هذا هو الجزء الثاني والأخير من قصتي الجديدة
من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي
حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. وكما
ذكرت في قصص سابقة، فقد عملت قبل سفري في الثمانينيات كمهندس متدرب في مؤسسة
عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية، وتم تعييني رئيساً لدائرة في فرع المؤسسة في إحدى
قرى الغوطة الشرقية.
ذكرت في الجزء الأول من القصة كيف اتصل بي
مديري ذات يوم وقال لي غاضباً: سأنقل سكرتيرتي الخاصة إلى دائرتك وأريد منك أن
(تسلخ جلدها)، وقد يكون من المفيد هنا العودة إلى ذلك الجزء، والمتوفر على موقعي،
لمن لم يقرأه لمعرفة المزيد من التفاصيل.
أما هي (السكرتيرة) فكانت في عقدها الثالث، غير
متزوجة وغير جميلة بأي مقياس واعتادت ارتداء الملابس الجريئة والغريبة الألوان. وبالاضافة
لكونها أيضاً من (الطائفة الكريمة)، فكانت غير حاصلة حتى على الشهادة الاعدادية،
في حين أن وظيفة كهذه تتطلب خريجة معهد سكرتارية على الأقل. وهذا يعني على أرض
الواقع وببساطة بأنها سرقت تلك الوظيفة من خريجة معهد وتركتها عاطلة عن العمل بعد
أن أمضت الأخيرة عامين (مأمأت) عينيها خلالها في الدراسة وتقديم الامتحانات، لالشئ
إلا لأن صاحبتنا لديها (واسطة)، فيما الخريجة ليس لديها. وكأن هذا لم يكن كافياً
فيما يتعلق بسكرتيرة (الغفلة)، فكان مما يميزها أيضاً، أنك كلما دخلت إلى مكتبها
لمقابلة المدير، وجدت السيكارة في يدها، و(شفاطة) المتة في فمها، ووجدتها دائماً
على التلفون في أحاديث شخصية مما يوحي لك بأنك لست في مكان عمل رسمي، بل في جلسة
(تحشيش) رسمية. من جهتي، فكان شعوري كلما أتيت إلى مكتبها هو مزيج من ثلاثة
إشفاقات: الاشفاق على نفسي وشهادتي (الطويلة العريضة) لكوني لاأستطيع مقابلة
المدير إلا إذا سمحت لي فتاة (حشاشة) وشبه أمية بذلك، والاشفاق على البلد الذي يحرم
أصحاب الكفاءة فيه من وظائف بحاجة خبراتهم، ليستبدلوا بمن كفائتهم هي المحسوبية.
وأخيراً الاشفاق عليها نفسها كانسانة كيف يمكنها أن تتعايش مع ذاتها وتحترم نفسها وهي
تعلم في داخلها بأنها إنما موجودة في هذه الوظيفة لانتمائها الطائفي فحسب وليس
لكفائتها العلمية أو المهنية، وأنها تشابه بذلك النباتات الضارة التي تنمو وتلتف
حول غيرها لتعيش عليها.
بالعودة إلى القصة، فقد وصلت السكرتيرة
(المنفية) إلى الدائرة في نفس اليوم، فاستقبلتها في المكتب وحاولت أن أفهم منها
ماهو سبب غضب المدير المفاجئ عليها وبهذه الحدة، وفيما إذا كان السبب يتعلق بعدم
رضاه عن طريقة أدائها للعمل، مثل تدخينها المتواصل في المكتب أو مكالماتها الشخصية
الكثيرة، أو حتى بسبب الملابس الجريئة التي ترتديها أحياناً إلى الشغل والتي ربما
تجعله يشعر بالاحراج. فما كان منها إلا أن ضحكت وقالت: ربما لأنك بعيد عن المديرية،
فأنت لاتعلم بأن هذه الأمور ليست من أولويات مديرنا، حيث أن أولوياته مختلفة عن
ذلك تماماً، بالرغم من أنه متزوج وعنده أولاد في سن الجامعة وفهمك كاف، أما
بالنسبة لملابسي، فهو من يلح علي دائماً لارتداء هكذا أزياء ويقول لي بأنه يحب أن
يراني بها. طبعاً لم تفاجئني الفتاة بهذه المعلومات، ففي كافة وزارات ومؤسسات
وإدارات الدولة، وخاصة العسكرية منها، فالتحرش بالموظفات و(التصبب) عليهن من قبل
الرؤساء والمدراء وحتى الوزراء هي سياسة رسمية وإن كانت غير معلنة.
من جهتي، فلم أكن على استعداد للتجاوب مع الطلب
السخيف الذي طلبه مني المدير، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن ضمن مقررات كلية الهندسة
كتاباً بعنوان (الأسس والبنود في سلخ الجلود)، أو (المحيط في صنع الدربكات من جلد
السكرتيرات)، كما وأني لم ألتحق بأي دورة تدريبية في أي مسلخ للبقر أو المعازي. وبالرغم
من أني لم أفهم من قصتها فيما إذا كان المدير قد نفاها إلى دائرتي حتى (أسلخ
جلدها) لأنها لاتتجاوب مع تحرشاته، أو أنها كانت تتجاوب ثم توقفت لسبب ما، أو لأنه
طالبها بارتداء زي معين يحبه ولم تفعل، أو لأنه طلب منها تعريفه على موظفة في غير
دائرة ورفضت، وهذا أيضاً وارد في أماكن العمل، ولكن مافهمت ومايهمني في الأمر أن
نفيها هذا كان لسبب له علاقة بموضوع (الفحولة) ولاعلاقة له بالعمل المهني لامن
قريب ولا من بعيد. وما زاد غضبي أكثر وأكثر أن المدير، بشكل أو بآخر، اعتقد أن لدي
في دائرتي سجن أعذب فيه البشر و(أسلخ جلودهم)، وأن هذا الاعتقاد أتى لالشئ إلا
لأني آخذ العمل على محمل الجد ولاأتهاون فيه. على كل حال، وبسبب أنه لم يكن هناك
شواغر في دائرتي، فقد استعرت للسكرتيرة كرسياً من أحد المكاتب في الفرع وجعلتها
تشارك إحدى الموظفات بطاولة المكتب، متوقعاً أن لاتطول عقوبتها ولاغضب المدير
عليها طويلاً وبالتالي أن نرى قريباً وقد (لف السير على القبقاب) حسب مايقول المثل.
كان الأخير وكلما اتصل بي خلال الأيام القليلة التي تلت ذلك يسألني فيما إذا كان
(سلخ جلد) السكرتيرة جار على قدم وساق حسب طلبه، فكنت أجيبه مازحاً، بأنه إذا كان
التقيد بالنظام وتنفيذ العمل حسب الأصول وفي وقته يعتبر سلخاً للجلد، فان جميع
الموظفين عندي يخضعون لسلخ جلودهم كل يوم وبلا توصية.
وفعلاً كما توقعت، فلم تمض أيام حتى تحقق
المثل المذكور وعاد (سير) المدير (الفحل) ورضي عن (قبقاب) السكرتيرة (الحشاشة)،
وعاد وأصدر قراراً باعادتها إلى المديرية العامة وإلى مكتبها السابق، وكأن شيئاً
لم يحصل. هذه هي (سورية الأسد)، لارقيب ولاحسيب، ولاأخلاق ولاضمير، والقرارات تصدر
عن أهواء وغرائز ومصالح شخصية، والبشر عند الدولة ليسوا أكثر من (خرفان) يمكن سلخ
جلودهم في أي وقت وبلا أي سبب أو مسائلة، ومع ذلك مازال هناك من يقولون لك (كنا
عايشين وماشي حالنا).
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 18 رمضان المبارك 1436، 6 تموز، جولاي 2015
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق