،
أليس إن رعَتِ المرعى الخصيب رعته بقدر الله، وإن رعت المكان الجديب رعته بقدر
الله؟
هكذا كان اجتهاد أمير
المؤمنين، وقد أيّده الله سبحانه وتعالى بعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقد كان
متغيِّبا في بعض حاجته، فلما علم ما كانوا فيه يخوضون، قال: إن عندي من هذا علماً،
فقد سمعت رسول الله الله عليه وسلمصلى يقول: ((إذا سمعتم به – أي بالطاعون – بأرض فلا
تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه))، فحمد اللهَ تعالى
عُمرُ لما وفقه إليه وانصرف قافلاً.
رياض الصالحين
باب كراهة الخروج من بلد
وقع فيها بلاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق