سورة الأنعام
[ الآية 33
]
( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ).
يجلس النبي صلى الله
عليه وسلم في زاوية من زوايا المسجد الحرام بمكة مغموماً حزيناً مهموماً،
ينظر إلى الكعبة المشرفة، ويخاطب ربه.. أنت تعلم يا رب أني ما آليت جهداً في دعوة
القوم إلى توحيدك وعبادتك، وبذلت غاية وسعي أُذكِّرهم بخالقهم، وأُعرِّفهم بآياته،
أنذرهم عقابه، وأرغِّبهم في ثوابه.. ولكنهم ينظرون إليَّ مغضبين، تطير من أعينهم الشرر،
وتنبعث من قلوبهم موجاتُ الكره والغضب، يسمعونني قارص الكلام، ويصمونني بالكذب
تارة..والجنون أخرى.. والسحر ثالثة.. وقد كانوا يدعونني الصادقَ الأمين.. الصادقَ
في كل ما أحدثهم، الأمينَ فيما يودعونه عندي من الودائع التي لا يأمنون أن يودعوها
أبناءهم وآباءهم وأمهاتِهم وإخوانَهم.. إنَّ كثيراً ممن يكذبونني ويتقوَّلون عليَّ
الأقاويل لهم عندي أمانات لا يطمئنون إلى تركها في بيوتهم..
كانت
نفس الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه، هذه النفس الشفَّافة التي تتحمل الجبال
في قوتها الرقيقة، التي تستعذب العذاب في إيصال دعوة الله إلى قريش وجيرانها،
الصافية التي تستقبل شوائب أذى الكافرين بإيمان قوي وعزيمةٍ لا تتضعضع، تتأثر من
انصراف قريش ذوي القلوب القاسية عن تقبل هذا الدين العظيم، وترمي صاحبه بأسوأ
الصفات.. وهم يعرفونه مثال الرجل الكامل، والإنسان القدوة.
أليس
هذا مما يثير الآلام والأحزان؟!! ويجعل الهموم تجثم على القلب الشريف جثوم الجبال
الرواسي..
وهنا
يُرطِّب الَّلهُ تعالى خاطر رسوله، وتمرُّ يد الرحمة والعناية على قلبه الشريف،
وتمسح عنه همومه وتغسل عنه أساه.. إنهم يا رسول الله يعرفونك صادقاً أميناً كريماً
طيباً لطيفاً.. ما شكُّوا يوماً أنك كذلك.. ولكنه الركونُ إلى الأرض والالتصاقُ بأوحالها..
إنك تدعوهم إلى الاعتقاد الصحيح، والطُهْرِ من أدران الجاهلية، وقد تعوَّدوا التيهَ
في الضلال والغي، والسقوط في أوحال
الوثنية،
لا يريدون الخروج من الظلام الذي ألِفُوهُ إلى النورِ الساطع، وهل يرى الأعشى بهاء
النهار وجمالَ الكون فيه..؟!!
إنهم لا يكذبونك يا رسول الله، لكن سادتهم
وكبراءهم تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة ولا تشك- أبداً- في صدق رسالتك، وأن هذا
القرآن ليس من كلام البشر ولا يملك البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن.. هذه الطبقة-
على الرغم من ذلك- يرفضون إظهار التصديق بك ، وبدعوتك، ويرفضون اتِّباعَ هذا الدين
الجليل والدخولَ فيه!!! إنهم لم يرفضوا لأنك كاذب- حاشاك يا رسول الله- لكنْ لأنَّ
في دعوتك خطراً على مكانتهم وخطراً على نفوذهم، وخطراً على مكاسبهم.. من أجل ذلك
صدّوا عن الإسلام وقرَّروا الجحود بآيات الله والبقاء على كفرهم، وعنادهم، وشركهم.
والأخبارُ
التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا، وحقيقة ظنِّهم بهذا القرآن كثيرةٌ.
روى
ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري:
أنه
حُدِّثَ أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب
الثقفي، حليفَ بني زهرة. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ
كلّ رجلٍ منهم مجلسا يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له،
حتى إذا طلع الصبح تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا،
فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية
عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم
الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة
الثالثة، أخذ كل رجل منهم فجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم
الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم
تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس بن شُريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في
بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة،
والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا
ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل،
فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟..
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا،
حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرَسَي رهان، قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من
السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه.. فقام عنه الأخنس
وتركه..
وروى
ابن جرير- من طريق أسباط عن السدي- في قوله : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي
يَقُولُونَ) الآية(1).
لمَّا كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني
زهرة: يا بني زهرة إنَّ محمداً ابنُ اختكم، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن اخته، فان
كان نبياً لَمْ تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كفَّ عن ابن أخته، قفوا
حتى أَلقى أبا الحكم، فإن غَلَبَ محمدٌ رجعتم سالمين، وإن غُلِبَ محمد فإن قومكم
لن يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سُمِّي الأخنس وكان اسمه أُبيَّاً، فالتقى الأخنس
بابي جهل، فخلا به، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فليس
هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا.. فقال أبو جهل: ويحك ! والله إن محمداً لصادق،
وما كذب محمدٌ قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنبوة،
فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله : (
فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ )
وبغض النظر عن أن الآية مكية، وحادثة الأخنس مدنية
في بدر، فقد قُرِن النص بالحادثة ليس بسبب
النزول ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث، وقصةُ عتبةَ بنِ ربيعة الذي عرض على
قومه- وكان سيداً فيهم- أن يكلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويعرض عليه أموراً، لعله يقبل بعضها، فيعطونه إياها، فيكُفَّ عن
دعوته، وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: نَعمْ أبا
الوليد، قم إليه فكلمه.. فقام إليه فعرض عليه الزعامة، والمال وأجمل النساء و..
فلما
انتهى من عرضه قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أول سورة حم فصّلت.. فأنصت إليه عتبة مأخوذاً، فقام عتبة إلى قريش بوجه غير
الذي ذهب به فلما سألوه قال:
سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما
هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي.. خلوا
بين الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ، فإن تصبه العرب
كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكله ملككـم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد
الناس به.. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما
بدالكم..
وقيل
في الحادثة أنه لمَّا سمع قول الله تعالى : (فَإِنْ
أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (1) أمسك عتبة على فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرَّحم أن يسكت، ورجع إلى
أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم.. إلى آخره. ولما حدثوه في هذا قال: أمسكت
بفيه، وناشدته الرَّحِمَ أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب،
فخشيت أن ينزل بكم العذاب..
إنهم
يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبو جهل
يؤكد في الرواية الأسبق، أن رسول الله صادق، ويعلل كفره.. وهذا عتبة يعرف صدق رسول
الله، فأسكته ناشداً إياه الرَّحم..
وفي
قصة الوليد بن المغيرة الذي نزلت فيه أوائل سورة المدثر: ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (1) إذ ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، وعرض عليه، فقال يصف الرسول
صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم :
لا والله ما هو بكاهن: لقد رأينا الكهان فما
هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
وما هو بشاعر: ولقد عرفنا الشعر كله. رجزه
وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه. وما هو بساحر: لقد رأينا السُّحَار وسحرهم، فما هو بنفثهم،
ولا عقدهم. والله إنَّ لقوله لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر وإنَّ
أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلَّا عرف
أنه باطل. وإن أقرب القول أن تقولوا: هو ساحر.. جاء بقولٍ هو سحرٌ،. يفرق به بين
المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته..
فهؤلاء لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما
يرفضون تحكيم شريعة الله، والعمل بها لأنها تسلب سلطانهم، وتذيب طغيانهم.. فقد
كانوا يجحدون آياتِ الله، وهم يعرفون اللغة جيداً، هُم أهلها، لأنها تجعل الحاكمية
لله تعالى، فليس لهم من أسباب الزعامة- بعد ذلك- شيء.
وما كذَّبوا
الرسل قبله- صلوات الله عليهم جميعاً- على مرِّ العصور وكرِّ الدهور إلَّا لأنهم
لايتخلَّوْن عن سلطانهم الكاذب الذي اغتصبوه.
فاطمئن بالاً يا رسول الله ، وثابر على
الدعوة إلى الله إنْ عليك الَّا البلاغ المبين..
وكِّلْ أمرهم إلى الله، فإليه عما قليل
يصيرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق