ذات
نهار عربي من عام 1916 كان كوكبة من عشاق الحرية العرب يتأهبون لملاقاة الموت أمام
المشانق التي نصبها جمال باشا السّفاح في دمشق وبيروت بعد محاكمة صورية في سجن
عالية بلبنان، وبين هذه الكوكبة كان شاب في مقتبل العمر بهي الطلعة، باسم الوجه،
موفور الصحة، ينتظر دوره وهو ينظر بثقة وشموخ إلى جثث رفاقه التي تدلت في الفراغ
هامدة وعندما وصل إلى رأس الميدان ورأى المشنقة الفارغة قال مبتسماً: يظهر أن
مكاني هناك وأخذ يسير نحوها ولكنه عندما اقترب ورأى جثة (عبد الحميد الزهراوي)
أستاذه ورفيقه في النضال والعلم متدليةً من المشنقة الأولى غلب عليه الجد وحيّاها
صائحاً (مرحباً يا أبا الحرية). هذا الشاب هو الشاعر رفيق رزق سلّوم الذي كتب اسمه
بماء الذهب في سجلّ الكرامة والحرية والفداء وكان من أكثر رجالات الكفاح ضد
الاتحاديين مكانة وسمو منزلة ومثالية ورباطة جأش حتى وهو يقابل الموت وجهاً لوجه.
ويبدي
الكاتب التركي (فالح رفقي آتاي) مدير مكتب جمال باشا السفاح في كتابه (جبل
الزيتون) إعجابه بما أظهره رفيق رزق سلّوم من الشجاعة ورباطة الجأش قائلاً:
"كان رفيق مثالياً حقيقياً قابل الموت بوجه ضاحك ولا شك أن السير إلى الموت
دون حقد ودون أسى لهوَ من أصعب الأمور”. ويصف الجنرال (علي فؤاد أردن) وكان رئيساً
لأركان الجيش الرابع بقيادة جمال السفاح في مذكراته موقف رفيق رزق سلّوم أمام
الموت فيقول: "سار إلى المشنقة بخطوات ثابتة سريعة فما إن تلقاه المأمور الذي
تولى شنقه حتى رمى طربوشه على الأرض ولكن رفيقاً صاح به غاضباً: ردوا الطربوش. لا
يحقّ لكم أن ترموه على الأرض فأذعنوا لطلبه ووضعوه على رأسه ولم يلحظ آنئذٍ أن
الطربوش تلطخ بالتراب، ولو لا حظ لصاح بهم: نظفوا طربوشي من الغبار.
ولد
الشاعر رفيق رزق سلوم في مدينة حمص في يوم مشرق من أيام شهر آذار سنة 1891. وما إن
بلغ رفيق الخامسة من العمر حتى أدخله والده إحدى المدارس الابتدائية ينهل من معين
المعرفة ما تيسر من علم وثقافة رغم فقره المدقع، ولم يمضِ على تتلمذه وقت طويل حتى
اكتشف فيه معلّموه ذكاءً خارقاً ونباهة نادرة ووعياً متألقاً يستوعب الدروس بسهولة
بارعة فأحاطوه بالرعاية والاهتمام. وفي عام 1904 وكان في الثالثة عشرة من عمره
وبعد إنهائه مرحلة الدراسة الابتدائية أرسله أهله إلى (المدرسة الأكليريكية
الأرثوذكسية) في (البلمند) بلبنان حيث بقي أربع سنوات تلقى خلالها آداب اللغة
العربية وعلوم اللاهوت لكن "الرهبانية" على سمو رسالتها الروحية لم تتسع
لمواهبه وطموحه وأمانيه الكبرى لذلك انفصل عن "رهبانية" طائفة محدودة
الأهداف وانتظم في سلك "رهبانية" وطنية مترامية الأطراف هي “رهبانية“
الوطن العربي الكبير. في مطلع عام 1909 الدراسي التحق بالكلية الأمريكية في بيروت
فأتقن اللغة الإنكليزية. ووضع أول مؤلفاته وهو رواية "أمراض العصر
الجديد" وكان له من العمر 17 عاماً. وفي صيف العام 1909 عاد إلى حمص فعرّفه
أستاذه (خالد الحكيم) ب(عبد الحميد الزهراوي) ومنذ ذلك الحين أخذت القضية الوطنية
تشغل تفكيره وبناءً على مشورة الزهراوي سافر إلى الآستانة في نهاية الصيف لدراسة
الحقوق. وفي الآستانة انكب رفيق على الدراسة وراح في أوقات فراغه يدبج المقالات
وينشرها في (المقتطف) و(المهذب) و(المقتبس) و(المفيد) و(حمص) وفي مجلة (لسان
العرب) التي كان يصدرها المنتدى الأدبي بالإضافة إلى تحريره في جريدة (الحضارة)
لصاحبها عبد الحميد الزهرواي والتي كانت تصدر في اسطنبول باللغة العربية. وخلال
مدة إقامته هناك التي امتدت إلى عام 1914 ألّف كتابه الاقتصادي الفريد "حياة
البلاد في علم الاقتصاد" وكان أول كتاب بالعربية يتطرق إلى هذا العلم وكان قد
نشر منه بعض الفصول قبل طبعه كاملاً في جريدة "الحضارة". كما وضع كتاب
"حقوق الدول" الذي نشره على حلقات في جريدة (المهذب) التي كانت تصدر في
زحلة ويقع هذا الكتاب في حوالي أربع مائة صفحة ولكنه لم يُنشر وظلّ في حوزة أهله.
وكان لرفيق رزق سلوم منظومات شعرية رائعة نظم معظمها في الأغراض الوطنية ألقيت في
مناسبات قومية عربية كما أُولع بالموسيقى، فأتقن العزف على القانون والعود
والكمنجة وكان يحث أترابه على تعلم هذا الفن الجميل. في عام 1914 أي قبيل اندلاع
نيران الحرب الكونية اجتاز رزق المرحلة النهائية من دراسة الحقوق متفوقاً على خمسمئة
طالب وفي مراحل دراسته ما بين حمص وبيروت واسطنبول توفرت له معرفة اللغات التالية:
الروسية، واليونانية، والإنكليزية، والفرنسية، ناهيك عن اللغتين العربية والتركية
اللتين ألفّ فيهما وخطب.
في
اسطنبول تسلم رفيق رزق سلوم منصب نائب رئيس (المنتدى الأدبي) الذي تأسس عام 1909
وضم مجموعة من النواب والمفكرين والطلاب العرب ليكون مكاناً يلتقي فيه الزوار
العرب والعرب المقيمون في اسطنبول وكان يرمي إلى ائتلاف العرب وحماية حقوقهم
والمطالبة باستقلالهم، وكان النادي يقوم بأداء تمثيليات عربية ومنها رواية
(السموأل) وكان رفيق أحد أبطالها حيث ألقى في حفل تقديمها خطاباً بحضور بعض
المسؤولين الأتراك بدأه ببيتين شعريين من نظمه قال فيهما:
قبّلتُ
حدّ السيف قبلة عاشق
وهتفت
يا سلمى افرحي وتهللّي
إن
كان في موتي حياة تُرتجى
للعُربِ
أَقبل يا حمام وعجّلِ
وبالتزامن
مع (المنتدى الأدبي) تأسست (الجمعية القحطانية) التي كانت جمعية سرّية ليس لها أي
مظهر علني وكان لديها مشروع محدد لإنشاء مملكة عربية تركية مزدوجة فيكون للمناطق
العربية برلمان وحكومة محلية يقابله تنظيم مماثل للمناطق التركية وهو تنظيم يشبه
إلى حد بعيد تنظيم الدولة النمسوية- المجرية الشهيرة التي كان يحكمها في فيينا
إمبراطور من عائلة هابسبورج أما رئيس هذه الجمعية فكان (عزيز المصري) الضابط آنذاك
في الجيش العثماني وقد انتقي أعضاء هذه الجمعية بعناية فائقة من الرجال العرب
المعروفين بإخلاصهم الشديد وبحكمتهم وشجاعتهم وكان من بين هؤلاء سليم الجزائري من
دمشق والأميران شكيب أرسلان وعادل أرسلان من لبنان وخليل حمادة من لبنان وعلي
النشاشيبي من القدس وشكري العسلي من دمشق (والد الأستاذ صبري العسلي) وكان من بين
هؤلاء المؤسسين ضباط في الجيش العثماني واثنان من مؤسسي (المنتدى الأدبي) أحدهما
رفيق رزق سلوم.
في
عام 1914 استعرت نيران الحرب العالمية الأولى وخاضتها الدولة العثمانية عام 1915
فانتهزها جماعة الاتحاد والترقي فرصة لتوسيع حكم الإرهاب في البلاد العربية وكان
جمال باشا السفاح أحد الاتحاديين الذين وقع عليهم الاختيار ليكون والياً على الشام
وقائداً للقوات العثمانية في البلاد العربية، وكان معروفاً بكرهه الشديد للعرب
فألف الديوان العرفي في "عالية" وحاكم بواسطته عدداً من القادة العرب
محاكمة شكلية، وقضى بإعدامهم وكان من بين هؤلاء القادة الشاعر رفيق رزق سلوم الذي
وُشي به للسلطات التركية، فألقي القبض عليه في بيت ابن عمّه أنيس سلوم في دمشق في
27 أيلول عام 1915 وسيق إلى "عاليه" ليلقى الموت في ساحة البرج ببيروت
مع مجموعة من زملائه المناضلين العرب بعد أن عانى الأهوال الشديدة على يد سجانيه
الأتراك في سجن عاليه كما قال في الرسالة التي كتبها إلى أهله قبل إعدامه بشهر أي
في 5 نيسان 1916 وفي هذه الرسالة شرح سلوم لأهله كيف أُلقي القبض عليه وما قاساه
في سجن عاليه ولحظات انتظاره للإعدام وفي هذه الرسالة أيضاً يطلب من أهله أن لا
يحزنوا لموته لأنه يكره الحزن والحزانى -كما يقول - ويضيف "ثقوا بأن روحي
ترفرف دائماً فوقكم فأرى كل حركة من حركاتكم ولا ترونني فإذا حزنتم أهرب من عندكم
وإياكم أن تغيروا ثيابكم أو عادةً من عاداتكم ويوصي أهله في ختام الرسالة أن
يكتبوا على شاهدة قبره الأبيات التالية"
وإن
الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن
أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق