وردت إشارات ومعلومات في عدد من الكتب والدراسات والأبحاث
عن وجود “مجلس علوي أعلى” له دور أو يدير شؤون الحكم في سوريا. إلا أنها لم تصل
يوما حدّ أن تكون موثقة علميا بشكل يتيح دراستها أو تشكيل نقطة انطلاق صلبة للبحث
فيها، لضبابية المصادر التي يمكن الوثوق بها، إذ ينتهي الأمر عند “مصدر موثوق” دون معرفة ماهيته،
الأمر الذي جعل الحديث عن طائفية النظام السوري من عدمها أمرا سجاليا ومختلفا حوله
مذ تشكّل النظام السوري وحتى اللحظة.
إلا أن حديث الملحق
العسكري الروسي الفريق “فلاديمير فيودوروف” لقناة روسيا اليوم ضمن برنامج “رحلة إلى
الذاكرة” عن وجود مجلس علوي في سوريا، يأتي ليضعنا أمام مصدر معلوم، ما يجعلنا
أمام إعادة قراءة لكل ما نعرفه في هذا السياق لامتحانه مجددا، ولنعيد على ضوئه
قراءة “طائفية النظام”، وما إذا كان يشكل نوعا من “علوية سياسية”، وعن موقع الطائفة ودورها في كل هذا، خاصة
أن الملحق يقول بلغة يبتعد عنها الشك: ” كنا ندرك أن مسألة السلطة لا تقرّر
تقليديا، وأنها لا تناقش وحسب في المجلس العلوي الأعلى في الساحل
السوري بل وأن حافظ الأسد بهذا الشكل أو ذاك يصغي لرأيه”. وحين يسأله المذيع:
“من أين عرفت بوجود هكذا مجلس في سوريا؟ يجيب: “ماذا تقصد بمن أخبرني؟ فهل هذا سر
أساسا؟ كنا نعلم وحسب، كما نعلم بوجود هذا المجلس كعلمنا بوجود مجلس الشعب الذي
يناقش مختلف المسائل…لا شك في أن حافظ الأسد كان يصغي إلى رأي هذا المجلس. وكان
ذلك حتى عندما بدأ يفكر في نقل السلطة إلى ابنه كما في حالة التوريث.
كان يود كما تعرف نقل السلطة إلى ابنه باسل، وبالطبع
توجه عندها بهذه المسألة إلى المجلس”.
قبل هذا الكلام الصريح للملحق العسكري، ظهرت إشارات
عبّرت عن الموضوع بشكل غير واضح، إلا أنها كافية للإشارة إلى وجود نوع من “حالة
علوية” في قمة هرم السلطة، إذ يقول “نيكولاس فاندام” في كتابه “الصراع على السلطة
في سوريا:
“بيد أنه لا
بد من ملاحظة أن أسلوب بشار كشخصية قيادية كان موضع انتقاد وتساؤل من قِبل البعض،
ومن بينهم اللواء العلوي علي حيدر الذي اعُتقِل هو وآخرون لفترة ما في صيف 1994
لهذا السبب وبشكل مؤقت. يقال إن أحد الأسباب الأخرى لاعتقاله هو على ما يبدو
انتهاكه الواضح لمحظور الطائفية: ففي أثناء أحد اجتماعات كبار الضباط مع العماد
حكمت الشهابي، رئيس الأركان الذي كان يهم بمناقشة إمكانية تحقيق سيناريو للأمن
الإقليمي عقب اتفاقية سلام مع إسرائيل، اعترض حيدر قائلا “نحن مؤسسي النظام (أي العلويين) لا نبغي فقط مناقشة خطط طوارئ
بل نريد أن يكون لنا رأى في عملية السلام ذاتها“، الأمر الذي يوّضح لنا أمرين: أن بعض أركان
النظام كانوا يعرّفون أنفسهم بأنهم علويون مؤسسون للنظام، وأن السلطة في رد فعلها
على كلام حيدر، تريد للأمر أن يبقى سريا وغير معلن، فهو جزء من أدواتها السرية،
ضمن سياسة “احتكار
الطائفية” التي اعتمدتها طيلة عقود، ولا تزال حيث تحافظ البنية السياسية الظاهرة
للنظام على خطاب “وطني” بعيد ورافض للطائفية، بل ومحذر منها على طريقة من يريدها
ضمنا (حديث بثينة شعبان)، في حين تقوم البنية الأمنية العميقة بضرب الطوائف
والعشائر والمجتمع ببعضه البعض، في سياسة يعمل فيها الظاهر السياسي للنظام على
التغطية على باطنه الأمني، وهو ما عبّر عنه “فاندام” حين قال: “ورغم أن جميع
الضباط الحاضرين (والكثير منهم علويون) كانوا يدركون تمامًا الدور الخطير الذي
يلعبه العلويون داخل النظام، إلا أنه كان من المحظور التحدث في الأمر علانية أو
حتى بطريقة غير مباشرة”.
لحظة تأسيسية:
إذن، نحن الآن أمام معلومة ذات مصدر معروف تقول بوجود
“مجلس علوي” له دور واسع في إدارة البلد، دون أن نعرف متى تشكل؟ ومن يديره؟ وكيف
يحكم؟ وما علاقة الطائفة به؟ وما دوره في الطائفة؟ وما هي الآليات التي استخدمها
لإخضاع الطائفة له قبل أن يلحقها به حدّ التماهي؟ وما موقع رجال الدين العلويين
فيه؟ وما علاقته مع الدولة الظاهرة؟ وإلى أي حد يؤخذ برأيه؟ وهل يدير الدولة
العميقة كليا أم أنه مجرد جهاز من أجهزتها السرية؟
لا يملك المرء الكثير من المعلومات التي تسعفه على
الإجابة على كل ما سبق، ولكن إعادة ترتيب وقراءة المعلومات المعروفة أو المتوفرة
على ضوء ما كشفه الملحق العسكري، قد يكون مفيدا لمقاربة الإجابة عن طبيعة النظام
المستبد لجهة علاقته بالطائفية (من حيث هي صناعة سياسية) من جهة، وبالطائفة
العلوية ( من حيث هي جماعة بشرية أثرّت وتأثرت بمحيطها) من جهة أخرى.
بعد سبع سنوات تقريبا من وصول الأسد الأب إلى السلطة
كانت الإجراءات ( جبهة وطنية تقدمية، انفتاح اقتصادي نسبي، حرب اكتوبر73…) التي
استخدمها لحظة وصوله لتعزيز شرعيته قد استنفذت، وكفّت عن التغطية على الإجراءات
القرابية والطائفية والإقليمية التي استخدمت للإمساك بالسلطة والحزب إلى جانب
الإجراءات الإيديولوجية ( قومية عربية، فلسطين و تحرير الجولان..) ما دفعه للبحث
عن قوى تعزّز قوته لتكون معوّضا عن تآكل الشرعية، فكان التدخل في لبنان (1976)
وتعزيز التعاون مع إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية (1979) وتوسيع قبضة القمع من خلال الأمن، وبناء جيوش داخل
الجيوش “سرايا الدفاع- القوات الخاصة – الحرس الجمهوري” التي اعتمدت على تضخّم
المكوّن العلوي في صفوفها، ليعزّز بعضها بخطاب وممارسات طائفية قامت بها سرايا
الدفاع بقيادة “رفعت الأسد”
الذي وجد (ومن خلفه السلطة) في خطاب “الطليعة المقاتلة” المنشقة عن الإخوان ذي البعد الطائفي الصريح ( إسقاط
النظام العلوي النصيري..)، متكأ يساعده على مد يده بشكل واسع نحو الطائفة التي
انحدر منها، لتبدأ عمليات التطوّع في الجيش والأمن بهدف الدفاع عن النظام باعتباره
“يحميها”، وبدفع من السلطة التي اتجهت للاعتماد طائفيا وبشكل صريح على قواعدها
التقليدية، حيث تنقل “آني ولورانت شابري” في كتابهما “سياسة وأقليّات في الشرق
الأدنى، الأسباب المؤدّية للانفجار”( القاهرة، مدبولي 1991، ص 249-250) أنه “في آب/أغسطس 1980، اختار
حافظ الأسد الاحتفالَ برمضان في القرداحة، مسقطِ رأسه، بدلًا من جامع بني أميّة
الكبير في دمشق كما كان يجري التقليدُ. وجمع إليه، بهذه المناسبة، أهمَّ زعماء
الطائفة العلويّة الدينيّين، وأوصاهم برصِّ الصفوف لمواجهة الأزمة، حاضًّا إيّاهم
على تحديث العدّة الدينيّة لإحكام قبضتها على الطائفة، وتثبيتِ دعائم الروابط
المنحلّة، على مستوى السرائر على الأقلّ، التي تربط بالأرومة الشيعيّة المشتركة
التي خرجتْ منها تاريخيًّا.”، ليترافق الأمر مع حملة قمع طالت المعارضة في كل
سوريا، ومنها منطقة الساحل التي جفّفت من كل صورت معارض ( حزب العمل، البعث
الديمقراطي، المكتب السياسي..)، بالتوازي مع إقصاء كل رجال الدين الذين يشك
بولائهم عن دائرة الفعل والتأثير في مجتمعاتهم. وهي سياسة اتبعت في كل سوريا
عموما، مع تحوّل السلطة إلى “رب عمل” وحيد في مناطق مفقرة و فلاحية، ليتم نزع كل
عناصر قوة المجتمع وإلحاقها بالسلطة، الأمر الذي يجعل المرء يتوّقع أن نهاية
السبعينات وبداية الثمانيات قد تكون الفترة التي ولد بها هكذا مجلس، ليبدأ من
بعدها تراجع دور الحزب لصالح الأمن، والإيديولوجيا لصالح توّسع استخدام العصبيات
الطائفية والقبلية والدينية بشكل ممنهج بهدف إخضاع الجميع، مانعا بذلك تشكل
الوطنية السورية التي تقوم على الضد من الانتماءات الفرعية والثانوية، لكي لا يفقد
ورقة تعينه على ضبط الداخل.
هل للطائفة علاقة بالسلطة/المجلس؟
ولكن يبقى السؤال هنا عن علاقة الطائفة كفئة اجتماعية
بهذا المجلس المنسوب لها (اسما على الأقل)، يثير أسئلة كثيرة عن الدور المباشر لها
من عدمه فيما حصل، بما يعني طرح سؤال وبشكل واضح ومباشر: هل كان لها دور مباشر في
ذلك؟
بعد أزمة الثمانيات أدرك النظام مدى قوة وحضور الدين في
المجتمع، فعمل على تحويله “أفيونا للشعوب”، مفككا أسس القوى الدينية والطائفية
والمذهبية والإثنية ( الأوقاف، الكنائس، جامع النور، الجامع الأموي..، فرق الإنشاد
الديني)، بالتوازي مع تفكيكه الأحزاب والنقابات، معيدا تشكيلها وإلحاقها به،
مقدّما إلى الواجهة من قبل بلعبة السلطة، ومقصيا من رفض، مقابل حضور أمني مكثف في
الجوامع والكنائس ودور العبادة وكل مكان، ليصبح الناس محاصرون من سلطة أمنية
موجودة في حياتهم ودور عبادتهم من تحت، ورجال دين يقدّمون لهم الدين الذي تريده
السلطة من فوق في ظل فراغ سياسي، وهو ما أوصلنا إلى أن يصبح اسم الدكتاتور الأب
مرافقا للله في الجوامع والصلوات، ليصبح رجال الدين وزعماء القبائل ووجهاء الأحياء
نوعا من “الأعيان الجدد” الذين يعتمد عليهم النظام لضبط المجتمع وحل مشاكله بدلا
من المؤسسات التي حافظت على دور شكلي ظاهري لتسيير أمور الحياة الطبيعية، في حين
أنه حين تندلع أحداث كبرى ( أحداث السويداء عام 2000، انتفاضة الكرد 2004..) يتقدم
هؤلاء الأعيان بدفع من رجال الأمن ويحلون المشاكل.
وإذا كانت سياسة النظام السابقة لم تستثن أحد في سوريا
بما في ذلك العلويين، فإن ثمة فارق لا بد من أخذه بعين الاعتبار وقد يكون مؤشرا
مفيدا في سياق البحث عن طبيعة “المجلس العلوي الأعلى”، ألا وهو أن كل الأديان
والطوائف لها مؤسساتها ومرجعياتها الدينية المعلومة والواضحة العنوان في سوريا إلا
العلويين، رغم أن الأسد الأب هو من سعى ( بمساعدة من الإمام موسى الصدر) لإصدار فتوى
من الأزهر تقول بانتمائهم للإسلام الشيعي بوجه من حاول نزع شرعية السلطة عنه من
باب كونه ليس مسلما، علما أنه قبل ذلك كان للطائفة مراجعها التي كانت تتشكل بطريقة
شبه وراثية بحيث يكون هناك عدة مشائخ يشكلون بمجموعهم نوعا من مرجعية دينية (
سليمان الأحمد، عبد الرحمن الخير..) يلجأ إليها الناس لحل مشاكلهم الدينية
والاجتماعية والاقتصادية أحيانا، وإن لم تكن ممؤسسة. بعد الثمانيات لن يعود لهذه
المرجعيات أي حضور كبير، مقابل تقدم الحضور الأمني والعسكري، بحيث أصبح الجنرال
(أمنيا كان أم عسكريا) هو صاحب السلطة الاجتماعية التي يلجأ لها الناس، وقد بات
أمرا تقليديا بعد ذلك أن ترى الناس “تحج” إلى بيت هذا المسؤول الأمني- العسكري حين
يكون في زيارة سريعة لقريته، طلبا لوظيفة أو حاجة أو خدمة، وهو ما استغل أيضا في
فساد منقطع النظير، حيث أصبح لكل واحد من هؤلاء “مفتاحه” في قريته أو منطقته الذي
يتلقى الأتاوات مقابل وظيفة هنا أو خدمة هناك. وبحكم كون المكوّن العلوي هو الأكثر
حضورا في الجيش والأمن، أدى هذا الأمر بفعل الفساد إلى أن يصبح العلويون حاضرين
بقوة أيضا في أجهزة الدولة الظاهرة (وزارات، مؤسسات، جمارك..)، دون أن يعني أنها محتكرة
بالمطلق لهم، فمن فهم تفاصيل اللعبة كان قادرا على اختراقها ليصبح واحدا من
أركانها، بغض النظر عن دينه أو طائفته، ولعل أمثلة مثل “عبد الأحمر” في التل و”أبو
سليم الدعبول” في دير عطيه وبعض زعماء القبائل في الجزيرة تشير بوضوح إلى ذلك، وهو
ما نلحظه في علاقة هذه المدن الفاترة بالثورة اليوم أيضا، رغم أن مدينة التل تمردت
في البداية على ذلك.
في الإجابة عن سؤال هل للطائفة ككتلة اجتماعية دور في
هذا المجلس؟
تأتي الإجابة من نقطة بسيطة جدا، فكون أن السوريين كلهم
ومنهم العلويين، لم يسمعوا بهكذا مجلس، فهذا يعني أن لا دور لهم في ذلك بالمعنى
المباشر للكلمة، ولعل طريقة تعاطي السلطة مع حديث اللواء “علي حيدر” للعماد “الشهابي”
يوضح ذلك، دون أن يعني ذلك أن آثاره لم تكن حاضرة بينهم، بل كانت الأشد حضورا من
خلال الآليات التي استخدمت لإخضاعهم أولا، ولدفعهم لأن يكونوا وقودا في لعبة
السلطة ثانيا، بعد تفكيك كل مرتكزات القوة لديهم. ما يعني في نهاية المطاف أن هكذا
مجلس هو آداة سلطة تسعى للهيمنة مستخدمة الجميع وقودا لها، وفق اختيار “سياسة”
مناسبة لكل منطقة أو طائفة أو قبيلة أو أثنية، حيث أن الدور الذي لعبه هكذا مجلس
هنا ( حتى لو كان بين صفوفه رجال دين علويون) لا يختلف عن الدور الذي لعبته مؤسسات
مثل الأموي والإفتاء وشخصيات وعائلات مثل شيخو والبوطي وحسون وأبو سليم الدعبول
وابنه وزعماء قبائل في إخضاع أتباعهم للسلطة دون أن يكون للأتباع دور في ذلك، بل
كانوا ضحية إيمانهم وثقتهم برجال دينهم أو وجهائهم، دون أن يكون ذلك صك براءة لهم
أيضا، خاصة لمن توّرط بالدم والقتل.
آليات السلطة/ المجلس في إخضاع الطائفة:
قد يكون الاجتماع الذي تحدثتا عنه
“شابري” في الأعلى هو النقطة التي استند عليها النظام لسحب الغطاء الاجتماعي عن كل
معارض في الساحل السوري، حيث تشير المعلومات المتوفرة إلى أن بعض عمليات الاعتقال
كان يسبقها كتابة عبارات على جدران القرى من نوع “يسقط النظام العلوي” أو إطلاق
إشاعات مكثفة عن التعامل مع الإخوان أو إسرائيل أو “بندر وحمد” الآن، لتأتي عملية
الاعتقال وسط عدم تعاطف مع المعتقل، بل بارتياح وشماتة أحيانا، لأن النظام تمكن من
إنقاذهم من “خائن وعميل” من بين صفوفهم، مغذّيا بذلك الخوف الأقلوي من الآخر إلى
أقصاه، وحاكما باسمه، لتصبح “سيكولوجية الجماهير” المجيّشة هي الحاكمة هنا
والسابقة للسلطة في العمل، ليتقلص العمل السياسي لصالح تقدم حزب البعث وحده (نسبة
البعثيين قياسا إلى عدد السكان في كل من اللاذقية وطرطوس في عام 1985 أصبحت أكثر
من المتوسط بنسبة 170.5 بالمئة، وهي نسبة ستزيد مع الزمن صعودا).
بعد “تنظيف” الساحل من معارضيه تعمّدت السلطة أن تذهب النسبة
الأكبر من كل جيل إلى الجيش والمؤسسات الأمنية مع تقديم تسهيلات للجامعيين الذين
يودون متابعة دراستهم على حساب الجيش. على المستوى الظاهري كان الأمر متاحا
للجميع، إلا أن الأجهزة الأمنية كانت تختار في نهاية المطاف النسب التي تريدها،
بحيث يذهب العلويون إلى المناطق الحساسة بالنسبة للنظام ( أمن، حرس جمهوري، قوات
خاصة، فرقة رابعة، كلية فنية..). كان القسم الأكبر من العلويين مدفوعا في هذا
الطريق بحكم الحاجة الاقتصادية و لهذا تعمدت السلطة عدم تنمية المناطق الساحلية
إلا بالحد الأدنى وهو أمر ينطبق على كل المناطق خارج المدن الكبرى ( دمشق، حلب،
حمص)، فمن يتفوّق أو يملك مال الواسطة يذهب إلى فروع تلتزم الدولة بتوظيف المتخرج
ومن لا يدفع يذهب إلى الجيش (الأمر تغيّر بعد عام 2000). وهو ما يفسّر تضاعف أعداد
الملتحقين بالجيش والأمن من الساحل السوري في ثمانيات وتسعينيات القرن الماضي
(تعداد الجيش 60000 جندي عام1966 و137000 عام 1975 و 362000عام 1984)، وهو أمر
ينطبق على الطوائف الأخرى فيما يخص العناصر الأدنى رتبة ولكن حصرا لا ينطبق على
العناصر الأعلى رتبة، وهذا ما يفسر وجود الكثير من أبناء الأرياف السورية وأطراف
المدن المهمشة في مؤسستي الجيش والشرطة بغض النظر عن خلفياتهم الطائفية، ليصبح
القسم الأكبر من السوريين ممسوكون بلقمة الخبز سواء كانوا موظفين لدى الأمن أو
مؤسسات الدولة الظاهرة التي تحوّلت عمليا إلى رب عمل، في ظل عدم وجود موارد مستقلة
للعيش إلا ما ندر.
الدور الأكبر والمخيف هو الدور الذي لعبه النظام/ المجلس
في اختراق الطائفة دينيا، إذ أن السلك الديني تقليديا كان محتكرا لعائلات تتوارث
المشيخة. إلا أنه مع بداية التسعينات ستبدأ ظاهرة تلفت الانتباه ألا وهي قيام بعض
الضباط ورجال الأمن (خاصة بعد ترك وظائفهم) بمهمة رجل الدين وإكثارهم من حضور
المناسبات الدينية، ليترافق الأمر تدريجيا مع تقديس الأسد الأب بوصفه “وليا من
أولياء الله” من خلال استحضاره الدائم في تلك الجلسات عبر الدعاء له، إذ تجري
عملية التخدير والتقديس تدريجيا ومن داخل الصف الديني مقابل التقديس الظاهري الذي
تقوم به مؤسسات الدولة الظاهرة، فيصبح “الدكتاتور” مقدسا بالنسبة لهم. ومن هنا نفهم أسباب جنون رجال الأمن
من شعار “يلعن روحك يا حافظ” فهو مسّ مقدساتهم قبل أن يمس رجل الدولة بالنسبة لهم،
ومن هنا نفهم أيضا معنى أن يقول أحد السجانين لإحدى المعتقلات: “فيكي تلعني أبي
قدامي بس ما فيكي تلعني حافظ”، وهو ما نفهم معناه جيدا حين ندرك أن بعض جلسات
الدين كانت تدعو بشكل صريح لحماية “الدولة الخصيبية” كما قال لنا أحد المصادر،
الأمر الذي قد يفسر لنا من جهة أسباب عدم وجود مرجعية دينية للعلويين حيث احتكرت
السلطة الأمر، ومدى تلاعب السلطة بالدين من داخله، كما فعلت في كل الطوائف التي
كان رموزها يمجدون الدكتاتور على المنابر، مع فارق أنه في حالة الطائفة العلوية
والأقليات تعزّز الأمر بخطاب الخوف من الآخر “السني” الذي حافظت السلطة عبر
أجهزتها على إبقائه حاضرا بشكل مباشر في الأزمات وبشكل غير مباشر في الأيام
العادية عبر عبارات تردد بشكل دائم مثل “والله إذا حكموا السنة لنشوف الدم يجر
البحص”، الممزوج بالخوف من السلطة نفسها والذي يعبّر عن نفسه بعبارات من نوع
“الدبين الأزرق ما بيعرف وينو” و “الدولة ما بينعلق معا”، ليتقدّم الخوف الأول
التاريخي الدفين على الثاني، وليصبح العلويون في نهاية المطاف محاصرين وممسوكين
سياسيا واقتصاديا واجتماعيا من قبل السلطة، حدّ فقدان المناعة الكلية أمام تغوّل
السلطة التي غرست آليات “السيطرة الغامضة”، فبات قسم كبير منهم ينتج خطاب السلطة
ويتماهى معه بفعل الخوف منها ومن الآخر القادم، خاصة أن عنف النظام الوحشي و بروز
داعش وجبهة النصرة والكتائب الإسلامية وأصحاب الخطاب الطائفي الصريح لم يدع مجالا
لطريق ثالث.
ماذا يعني هذا؟ هل النظام طائفي؟
استنادا لما هو متوفر من معلومات ووثائق حتى الآن، وبفرض
وجود المجلس من عدمه، لا يمكن وسم النظام بأنه طائفي، لأن النظام الطائفي هو ذلك
النظام الذي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة طائفته في كافة السياسات والقوانين
والمراسيم، وكذلك حين يتهدد عرشه، أو حين ينص الدستور أو قوانين الدولة على مواد
تقول صراحة بهذا الأمر، بحيث تبدأ الطائفة من الأسفل تنظر لنفسها بأنها ممثلة
سياسيا بهذا النظام وليست محتمية به خوفا من القادم كما هو حال العلويين اليوم، ولعل
دولا مثل إيران و لبنان والعراق اليوم، أمثلة واضحة عن ذلك، حيث القانون يجعل من
طائفة ما ممثلة سياسيا، الأمر الذي يحدث فعله في القاع الطائفي الذي يبدأ ينظر
ويعي نفسه وفق هذا الأمر، في حين أنه في الحالة السورية يجري الأمر بشكل سري وعميق
ومن قبل سلطة تنظر لجميع الطوائف والإثنيات والأديان باعتبارها أدوات تعينها على
إبقاء السلطة بيدها لاغير. و ظهور الأمر مضخما في الحالة العلوية لا يقرأ طائفيا
من جهة الطائفة بقدر ما يقرأ سلطويا من جهة النظام الساعي للاعتماد على أبناء
منطقته ومناطق الأرياف عموما في وجه من يحتمل أن يهددوا سلطته، ولهذا كانت مدن مثل
القنيطرة ودرعا والرقة وأرياف دير الزور من أكثر المدن ولاءا للنظام ( في عام 1985
ولدى إجراء مقارنة بين أعضاء البعث وعدد سكان المدينة تبين أن مدينة القنيطرة
ممثلة بأكثر من المتوسط بنسبة 186 بالمئة، في حين أن درعا ممثلة بأكثر من المتوسط
بـ 131 بالمئة والسويداء أكثر بـ 202 بالمئة، مقابل 71 بالمئة لدمشق و41 بالمئة لحلب)، الذي
غلّب العامل الريفي على المديني هنا، في حين غلّب اللعبة المناطقية والعشائرية بين
العلويين أنفسهم، حيث أن البنية الصلبة للنظام ( الأمن والضباط الكبار) تأتي من
اللاذقية وجبلة، وهو ما كان مكان احتجاج صامت يعبّر عن نفسه في المجالس الضيقة من
أهالي طرطوس وأرياف بانياس، إذ حتى داخل الجيش والأمن كان هؤلاء يشعرون بالتمييز
تجاه أولئك، لأن أعلى رتبة يصل إليها أبنائهم هي “عميد” إلا ما ندر، إضافة إلى عدم
توّرع النظام عن اللعب بهم عشائريا حين يريد، فهو (حتى وإن كانوا طائفته فهو لم
يراهم من هذا الباب أبدا) لم يتورّع عن تفعيل الحساسيات العشائرية بينهم لإبقائهم
ممزقين، وغير قادرين على التعاضد بوجهه، وهو ما كان يلحظ في الانتخابات المحلية
والتشريعية، حيث تتفعل الحساسيات العشائرية ( خياطيين، حدادديين، كلبيين..) حد التصادم أحيانا، لتعود
الأمور إلى “طبيعتها” بعد
انتهاء الانتخابات، وبعد أن يكون النظام حقق أمرين: الأول مباشر يتعلّق بدفع هؤلاء
نحو الانتخاب بكثافة لمن يريدهم، ولكي يثبّت شرعيته من خلال نسبة الانتخاب،
والثاني: منع الاندماج الوطني وإبقاء ورقة العشائرية حيّة، ليستخدمها وقت يشاء،
وهو الأمر الذي كان يحصل على امتداد سورية، وفقا للطريقة الناجعة في كل منطقة، ففي
الجزيرة تستخدم لعبة القبائل والأفخاذ وفي المدن لعبة العائلات أو الريف والمدينة،
وفي عالم البرجوازية خصومات رجال المال وعلاقتهم مع مراكز القوى الأمنية، وفي مدن
أخرى:
الشوايا
والبدو.. ما يعني أن النظام لم ينظر للعلويين بعين غير تلك التي ينظر بها للطوائف
والعشائر الأخرى، فهم أداة لتعزيز السيطرة لا غير. وما مقتل هذا العدد الكبير بين
صفوف فقرائهم (لنقرأ جيدا فقرائهم فقط، فمن امتلك المال دفع ليهرب خارج
البلاد أو يؤجل سحبه للجيش) اليوم دون أدنى اكتراث منه، إلا دليلا على ذلك. حيث
طوّر النظام عمليا جوهر النظام الأمني الذي وضعه الفرنسيون في فترة الانتداب، ف
“من أجل مقاومة المعارضة السنية شجعت فرنسا صعود السكان المنتمين إلى الأقليات من
الطبقات الاجتماعية الأكثر فقرًا. وأرست سلطة الانتداب بذلك أسس الجهاز الأمني
الحالي” كما يقول كونراد شتيلير، في بحثه “أجهزة الأمن اللبنانية والسورية:بصمة
الانتداب الفرنسي،2012″، فلم يكن هم فرنسا حماية الأقليات أو غيرها، بل تحقيق مصالحها،
لأن ” الاستراتيجية الفرنسية القائمة على إضعاف السنة كانت تهدف إلى التحكم في هذه
الطائفة ذات النفوذ الكبير. بذلك أخضعت فرنسا السوريين بطوائفهم المختلفة مع تقليص
هامش تحركهم. ولا شك أن استمرار الطائفية هو من أهم النتائج المستدامة للسياسة
الأمنية الفرنسية في المشرق” كما يقول كونراد، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام السوري.
ذلك كله، توازى مع حرمان المجتمع والطوائف من الحديث
بالطائفية تحت سيف المحاكمة بـ “إثارة النعرات الطائفية” التي حوكم في ظلها أغلب
المعارضين السوريين، فالنظام يريد أن يبقى سيّد اللعبة وأن يمنع خصومه من امتلاك
ورقة الطائفية لاستخدامها ضده كما يحصل اليوم، الأمر الذي يعني أننا لسنا بصدد
نظام طائفي أو نظام “علوية سياسية” بل نظام يحتكر الطائفية ويستخدمها من بين أوراق
وأدوات أخرى، مستثمرا إياها عبر تقديم نفسه بوصفه “نظام علماني” يحارب
“الإرهاب” ويحمي “الأقليات” التي يقتلها ثم يتكلم باسمها، علما أن تطوّر الأحداث
السورية قد يدفع النظام ذاته للقبول بتقسيم طائفي في السلطة، حين يرى أن هذا ما
تبقى له، فهو أولا وأخرا نظام باحث عن سلطة تشكل مدخلا للثروة، ولو على خراب
البصرة. وهذا أمر ليس جديدا بل كان قائما طيلة حكمه بالمناسبة، فالحكومة والجيش
ومجلس الشعب والجيش يتبعان ترتيبا طائفيا يعرفه الجميع (رئاسة الحكومة للسنة وأربع
وزارت علوية ووزير لكل طائفة وإثنية، وفي الجيش لكل قائد فرقة نائبان مختلفان عنه
بالطائفة)، في حين بقيت السلطة الأمنية بعيدة عن هذا التقسيم. وهذا ما تدافع عنه السلطة
حتى الآن: أن يطال التغيير الدولة الظاهرة دون التنازل عن الدولة العميقة
وأجهزتها. وهذا ما تطالب الثورة بكسره، لأنه يشكل مدخلا لبناء الوطنية السورية
الجديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق