أشرنا
في مقال سابق إلى سبب تسمية «ذي القرنين» بهذا الاسم، واختلافهم في معرفته، وجزم
بعضُهم أنَّه «الإسكندر المقدونيّ» على نحو ما وجدناه عند «الزَّمخشريُّ» في «كشَّافه»،
و«ابن عطيَّة» في «محرَّره»، و«ابن كثير» في «تفسيره»، وغيرهم، وقد بيَّنا أنَّهم
توَّهموا في أنَّه «الإسكندر»؛ لأسباب تاريخيَّة، وصفات لم تتحقَّق فيه، منها ما
ذكره «الألوسي» حيث قال: «واعترض أيضًا بأنَّ إسكندر المذكور لم يتحقَّق له سفر
نحو المغرب في كتب التَّواريخ المعتبرة»، ولأنَّه كما يقول «البغويّ»: «كان ملكًا
صالحًا» وعليه الأكثرون.
وغالب
الظَّنّ أنَّ اختلافهم ناتج عن الأخبار القصصيَّة، والتَّاريخيَّة، والاسترواح إلى
بعض الاشتقاقات اللَّفظيَّة، «ولعلَّ اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصَّاصين
الذين عنوا بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق، فراموا تطبيق هذه القصَّة
عليها». ونتيجة لهذا الاختلاف رأى «ابن عاشور» ضرورة استخلاص أحوال هذه القصَّة من
الآية «تقرِّب تعيينه، وتزييف ما عداه من الأقوال»، إذ «ليس يجب الاقتصار على
تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال؛ بل الأمر في ذلك أوسع، وهذه القصَّة القرآنيَّة
تعطي صفات لا محيد عنها:
إحداها: أنَّه كان ملكًا صالحًا. الثَّانية: أنَّه كان ملهمًا من
الله. الثَّالثة: أنَّ ملكه شمل أقطارًا شاسعة. الرَّابعة: أنَّه
بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكانًا كان مجهولاً، وهو عينٌ حمئة. الخامسة:
أنَّه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج، وأنَّها كانت في جهة ممَّا شمله ملكه غير الجهتين
الشَّرقيَّة والغربيَّة، فكانت وسطًا بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه. السَّادسة:
أنَّه أقام سدًّا يحول بين يأجوج ومأجوج وبين قوم آخرين. السَّابعة: أنَّ
يأجوج ومأجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فسادًا، وأنَّهم كانوا يفسدون بلاد قوم
موالين لهذا الملك. الثَّامنة: أنَّه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في
الحديد والبناء. التَّاسعة: أنَّ خبره حفيٌ دقيق لا يعلمه إلا الأحبار
علمًا إجماليًّا كما دلَّ عليه سبب النُّزول.
ثم استنتجَ من هذه الأحوال أنَّه لا يمكن بحال أن يكون
المقصود «الإسكندر» فقال: «وأنت إذا تدبَّرتَ جميع هذه الأحوال نفيتَ أن يكون ذو
القرنين إسكندر المقدوني؛ لأنَّه لم يكن ملكًا صالحًا؛ بل كان وثنيًا، فلم يكن
أهلا لتلقِّي الوحي من الله، وإن كانت له كمالات على الجملة، وأيضًا فلا يعرف في
تاريخه أنَّه أقام سدًّا بين بلدين». وبيَّن سبب نسبة القصَّة إليه فقال: «و أحسبُ
أنَّ لتركيب القصَّة المذكورة في هذه السُّورة على اسم إسكندر المقدونيّ أثرًا في
اشتهار نسبة السَّدِّ إليه، وذلك من أوهام المؤرِّخين في الإسلام، ولا يعرف أنَّ
مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشَّرق إلى قوم مجهولين عراة
أو عديمي المساكن، ولا أنَّ أمتَّه كانت تلقَّبه بذي القرنين، وإنَّما انتحل هذا
اللَّقب له لما توهَّموا أنَّه المعنيّ بذي القرنين في هذه الآية، فمنحه هذا اللَّقب
من مخترعات مؤرِّخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النَّقود بقرنين ممَّا شأنه أن
يلقب، وأيضًا فالإسكندر كانت أخباره مشهورة؛ لأنَّه حارب الفرس والقبط وهمَّا
أمَّتان مجاورتان للأمَّة العربيَّة».
وابتعد من جعله «إسكندر» آخر على نحو ما ذهب إليه «ابن
حجر» حيث قال: «الإسكندر اليوناني كان قريبًا من زمن عيسى عليه السَّلام، وبين زمن
إبراهيم وعيسى أكثر من ألفي سنة، والذي يظهر أنَّ الإسكندر المتأخِّر لقِّب بذي
القرنين تشبيهًا بالمتقدِّم لسعة ملكه، وغلبته على البلاد الكثيرة، أو لأنَّه
لمَّا غلب على الفرس وقتل ملكهم انتظم له ملك المملكتين الواسعتين الرٌّوم والفرس
فلقِّب ذا القرنين لذلك، والحقَّ أنَّ الذي قصَّ الله نبأه في القرآن هو المتقدِّم».
وإليه ذهب «ابن تيمية» إذ قال: «كان أرسطو قبل المسيح بن مريم عليه السَّلام بنحو
ثلاثمئة سنة، كان وزيرًا للإسكندر بن فيلبس المقدونيّ الذي غلب على الفرس، وهو
الذي يؤرَّخ له اليوم بالتَّاريخ الرٌّومي، تؤرِّخ له اليهود والنَّصارى، وليس هذا
الإسكندر هو ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظنُّ ذلك طائفة من النَّاس. فإنَّ
ذلك كان متقدِّما على هذا، وذلك المتقدِّم هو الذي بنى سدَّ يأجوج ومأجوج، وهذا
المقدوني لم يصل إلى السَّدّ، وذاك كان مسلمًا موحِّدًا، وهذا المقدوني كان مشركًا
هو وأهل بلده اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان».
لذلك رجَّحنا سابقًا أنَّ المقصود هو الملك «قورش» على
نحو ما ذهب إليه «آزاد»، والدكتور «حاكم المطيريّ»؛ لأنَّه يتطابق مع السِّياق
القرآنيّ والسَّائلين عنه من «اليهود» لعلمهم ومعرفتهم به، وهو يؤكِّد ما يفسّرونه
من حلم «دانيال» في الإصحاح الثَّامن حيث جاء: «أمَّا الكبش الذي رأيته ذا القرنين
فهو ملوك مادي وفارس، والتَّيس العافي ملك اليونان..والقرن العظيم الذي بين عينه
هو الملك الأوَّل، وإذا انكسر وقام مكانه أربعة عوضًا عنه فستقوم أربع ممالك من
الأمَّة، ولكن ليس في قوَّته».
فإنْ قلتَ: هل يجوز الاعتماد على ما ورد في «التَّوارة»؟ وما فسَّروه من ذلك؟ قلتُ:
نعم، وقد ورد عن بعض السَّلف ما يؤكِّدُ ذلك، منه ما ذكره «ابن كثير» في قوله: «وقال
سعيد بن جبير: بينا ابن عبَّاس يقرأ سورة الكهف، فقرأ: وجدها تغرب في عين حمئة.
فقال كعب: والذي نفس كعبٍ بيده ما سمعتُ أحدًا يقرؤها كما أنزلت في التَّوراة غير
ابن عبَّاس، فإنَّا نجدُها في التَّوراة: تغربُ في مدرة سوداء».
وفي موضع آخر قال: «كان ابن عبَّاس يقول: في عين حمئة،
ثمَّ فسَّرها: ذات حمأة. قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال: أنتم أعلم بالقرآن
منِّي، ولكنِّي أجدها في الكتاب: تغيب في طينة سوداء».
وذكر «الرَّازيُّ» في «مفاتيحه» أنَّ اتفاقًا حصل على
قول «ابن عبَّاس» لكن برواية مختلفة فقال: «واتفق أنِّ ابن عبَّاس كان عند معاوية
فقرأ معاوية «حامية»، بألف، فقال ابن عبَّاس: «حمئة»، فقال معاوية لعبد الله بن
عمر: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثمَّ وجه إلى كعب الأحبار: كيف تجد
الشَّمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذلك نجدُه في التَّوراة».
وفي هذه الأخبار ونظائرها دلائل واضحة على أمرين:
الأوَّل: أنَّ ذكر العين الحمئة، وذكر «ذي القرنين» قد ثبتَ وروده في الكتب
السَّماويَّة السَّابقة ومنها «التَّوراة».
الثَّاني: أنَّ المراد بالسَّائلين في الآية ذاتها في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ
عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ الكهف: 83، هم «اليهود» لعلمهم السِّابق بهذه القصَّة،
وغايتهم التَّأكُّد من صحَّة نبوَّة محمَّد e، ونزول الوحي عليه، إذ هو من علم الغيب
السَّابق.
وسنقف في المقالات التَّالية على رحلته في الشَّرق،
لمعرفة ما المقصود بـ«مغرب الشَّمس» في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا
قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ الكهف: 86.
د. محمد عناد سليمان
20 / 7 / 2015م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق