قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن
سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً
وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
كانت تفصلني
عن التخرج من كلية الهندسة الميكانيكية مادتان فقط حين عملت لعدة أشهر في مؤسسة
الاسكان العسكرية، على أمل أن أمضي فيها خدمة الدولة الاجبارية بعد تخرجي، وذلك للامتيازات
التي كانت تمنح للمهندسين العاملين من حيث الرواتب وإعارة سيارة، إلا أن الأمور سارت
على نحو لم أكن حتى لأتخيله.
قبل سفري من سورية كنت قد عملت في سبع
وظائف، كلها كانت عبر (واسطة) ماعدا هذه، ليس لأن الاسكان العسكري لم تكن تتطلب ذلك،
وإنما لما يمكن أن أدعوه بضربة حظ لاأكثر. كان فرع دمشق للمؤسسة يقع في ساحة
الأمويين حيث كان ينفذ أيضاً مشروع (المسرح القومي)، وكان السوريون يعلمون أن
إيجاد فرصة عمل لمهندس في تلك المؤسسة هو أمر في غاية الصعوبة بسبب الامتيازات
التي سبق وذكرتها وبالتالي كانت (الواسطة) هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في هذا
الأمر، كما هو في الكثير من الأمور في (سورية الأسد). وبالرغم من أني لم أكن أفتقر
لواسطة، إلا أني كنت أكره أن أستعين بأحد وخاصة فيما يتعلق بالوظيفة بشكل خاص، فكنت
دائماً أرغب بتحقيق أهدافي بجهدي الخاص من جهة وبكفاءاتي الشخصية من جهة ثانية.
المهم أني قررت الذهاب وبنفسي أولاً محاولاً الحصول على تلك الوظيفة دون (كرت
توصية) أو عبارة (بسلم عليك فلان) ولكل حادث حديث بعد ذلك.
دخلت إلى الفرع وسألت عن (مكتب الميكانيك)
حتى استدللت عليه، ولحسن الحظ فلم يكن هناك سكرتيرة للمدير قد تردني خائباً فيما
إذا عرفت بأني أريد مقابلته دون موعد مسبق أو بدون الفيتامين (واو). كان هناك شاب
في العقد الثالث عرفني باسمه ثم عن نفسه بأنه (معاون مدير الميكانيك)، وعرفته
بدوري على نفسي ووجدنا سريعاً عاملاً مشتركاً فيما بيننا حين أخبرني بأنه خريج نفس
الكلية من سنتين فقط، فكنا نعرف نفس الأساتذة ودرسنا نفس المواد. كان مكتب الرجل
يفضي إلى مكتب المدير، ولما أخبرته مالذي أتى بي إلى هنا، سألني مباشرة عن واسطتي،
فلما أجبت بأني لم أحضر واحدة، ضحك وقال: وماذا أتيت تفعل إذاً؟ أبدى الرجل تقديره
لثقتي بنفسي ولكنه لم يشجعني على المضي قدماً بسبب عدم رؤيته لأي أمل في حصولي على
الوظيفة. زادني هذا الأمر إصراراً على الموضوع، ولم تمض دقائق حتى كنت في مكتب
المدير حيث أعدت عليه ماقلته لمعاونه. كان الرجل أيضاً في العقد الثالث ولكنه خريج
أحد دول أوربة الشرقية ولم تمض سوى سنتان على عودته وحصوله على الوظيفة. كان
المدير ومعاونه من الاخوة المسيحيين، وقد اكتشفت سريعاً من المفردات التي تحدثا
بها بأنهما (شيوعيان)، ولم يكن هناك أي مشكلة لهذين الأمرين بالنسبة لي، فالمعتقد
الديني أو السياسي يبقى حرية شخصية طالما أنه لايدعو للقتل أو التسلط أو إلغاء
الآخرين. والحق يقال، فان هذين الشابين كانا من القلة من الذين تعرفت عليهم في
سورية قبل سفري وأستطيع أن أقول بأنهم كانوا من الأشراف وأصحاب المبادئ والأخلاق،
وهذه صفات تتبع عادة الأفراد وليس الطوائف أو الأمم. لم تمض دقائق على دخولي
وحديثي مع المدير حتى مد يده وصافحني وقال لي وسط عدم تصديقي: أنا موافق على تعيينك
ويمكنك البدء غداً، ولكن تذكر أن صلاحيتي هي التوظيف لثلاثة أشهر في حين أن القرار
النهائي والتثبيت في الوظيفة هو لمدير الفرع والذي سأقوم باقناعه بذلك حسب ماسأراه
من عملك خلال تلك الفترة.
لم أصدق أني في اليوم التالي كنت أجلس خلف
طاولة مكتب في مؤسسة الاسكان العسكرية وأني أصبحت المسؤول الأول عن وضع ومتابعة
برنامج الصيانة الدورية لآليات الفرع. ولكن القصة التي أسوقها هنا لم تبدأ في ذلك
اليوم، بل في يوم بعد مايزيد عن الشهرين، حيث كانت قد توطدت الصداقة خلال ذلك بيني
وبين المهندسين الشابين في المكتب. فحصل ذلك اليوم أن طلب مني معاون المدير
مرافقته إلى مطار دمشق الدولي لمساعدته في عملية الاستلام الفني لدفعة (جلايات
بلاط) والتي كان الفرع قد طلبها حديثاً من تاجر من القطاع الخاص لاستعمالها في تنفيذ
مشروع صالة الركاب الجديدة التي كان ينفذها هناك. توجهنا بسيارته البيك آب
الشيفرولية إلى المطار وطلبنا من مراقب العمال هناك أن يقودنا إلى مكان تواجد
الجلايات، وكانت دزينة، لنقوم باستلامها حسب الأصول، وذلك بالتحقق من المواصفات
الفنية الموجودة في دفتر الشروط والتي تم استيراد الجلايات على أساسها، ليتم بعد
ذلك إتمام دفع ثمنها لتاجر القطاع العام الذي قدمها. كنت أنا والمهندس، وقبل
خروجنا من المكتب، قد راجعنا دفتر الشروط وعرفنا ماذا علينا أن نتوقع حين نبدأ
بمعاينة الجلايات واستلامها، حيث من المفترض أن تكون إيطالية الصنع وبمواصفات فنية
محددة وواضحة بالأرقام.
لاحظت منذ البداية أن مراقب العمال كان
مستغرباً لوجودنا، وتردد قبل أن يقودنا إلى مكانها، حتى أنه دعانا لوجبة (غداء)
على حسابه وأن نقوم بعملية الاستلام لاحقاً أو في غير يوم، وقد فهمت فيما بعد بأن
عملية الاستلام الفني للمعدات في هذه المؤسسة هي إجراء شكلي بحت وغالباً مايتم في
المكاتب دون معاينة على أرض الواقع. وقد أسر لي معاون المدير بعدها بأن العادة قد
جرت على تشكيل لجنة فنية (موثوقة) برئاسة أحد الميكانيكيين تقوم بهذه المهمة،
وتعود دوماً بنتيجة أن كل شئ كان (حسب الأصول)، ولكنه قرر هذه المرة أن يذهب بنفسه
لكسر الروتين ليس إلا ولأن ليس لديه ماكان يشغله في ذلك اليوم بالذات. قادنا المراقب
إلى قاعة الركاب وأول مالفت انتباهنا حين وصولنا أن الجلايات كانت قيد الاستعمال
بالفعل، ولما سألناه كيف بدأوا باستعمالها قبل استلامها رسمياً قال أن المشروع
يعاني من التأخير وأن لديهم أوامر من مدير الفرع بأن لايضيعوا المزيد من الوقت في
انتظار عملية الاستلام والتي يمكن أن تتم لاحقاً! طلب المراقب من عماله الذهاب
لتناول الغذاء لحين انتهائنا من عملنا، وكان أول مالفت نظرنا في الجلايات اللوحة
الفنية المثبتة عليها والتي كانت تقول بصراحة وبالعربية (صنع في حلب)، ولكن وما أن
بدأنا بالتحقق من بقية المواصفات حتى وجدنا أن جميعها مخالفة لتلك المحددة في دفتر
الشروط، وطبعاً لاداعي للذكر بأنها لم تكن أعلى من المطلوب، بل أخفض وبالتالي أرخص
مما هو محدد ومتفق عليه. تدخل المراقب سريعاً من جديد وبرر ذلك بأن التاجر المتفق
معه على الاستيراد تأخر بتسليمها لأسباب جمركية، وبما أن هناك تأكيداً من (القصر
الجمهوري) على انجاز قاعة الركاب في أسرع وقت، فكان أن تم الاتفاق مع التاجر على
التسليم الفوري لما هو متوفر في السوق على أن يكون بنفس المواصفات. طبعاً كانت هذه
هي العادة في بلدنا حيث يتم دائماً إقحام (السياسة) في كل الأمور حتى لايتجرأ أحد
على الاحتجاج. ولكن كان كلامه مردود عليه حيث كانت كافة المواصفات ليست مطابقة وأخفض
بكثير من المطلوب، هذا طبعاً بالاضافة لاختلاف البلد الصانع.
الجزء الثاني
الاثنين القادم
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 26 رمضان المبارك 1436، 13 تموز، جولاي 2015
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق