أما أخلاق الخوارج فقد صورها أبلغ
تصوير أبو حمزة الشاري في خطبته التي ألقاها من على منبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المدينة عندما عيره أهل الحجاز بصغر سن أصحابه فقال:
(شباب والله مكتهلون في شبابهم،
غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، انضاء عبادة وأطلاح سهر، فنظر الله
إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم يآية من ذكر
النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار،
قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وانوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله، حتى إذا
رأوا السهام ق فوقت والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت، ورعدت الكتيبة بصواعق
الموت وبرقت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت
رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت
إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طير طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف
الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود،
ثم قال أوه أوه أوه، ثم بكى، ثم نزل).
لابد حتى تكتمل الصورة البلاغية
التي صورها فيها أبا حمزة فتيانه وأخلاقهم من قطعة شعرية تصور هذه القيم، وما تفرد
به الخوارج من نزعة إيمانية متطرفة، في وصف أشخاصهم وأحوالهم وأمانيهم وآمالهم حيث
يقول شاعرهم عمرو بن الحصين العنبري:
أوفي
بذمتهم إذا عقـــدوا … وأعف عند العسر واليسر
متأهبون
لكل صالحــــة … ناهون من لاقوا عن النكر
صمت
إذا احتضروا مجالسهم … وزن لقول خطيبهم وقـر
إلا
تجيئهم فإنهــــــم … رجف القلوب بحضرة الذكر
متأوهون
كأن جمر غضــا … للموت بين ضلوعهم يسري
تلقاهم
إلا كأنهـــــم … لخضوعهم صدروا عن الحشر
فهم
كأن بهم جوى مـرض … أو مسهم طرف من السحر
لا
ليلهم ليل فيلبسهــــم … فيه غواشي النوم بالسكـر
إلا
كذا خلسا وآونــــة … حذر العقاب فهم على ذعر
كم
من أخ لك قد فجعت به … قوام ليلته إلى الفجــــر
متأوه
يتلو قوارع مـــن … آي الكتاب مفزع الصــدر
نصب
تهيج بنات مهجتـه … بالموت جيش مشاشة القـدر
ظمآن
وقدة كل هاجــرة … تراك لذته على قـــــدر
تراك
ما تهوى النفـوس إذا … رغب النفوس دعت إلى النـذر
ومبرأ
من كل سيــــئة … عف الهوى ذو مرة شـــزر
والمصطلي
بالحرب يسعرها … بغارها وبفتية سعـــر
يجتاحها
بأفل ذي شطب … عضب المضارب قاطع البتر
لاشيء
يلقاه أسر لــه … من طعنة في ثغره النحــر
أعلن الخوارج ثورتهم بعد رفضهم
للتحكيم، وقاوموا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وبعد مقتله تولى معاوية بن أبي
سفيان أمرة المسلمين، فوضع ولاة أشداء على العراق - موطن ثورات الخوارج - أمثال
المغيرة بن شعبة، حيث بلغ الذين في محبسه الآلاف من الخوارج، وقد تنادى الناس
برحيل الخوارج عن البصرة من كثرة ما لاقى أهلها على يد المغيرة من بطش بسببهم،
وهذا معاذ بن جوين بن حصين يطلب منهم الرحيل من خلال قصيدته التي قال فيها:
ألا
أيها الشارون قد حان لامرئ … شرى نفسه لله أن يترحــلا
أقمتم
بدار الخاطئين جهالــة … وكل امرئ منكم يصاد ليقتلا
فشدوا
على القوم العداة فإنمـا … أقامتكم للذبح رأيا مضـلـلا
وهذا زياد بن أبيه يعلو المنبر -
عندما ولاه معاوية- في جامع البصرة معلنا الحرب على كل من تحدثه نفسه بالخروج على
حكم معاوية، ومما جاء في خطبته الطويلة قوله:
(حرم علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما
وإحراقا، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف،
وشدة في غير جبرية وعنف، وإني اقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن،
والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد
فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم).
بهذا الأسلوب العنيف، المشحون
بالتهديد والوعيد، بدأ ابن زياد حكمه للعراق، وكان أول من فرض منع التجول في الليل
فقال: (إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه).
فقام أبو بلال - مرداس بن أدية -
قائلا: أنبأنا الله بغير ما قلت، قال الله عز وجل: (وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر
وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ، فأوعدنا الله خيرا مما واعدت يا
زياد).
ومما يحزن أن الخوارج سلكوا نفس
طريق العنف والقسوة والقتل مع مخالفيهم. فهذا أبو بلال يثور بعد قتل أخيه عروة بن
أدية، وتكون ثورته سيفا وكلمة، ومن شعره في مهاجمة جور الولاة قوله:
وقد
أظهر الجور الولاة وأجمعوا … على ظلم أهل الحق بالغدر والكفر
وفيك
إلهي إن أردت مغيــر … لكل الذي يأتي إلينا بنو صخــر
فقد
ضيقوا الدنيا علينا برحبهـا… وقد تركونا لا نقر من الدهــر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق