من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم
جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني
الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ
وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم
، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ
أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة الأحزاب
[ الآية 53]( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ
إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ
إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي
مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن
تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ
عَظِيماً)
نقف في هذه الآية على أدَبين كريمَين من
آداب الإسلام نزلا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
أولهما:
أن المسلمين كانوا، قبل نزول هذه الآية، يسلِّم الرجلُ على أهل البيت ويدخل دون استئذان،
ولم يكن للبيوت إذ ذاك أبواب ولم يكن لها-على الأغلب- سُتُر، فقد يرى المرءُ من أهل
البيت، ما لم يكن يريد أن يراه الناس من عورته،
وقيل : أمر الناس أن يستأذنوا في سورة النور: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا) (1)
وقيل: إن هذه الآية – في سورة النور- نزلت
لعموم المسلمين.
أما آية الأحزاب فهي خاصة ببيت النبي صلى
الله عليه وسلم. فقد روي في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب
بنت جحش،- امرأة زيد-، أَوْلَم عليها، فدعا
الناس، فلما طَعِمُوا جلس طوائف منهم يتحدثون
في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطالوا الجلوس، وتأذى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من تأخرهم، ولمّا يَبْنِ بزوجته
وكانت جالسة وظهرها إلى القوم!.. ولم يأمرهم بالخروج لحيائه صلى الله عليه وسلم فلما
خرجوا نزلت هذه الآية .
يقول أنس فانطلق حتى دخل البيت،
فذهبتُ أدخلُ معه فألقى السترَ بيني وبينه..
ونزل الحجاب.. قال ووعظ القومَ بما وُعِظوا به، وأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال ابن عباس: نزلتْ هذه الآية في ناس
من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعامَ النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلون قبل أن ينضج الطعام
فيقعدون إلى أن ينضج، ثم يأكلون ولا يخرجون.. فهم ثقلاء على نفس الداعي، وإن كانوا
من المؤمنين، فالذوق مطلوب والتصرف بكياسة ولباقة صفة المسلم، وحسبك من الثقلاء أن
الشرع لم يحتملهم.
لكننا نفهم من هذه القصة ما يلي:
ا- إجابة الدعوة لعرس؛ واجبة.
2- الحضور وقت الغداء، والانصراف بعده.
3- مراعاة ظروف أهل البيت، فلم يكن للسيدة زينب سوى غرفة
واحدة.
ثانيهما:
روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال عمر رضي الله عنهما: وافقتُ ربي في أربع..
الحديث
وفيه: قلت: يا رسول الله لو ضربتَ على نسائك
الحجاب - فإنه يدخل عليهن البَر والفاجر- فانزل الله عز وجل. ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء
حِجَابٍ).
وبما أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يعشن في بيت
النبوة فهنَّ قدوة للنساء كما أن رسول الله قدوة للرجال..
وقد يسأل السائل عن أمور لا يفعلها الرسول الكريم
إلَّا في بيته فتكون أمهات المؤمنين مفتاحَ الجواب الشافي. فإذا أمر الرجال بغض البصر
عن النساء المسلمات فأحرى بهم أن يغضوه
حين يرون نساء النبي صلى الله عليه
وسلم، وإذا كان المؤمن يغض بصره عن النساء العفيفات اللواتي لا يبدين زينتهنّ، فأولى
به أن يغض بصره عمن لا يتحرَّجْن من التكشف والترخّص فهذا أدعى لسلامة قلبه وراحة نفسه..
والمرأة فتنة كلها، عفيفةً كانت أم غير عفيفة، فهي مثار الشهوات وداعية الغواية، "ما
تركتُ فتنة من بعدي أشد على الرجال من النساء".
وقديماً.. وليس بالقديم الموغل.. قال الشاعر
النصراني "القروي" وكان فيه بقية من حياء، حين رأى امرأة تلبس ثوباً يغطي
الركبتين، ويكشف ما تحتهما.. قال متعجباً مستنكراً من ذاك "التعري " الفاضح.
لحد الركبتين تشمرينا *** بربّكِ أي نهرٍ
تعبُرينا
فماذا يقول لو أعيد إلى الحياة- ولن يعود
أحد-؟ ماذا يقول والنساءُ خلعن ثوب الحياء
إلَّا من ورقة التوت.. ماذا يقول وقد تعرّت النساء في النوادي وعلى سواحل البحر وفي الطرقات
!؟! وقد عَرَضن أنفسهن سلعاً رخيصة
لمن يشتري !!؟
.. أقول على لسانه، ونيابة عنه.
خلعت الطهر والخلق المتينا
فصرتِ بضاعة للمفسدينا
وقلَّدتِ الكوافر دون وعي
فعشتِ مهينة دنيا ودينا
إن الإسلام حين فرض الحجاب أبعد وسواس الشيطان
عن نفس المؤمن والمؤمنة، فلم تقع عيناهما على ما يحرك دواعي الفساد، ونفى الريبة التي
تتولد من النظرة "لأن النظرة سهم من سهام إبليس " وأبعدَ التهمة وشدد في
الحماية واعتمد مبدأ. "درهمُ وقاية خير من قنطار علاج "
بل إنه منع خلوة المرأة بالأجنبي، فلا تقابل المرأة أجنبياً إلَّا
مع ذي محرم، وما أعظم فقه عمر بن عبد العزيز إذ قال: " لا تخلونَّ بامرأة ولو
كنت تعلمها القرآن ".
فماذا نقول، وكثير ممن يدَّعون الإسلام،
تخرُج نساؤهم كاسياتٍ عارياتٍ؟!.
ماذا نقول وكثير ممن يدَّعون الإسلام يساهرون
ضيوفهم رجالاً ونساءً بحجة اللقاءات البريئةَ!، والنظرة الطاهرة، وإكرام الضيف؟!! إذ
من المعيب أن تمتنع المرأة عن استقبال ضيوف زوجها!! فهذا تأخر وعمل، رجعي متخلف! أ
أما الاختلاط، والنظرة الحرام، وسهام إبليس، والتميع في الحديث
والضحكة المتكلفة (البريئة) والمصافحة و.. و.. فالتقدم بعينه.. التقدم! إلى أين ؟إلى
غضب الله ومقته.
( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن
تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً) (1) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رجل من
سادات قريش- في نفسه- لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت
عمي " قال مقاتل: هو طلحة بن عبد الله".
قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدّثَ
به نفسه، فمشى إلى مكة من حراء "وقد كان مع رسول الله مع عشرة من أصحابه"،
على قدميه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقاً.. فكفّر الله عنه.
وقيل ليس بطلحة، إنما هو رجل من المنافقين
قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن
حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟! والله لو مات لأجَلْنا السهام على نسائه، فنزلت
هذه الآية، فحرَّم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهنَّ حكم الأمهات، وهذا من خصائصه
صلى الله عليه وسلم تمييزاً لشرفه، وتنبيهاً على مرتبته صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي رحمه
الله: "
وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهنَّ، ومن استحل ذلك كان
كافراً".
وقَرَنَ القرآنُ الكريم إيذاءَ الرسول صلى
الله عليه وسلم بزواج نسائه من بعده وجعل ذلك ذنباً عظيماً، فإيذاء الرسول صلى
الله عليه وسلم من جملة الكبائر، ولا ذنب أعظمُ منه عند الله "إن ذلكم كان عند
الله عظيماً ".
بل إن الذين يؤذون الرسول الكريم فكأنما
يؤذون الله تعالى، وهؤلاء ملعونون في الدنيا والآخرة، وقد أعدّ الله لهم عذاباً مهيناً.
إن المسلم ليحمد الله تعالى أن أرسل إليه
رسولاً عظيماً رؤوفاً رحيماً. فله الحب والودُّ والإجلال والتقدير مدى الدهور.
أقول:
أنت الرحيم البَرُّ يا رب
أرسلت طه فازدهى العُرْبُ
حملوا هداه للورى قُدُماً
وبشرعه نوراً جلا الدربُ
فله سلام دائم عبِقٌ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق