الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2015-02-17

الجهاد.... ضد القبور – بقلم: د. محمد حبش

ومع أن المأساة الأكبر في سوريا هي معاناة الأحياء، ولكن المأساة تتطور وتكتمل فصولاً بانتهاك الموتى ونبش القبور وتفجير المساجد.
فبعد هدم مسجد النبي يونس في الموصل، وقبور الصحابة في الرقة يقوم (ثوار) بتفجير ضريح الإمام النووي في نوى بدرعا، في مشهد همجي لا يعبر إلا عن الجهل والتوحش على الرغم من أن أهل نوى حافظوا على وصية الشيخ المتواضع الذي أمر أن لا يبنى على القبر مسجد ولا مزار، وبقي القبر موصولاً مع السماء تظلله شجرة عجيبة على كل ورقة منها حكاية أنس وبركة يرويها لك أهل نوى بحماس ومحبة، ولا زلت أذكر السياسي الكبير هاشمي موزادي الذي حكم حزبه أكبر دولة اسلامية في العالم وهي أندنوسيا، وكانت أمنيته حين زرته في جاكرتا هي أن يزور الشام وأن يقف عند ضريح الإمام العظيم النووي الذي يلتزم ثلاثمائة مليون مسلم في أندنوسيا والملايو مذهبه الفقهي.

ولكن المشهد الأكثر إيلاماً كان إقدام (ثوار) آخرين على دخول مسجد الكلتاوية في حلب، والدخول إلى الدوحة الطاهرة التي يرقد فيها العارف بالله الشيخ محمد النبهان، وهي أكثر مكان يذكر فيه الله في حلب، ومن ثم العدوان على ضريحه ونبش القبر واستخراج جمجمة الشيخ ورفاته وعرضه على الناس في فيديو مصور في أبشع مظاهر الاستخفاف بالإنسان وازدراء الأديان.
وصار في أدبيات داعش والنصرة اليوم غزوات يفاخرون بها: غزوة النووي وغزوة النبي يونس وغزوة عمار بن ياسر وغزوة سكينة بنت الحسين، وكلها معارك جوفاء ضد التراث السوري وضد الإنسان السوري وضد قيم الروحانية والعرفان التي عاش السوريون في رحيقها المحتوم قروناً طويلة عامرة بالتسامح والمحبة.
وأعتقد أنها مسؤولية مقدسة أن يتم التوثيق بشكل دقيق كل الأضرحة التي تم تدميرها فهذه جزء من تاريخ سوريا وضميرها وسوف تسألنا عنها الأجيال.

لا أعتقد أننا هنا مطالبون بتقديم الأدلة على بشاعة هذا اللون من السلوك الهمجي الذي يشتمل على إهانة للناس واحتقار للإنسان وتدمير للتاريخ، ولا أعتقد أن في السوريين من يتعاطف مع أعمال همجية كهذه، ولكن السؤال الكبير يبقى قلقاً في كل ضمير: كيف يمكن أخلاقياً تفسير هذه الغزوات الهائجة؟
قد يكون لأبناء التنظيمات الجهادية أفكارهم ورؤاهم، وقد يرسمون استراتيجياتهم بعيداً عن أتباعهم، ولكن كيف تسنى لهذه التنظيمات المتطرفة أن تجد من السوريين من يقوم بتفجير هذه المراقد، واستخراج رؤوس الصالحين أمام الكاميرات والتعبير أمام الكاميرا بأننا ننفذ وصية رسول الله؟
الجواب التقليدي أنها مؤامرة صهيونية أمريكية بريطانية ماسونية فرنسية إسرائيلية للاعتداء على الصحابة والأنبياء والعلماء، إلى آخر الاتهامات الجاهزة.
ومع أنني لا أبرئ السياسات الغربية من سلوكيات غير أخلاقية، أو على الأقل في تغليب مصالح شعوبهم وبالتالي مصالحهم الانتخابية على مبادئهم الإنسانية، ولكنني لا أعتقد أن هذا التبرير يقنع أحداً، ولا بد من الحفر باتجاه فهم جذور المشكلة وظروفها.
وحتى ندرك الحقيقة فإن علينا أن نقترب أكثر من الخطاب الديني التقليدي الذي يتلقاه أبناؤنا في مدارسهم من روايات منسوبة للرسول الكريم وهي مقتطعة من سياقها الاجتماعي والتاريخي.
ومع أن سوريا تسود فيها روح صوفية تتقبل تعظيم الأولياء وبناء القباب والمساجد عليهم ومن حولهم، ولا تزال القبة الخضراء من القامشلي إلى القنيطرة وما بينهما معلماً رئيساً في كل قرية في سوريا، ويرقد تحتها عادة صحابي أو ولي، ويظل هذا الضريح مهوى قلوب أبناء المدينة واختصار ذكرياتهم وأمانيهم.
ولكن يجب الاعتراف أن المنهاج الذي ندرسه في مدارسنا الدينية ظل بعيداً تماماً عن هذه الروح الجميلة، وظلت مختارات الرواية التي يدرسها أبناؤنا أقرب إلى ثقافة العنف منها إلى ثقافة الإخاء.
وهذه على سبيل المثال نصوص درسناها ودرسناها لطلابنا في كلية الشريعة، ولا تزال تدرس إلى اليوم، ولم يقم المنهاج بواجب التنوير حين تدرس هذه النصوص على أنها من حاجات عصر معين وهي غير مطلوبة في عصر آخر، بل إنها تدرس تحت قاعدة: رواه الشيخان، وهو بذلك نص ديني صالح لكل زمان ومكان.
أخرج مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب قال: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته...
لقد كان بياناً واضحاً، ومن السهل أن تجد في أولئك الذين درسوا هذه الثقافة ودرسوها من يتطوع لتنفيذ ذلك دفاعا عن التوحيد، ولا زلت أذكر كطالب صغير مشاعري الغاضبة ضد كل تمثال تنحته يد فنان على أساس أنه قنطرة للعودة إلى الشرك، بل إنني أجزم لك أن الفتوى المعتمدة حتى هذه اللحظة في معاهدنا الدينية في سوريا هي تحريم كل أنواع التماثيل ووجوب هدمها، وعادة ما يستدلون بأن الصحابة الفاتحين لدمشق قطعوا رؤوس التماثيل جميعا كما نشاهده في المتحف الوطني واعتبار ذلك سلوكاً جيدا واتباعاً دقيقاً لوصية النبي الكريم.
 ومن المؤلم ان هذه الفتاوى لا تزال تصدر بصرامة وحزم عن المعاهد الدينية ضد كل تماثيل الفن ورموز الحضارة من علماء وفقهاء وفلاسفة ولكنها تروى عادة بألف تحفظ حتى لا يفهم منها أنها تعريض بتماثيل القائد أو بتماثيل الأحذية العسكرية التي صارت من معالم المقاومة في سوريا.
عموم الأمة لم تفهم من هذا الحديث ظاهره في هدم القبور بل تحولت إلى فهم دقيق لروح النص، وهو مقاومة الوثنية، التي كانت قريبة آنذاك من سلوك الناس وكان الموقف يقتضي بعض الشدة، ولكن كان على الفقه الإسلامي أن يقول بوضوح إن هذه النصوص ليست سرمدية ولا هي صالحة لكل زمان ومكان... وأنها وإن مضت في هدم جاهلية الصحراء قبل خمسة عشر قرنا فإنها لا يصح ان تكون منهج تعامل مع الأوابد الحضارية للأمم.
حين أعلنت طالبان نيتها هدم أهم معبد بوذي في باميان بافغانستان توجه وفد كبير من فقهاء الشريعة برئاسة الشيخ القرضاوي لإقناع طالبان بتغيير موقفهم، وذلك دفاعاً عن سمعة الإسلام وقيمه الحضارية، ولكن شيوخ طالبان واجهوهم مباشرة بما يحرجهم قائلين أليست هذه هي العقيدة التي درستمونا اياها في مدارسكم؟ وهل الدين إلا هدم الأوثان وكسر الاصنام واعلان التوحيد؟ ثم وضعوا أسفل المعبد والتماثيل طناً من الديناميت وأحالوه إلى ركام..
وفي حديث آخر: روى الشيخان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة  ذكرتا للنبي كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: قاتل الله اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، ثم قال: أولئك شرار الخلق عند الله.
والحديث بظاهره دعوة للحرب على اليهود والنصارى، فإذا كان الله قد قاتلهم فماذا ننتظر من المسلم عير ذلك، ودعوة لهدم كل قبر بني عليه مسجد، وهي نص بأن أولئك الذين يبنون المساجد على القبور شرار الخلق عند الله، ومن الطبيعي أن ننتظر ممن يؤمن بنصوص كهذه أن يكون في كتيبة غزوة النبهان أو كتيبة غزوة النووي.
لقد كانت مدارسنا حتى الصوفية منها تقرأ هذه الأحاديث وغيرها وترويها، ولا تجرؤ على مناقشة دلالاتها المناهضة لقيم الحضارة والتراث الإنساني، أو على اقتصارها على ظروف خاصة كانت سائدة قبل اربعة عشر قرناً، بل أصروا أنها وصايا سرمدية لا تقبل النقاش، وكان كثير من شيوخنا يتهامسون إن هذه الأضرحة مخالفة صريحة للنص النبوي، وأخشى أن نكون آثمين في ترك هذه المراقد، وكانت هذه الهمسات تلامس أفكار الشباب الحائر، وحين وقعت الكارثة وجدوا أنفسهم ينساقون وراء ما تمنوه من قبل وانخرطوا في سرايا الغزو الواهم.
متى سيملك خطابنا الديني شجاعة التحول من عبادة النص إلى احترام النص في سياقه الزماني والمكاني والاجتماعي، ومن الشعارات الجوفاء: صالح لكل زمان ومكان، إلى الشعار العاقل الحكيم: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، أنتم أعلم بأمور دنياكم، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، تلك أمة قد خلت لها ما كسبتم ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.



هناك تعليق واحد:

  1. المشكلة ان هذه النصوص الجوفاء هي ليست من كلام البشر بل وحي من كلام سيد البشر والذي من المفروض اتباعه في مقالك هذا لم تورد اي نص شرعي يرد على النصوص التي اتهمتها انها جوفاء وكل تبريرك هو انه يجب ان نفهم روح النص وان النصوص ليست صالحة لكل زمان ومكان مع ان هذا الكلام يؤدي بك لنقد اساس الدين من القران والسنة المعروفان عند المسلمين بالوحي لان الله الذي خلقنا ويعرف المستقبل والماضي والحاضر هو من امر بها ولهذا فهي صالحة لكل زمان ومكان هذا من حيث النص الشرعي ثم انك هاجمت ال(الثوار)ووضعت كلمة ثوار بين قوسين انتقاصا منهم مع انك تعرف تاريخك الطويل في نفاق وعبادة السلاطين من حافظ الى بشار ثم ذكرت النصرة بالاسم مع انك تعرف انه ما حدث في حلب حدث باسم الهيئة الشرعية مع وجود فصائل كثيرة ان ما تفعله من نبذ وطعن بالظهر بالمجاهدين هو ليس غريبا من منافق سابق العهد عندما خاف على نفسه تلون وتحول كلحرباء ليقول انه محايد او منعزل عن الفتنة في الاخر الرد المناسب هو اخسء فلن تعدو قدرك فلقد ابقى الله من يخزيك

    ردحذف