يحاول بعض
النَّاقدين ممَّن ينبري للدّفاع عن فكرة، أو قضيَّة ما أن يثبتَ صحَّة دعواه،
وقوَّة حجَّته، وكثرة براهينه ودلائله، وهي الطَّريقة المثلى في الإقناع المعتمدة
على التَّدبُّر المستند إلى الدَّليل، وليس كلامًا عامًّا إنشائيًّا، يفتقر إلى
أدنى مقوِّمات المحاججة والإقناع.
وفي غمرة هذا
كلِّه نجدُ بعضهم يعتمد على ما يظنُّه حجَّة ودليلاً على ما يذهب إليه، وقد يكون
حجَّة عليه، تدحض فكرته، وتقوِّضُ برهانه، وتهدمُ استدلاله، يقوده في ذلك
الاتِّباع والتَّقليد والسَّير على ما أَلْفَاه عند مَن سبقه، دون النَّظر في صحّة
استدلالهم، وصواب حجَّتهم.
من ذلك ما
قرأته لبعض النَّاقدين والمخالفين لما ذكره الدَّكتور «محمد حبش» على صفحته، ونقل
منها النَّاقد قوله: «هل يعقل أن يدخل هؤلاء المصلحون النَّار، كأمثال إبراهام
لنكولن، ومانديلا، ومارتن لوثر كنغ، وغاندي، وجيفارا؟ إنَّهم أشخاص قدَّموا
للبشريَّة أعمال قيَّمة، ولا يعقل أن يكافئهم الله بإدخالهم جهنَّم».
ولستُ بصدد
مناقشة الدَّكتور «محمد حبش» في مقالته هذه التي ينقلها عنه النَّاقد، وإنَّما
الغرض تفنيد بعض الأدلَّة التي اعتمدها النَّاقد في ردِّها، خاصَّة فيما ورد في
مقدَّمتها والتي حملت عنوان: «تحريف العقيدة: الجنَّة والنَّار» وجاء فيها: «الإسلام
جاء واضحًا كفلق الصُّبح، والقرآن كتاب الله، قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ
لَكِتَابٌ عَزِيزٌ«*» لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[ .صدق الله العظيم. والسُّنَّة المحمديَّة ما كان
صاحبها لينطق عن الهوى، قال تعالى: ]وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا[صدق الله العظيم».
إنَّ النَّاظر إلى ما ذكره النَّاقد في مقدِّمته هذه، والمتدبِّر في آيات
الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يعلم أنَّه قد
وقع في «التَّحريف» الذي يحاول أن يدافع عنه، لكنَّه تحريف من نوع آخر، لا علاقة
له بالعقيدة، وإنَّما أسميناه «تحريف التَّأويل»، وقد يكون النَّاقد بريئًا من
تعمُّده ذلك، وإنَّما جرى في ذلك على ما ألفى عليه السَّابقون، وما وقع لهم من
الوهم في فهم هذه الآيات، ويجوز أن نقول: إنَّه قد اتَّبع فهمهم هم لكتاب الله
وسُنَّة نبيِّه e، وليس بالضَّرورة أن يكون هذا الفهم صحيحًا؛
بل قد يكون مناقضًا تمامًا لما ينصُّ «القرآن الكريم» عليه.
والعذر له ولأمثاله أنَّهم رأوا فيما وصلهم الحقيقة المطلقة، والتي أصحبت
تضارع كتاب الله في قدسيِّتها، وصحَّتها، وأنَّه من الممتنع قبول دخول الشَّكّ
إليها، أو محاولة نقدها وتفنيدها، وإنَّ مجرَّد التَّفكير في إعادة النَّظر فيها
كفيل لأن يجعل صاحبها عرضة للطَّعن، والتَّكفير، وإخراجه من الملَّة، وهو ما
وجدناه عند من يحاول البحث في بعض الأحاديث الصَّحيحة التي وردت في «البخاريّ» و«مسلم»
والتي لا تتّفق مع القيم الإسلاميَّة التي نصَّ «القرآن الكريم» عليها، وإن أدَّت
إلى الاستهزاء أو الإساءة بالنَّبيّ e، أو الاستهانة بكلام الله سبحانه وتعالى،
ولا يتَّسع المقام لذكرها.
ولا شكَّ أنَّ من يذهب هذا المذهب في الفهم والاعتقاد يتجاهل عمدًا أنَّ «البخاريّ»،
و«مسلم» وغيرهما من المؤلِّفين هم أبناء بيئتهم الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة
والسِّياسيَّة، كما هو الحال في ظروفنا التَّاريخيَّة الحالية، ولو تكلَّف أحدهم
عناء قراءة شيء من كتب «التَّاريخ» التي دَوَّنت للمرحلة التَّاريخيَّة لأمثال
هؤلاء لعلم صحَّة ما نقول، ولعلم مثلا أنَّ «البخاريّ» رحمه الله قد كان متّبعا
لمذهب عصره الذي فرضه الخليفة العبَّاسيّ «المتوكِّل» ونكَّل بكلَّ المخالفين له،
وهو الخليفة الذي قتله حارسه الشَّخصيّ ليلة عزمه قتْلَ ولده، ولعلم أنَّ «البخاريّ»
قد قال «بخلق القرآن» خوفًا من بطش الخليفة الذي أمر بذلك، ونكَّل بكلِّ من رفض
القول بخلقه، ولسنا بصدد التَّوسُّع في ذلك.
فالنَّاقد في تقليده البعيد عن التَّدبُّر جعل
قوله تعالى: ]وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [النَّجم3،
دليلاً على أنَّ المراد منه «السُّنَّة المحمَّديَّة»، وهو بعيد عن الصَّواب،
ووهمْ وقع فيه كغيره، وإن قال به كثيرٌ من السَّابقين، إذ إنَّ المراد من هذه
الآية هو «القرآن الكريم»، كقوله تعالى: ]هَذَا
كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ}الجاثية29، لأنَّه لو ثبتَ أنَّ «السُّنَّة» وحي من عند الله، لكان اجتهاد
النَّبيّ e
صوابًا، وهو مخالف لما نصَّ عليه «القرآن الكريم»؛ إذ لا يعُقل أن يوحي ربُّ
العزَّة إليه شيئًا ثمَّ يعاتبه عليه كقوله تعالى: ]يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ
أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[التحريم1،
وقوله تعالى: ]عَفَا
اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ
وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[ التوبة43، وغيرها من الآيات.
ولا يظنُّ
النَّاقد وغيره أنَّنا نفسِّر ذلك من عند أنفسنا؛ كعادة الكثيرين في الاتِّهام
وسرعة الرَّد، فما ذكرناه هو قول «الطَّبريّ» في تفسيره حيث جاء: «وما ينطق محمَّد
بهذا القرآن عن هواه، إن هو إلا وحي يوحى، يقول: ما هذا القرآن إلا وحيٌ من الله
يوحيه إليه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التَّأويل»، وذكر منهم «قتادة».
ومن الوهم
الذي وقع فيه أيضًا استدلاله بقوله تعالى: ]مَّا
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }الحشر7، على
أنَّ المراد منها «السٌّنَّة المحمَّديَّة»، وهو أيضًا بعيد عن الصَّواب، ويخالف
النَّصَّ الذي وردت فيه، إذ إنَّ المراد منها «الفيء» أي: الغنيمة، ولا علاقة لها
بما فهمه النَّاقد، وما فهمه السَّابقون منها، إذ إنَّ المتتبِّع للآية نفسها يجد
ذلك صريحًا واضحًا، ولا ينبغي اجتزاء بعض الآية دون بعض، كما لا يجوز اجتزائهم
قوله تعالى: ]يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ[النساء43.
دون تتمَّتها، ونظيره عدم جواز الاجتزاء بقوله تعالى: ]فَوَيْلٌ
لِّلْمُصَلِّينَ[الماعون4، فالمعنى الصَّحيح في الآيتين مرهون بالحال التي
يكون عليهما المصلِّي، فالأولى ]وَأَنتُمْ
سُكَارَى[،
والثَّانية ]الَّذِينَ
هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ[ الماعون5.
فلو عاد
النَّاقد إلى الآية بتمامها لعلمَ صحَّة المراد، يقول تعالى فيها: ]مَّا
أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ[الحشر7،
وهو ما أشار إليه ثلَّة من المفسِّرين كـ«الطَّبريّ»، و«البغويّ»، و«الرَّازيّ»
وغيرهم. وفي ذلك يقول «الرَّازي» في «مفاتيحه»: «وما آتاكم الرسول فخذوه
وما نهاكم عنه فانتهوا» يعني ما أعطاكم الرَّسول من الفيء فخذوه فهو لكم حلال، وما
نهاكم عن أخذه فانتهوا «واتقوا الله» في أمر الفيء «إنَّ الله شديد العقاب » على
ما نهاكم عنه الرَّسول».
إضافة إلى أنَّ
اعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يفنِّد هذه المزاعم، ويبطلها، ويدحضُ هذا
الفهم وينقضه، ويبيِّن لنا بوضوح أنَّ المقصود منها «الفيء» و«الغنيمة» وما
يتعلَّق بها من صدقات وغيرها، حيث جاء قوله تعالى في موضع آخر: ]وَمِنْهُم
مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ
يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا
آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن
فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُون* إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ التّوبة60.
و«القرآن
الكريم» يفسِّر بعضه بعضًا، وبذلك يثبت أن لا وجه لمن جعل الآية عامَّة في كلِّ ما
جاء به رسول الله e،
وإنَّما هو من باب تحريف «القرآن» بالتَّأويل كما أشرنا غير مرَّة والله تعالى
أعلم.
د. محمد عناد سليمان
2 / 2 / 2015م
2 / 2 / 2015م
رائع دكتور و جزاك الله كل خير
ردحذفجزاك الله كل خير دكتور
ردحذف