نقعُ بين
الفَينة والأُخرى على دلائل تشير إلى أنَّ الكتب المطبوعة لم تسلمْ من علَلٍ
جمَّةٍ تسيءُ إلى الكتابِ من جوانبَ متعدِّدة، أدتْ إلى خروجه عن الوجه الذي أراده
مصنِّفُه، ومسالك هذه العلل كثيرة، وطرقُها شتَّى، قد تكونُ متعمَّدة أحيانًا، وقد
تكون هفواتٍ أحيانًا أخرى، وأخطرها الأولى؛ لأنَّ هدفَ فاعلها التَّحريف
والتَّشويه؛ لإغفال حقائق «علميَّة»، أو «اجتماعيَّة»، ولو سلكَ فيها مسلك الأمانة
العلميَّة لكانت خير شاهد على العصر الذي صُنِّفتْ فيه، ولبيَّنت حقيقة، وأوضحتْ مبهمًا،
وأزالت غامضًا.
لكنَّ هذا «الإغفال»
و«التَّحريف» سواء أكان مقصودًا أم غير مقصود لم يصمد أمام محاولات الباحثين
والدَّارسين التَّنقيب عنه، من خلال الأصول «المخطوطة»، أو من خلال «الإحالات»
التي يجدونها في غيرها من «المصنَّفات» والتي تشير صراحة إلى ذلك، على نحو ما
نجدُه في كتب «التَّراجم»، و«الأخبار»، وغيرهما.
من ذلك
الإشكال الذي بقيَ زمنًا مبهمًا في سبب
الخلاف الذي أدَّى إلى قطيعة بين شيخنا «أبي حيَّان» الأندلسيّ، و«ابن تيمية»
رحمهما الله، وعدم إدراك مراد «أبي حيَّان» فيما أورده في مقدَّمة تفسيره الكبير «البحر
المحيط»، ولم يعلمِ الدَّارسون حقيقته، أو إزالة إبهامه؛ بل إنَّ بعضهم ذهب إلى
تبريره مذهبًا بعيدًا لا يُظهره على النَّحو الذي كان من أجله.
يقول «أبو
حيَّان»: «وقد جرينا الكلام يومًا مع بعض من عاصَرَنا، فكان يزعمُ أنَّ علم
التَّفسير مضطَّرٌ إلى النَّقل في فهم معاني تراكيبه بالإسناد إلى مجاهد، وطاووس،
وعكرمة، وأضرابهم، وأنَّ فهم الآيات متوقِّفٌ على ذلك. والعجبُ أنَّه يرى أقوال
هؤلاء كثيرة الاختلاف، متباينة الأوصاف، متعارضة، ينقض بعضها بعضًا»، ويقصد في
كلامه هذا «ابن تيمية» المعاصر له، وبيَّن علَّة ذلك بقوله: «وعلى قول هذا المعاصر
يكون ما استخرجه النَّاس بعد التَّابعين من علوم التَّفسير، ومعانيه ودقائقه
وإظهار ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان، والإعجاز لا يكون تفسيرًا حتَّى
يُنقل بالسَّند إلى مجاهد. ونحو هذا الكلام ساقط».
وقد أرجعَ بعض
العلماء هذا التَّحامل من «أبي حيَّان» على «ابن تيمية» إلى أمورٍ كثيرة، منها
التَّقليل من شأن «سيبويه»، ومنها نسبته إلى «التَّجسيم»، على نحو ما يرويه «ابن حجر» في «الدُّرر الكامنة»
عند ترجمة «أبي حيَّان» إذ يقول: «وكان يعظِّم ابن تيمية ومدحه بقصيدة، ثمَّ انحرف
عنه، وذكره في تفسيره الصَّغير بكلِّ سوء، ونسبه إلى التَّجسيم. فقيل: إنَّ سبب
ذلك أنَّه بحث معه في العربيَّة فأساء ابن تيمية إلى سيبويه فساء ذلك أبا حيَّان،
وانحرف عنه، وقيل: بل وقف له على كتاب العرش فاعتقدَ أنَّه مجسم». وأكَّد ذلك في «الدُّرر»
عند ترجمته لـ«ابن تيمية» إذ قال: «ويُقال إنَّ ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه
نبيَّ النَّحو، ولا كان معصومًا؛ بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا، ما تفهمها
أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إيَّاه، وذكره في تفسيره البحر بكلّ سوء، وكذلك في
مختصره النَّهر».
وهو ما أثبته «السِّيوطيّ»
أيضًا في «بغية الوعاة» عند ترجمته لـ«أبي حيَّان» حيث قال: «ثمَّ وقع بينه وبينه مسألة نقل فيها أبو حيَّان شيئًا عن
سيبويه، فقال ابن تيمية: وسيبويه كان نبيَّ النَّحو، لقد أخطأ سيبويه في ثلاثين
موضعًا من كتابه، فأعرض عنه، ورماه في تفسيره النَّهر بكل سوء». وكذلك الأمر نجدُه
عند «الصَّفدي» في «أعيان العصر وأعوان النَّصر»، و«الشَّوكاني» في «البدر
الطَّالع»؛ بل إنَّ «أبا حيَّان» ظلَّ «يلعنه» حتى مات على نحو ما ذكره «السّبكيّ»
في «السِّيف الصَّقيل».
يظهرُ من هذه «النَّقول»
وغيرها أنَّ «أبا حيَّان» قد ذكر «ابن تيمية» بكلِّ سوء في تفسيره الكبير «البحر
المحيط»، وكذلك في مختصره «النَّهر الماد»، لكنَّ المطبوع منهما لا يظهر فيه أيُّ
ذكر بسوء، إلا ما أشرنا إليه فيما أوردَه في مقدِّمة «البحر»، وليس فيها ما يسيء.
والذي نجزمُ
به أنَّ ثمَّة أمرًا غير ظاهر قد وقع لكتب «أبي حيَّان» المذكورة، وأنَّ المدقِّق
والباحث سيرى «تلاعبًا» حدثَ في تفسير «النَّهر الماد» لـ«أبي حيَّان»، وأنَّ «حذفًا»
قد شاب المطبوع، يدلُّنا على ذلك ثبوت نصوص في «المخطوط» الأصل، حذَفها «النَّاشر»
من متن «المطبوع»، فـ«أبو حيَّان» قد ذكر
ما نسبه إليه «ابن حجر»، و«السّبكي» وغيرهما، وبيَّن سببَ الخلاف الذي جعله «يلعنه
حتَّى مات»، فقال عن «ابن تيمية» في «النَّهر المادّ»: «وقرأتُ في كتابٍ لأحمد بن تيمية
هذا الذي عاصرنا وهو بخطِّه سمَّاه «كتاب العرش» أنَّ الله تعالى يجلس على الكرسي،
وقد أخلى منه مكانًا يقعدُ فيه معه رسول الله صلى الله عليه وسلم. تحيَّل عليه
التَّاج محمد بن علي بن عبد الحقّ البارنباري وكان أظهر أنَّه داعية له حتَّى أخذه
منه وقرأنا ذلك فيه». ووقفنا على هذا النَّصِّ في مخطوطتين من مخطوطات الكتاب، وقد
أُثبتَ في طبعة جديدة له صاردة عن «مؤسسة الكتب الثَّقافيَّة» بتقديم وضبط «بوران
الضّنَّاوي» و «هديان الضَّنَّاوي».
وقد أكَّد ذلك
«السّبكيّ» بقوله: «المصنَّف المذكور هو كتاب العرش لابن تيمية، وهو من أقبح كتبه،
ولما وقَّف عليه أبو حيَّان مازال يلعنه حتَّى مات بعد أن كان يعظِّمُه».
وقد بيَّن «الكوثريّ»
هذا «التَّلاعب» و«الحذف» فقال في «تبديد الظَّلام»: «وليست هذه الجملة بموجودة في
تفسير البحر المطبوع، وقد أخبرني مُصحِّحُ مطبعة السَّعادة أنَّه استفظعها جدًّا،
وأكبر أن ينسب مثلها إلى مسلم، فحذفها عند الطَّبع؛ لئلا يستغِّلها أعداء الدِّين،
ورجاني أن أسجِّل ذلك هنا استدراكًا لما كان منه، ونصيحة للمسلمين».
يظهرُ من خلال
ذلك السَّبب الحقيقيّ الذي دفع «أبا حيَّان» إلى التَّحامل على «ابن تيمية»، ولمَ
ذكره في مقدَّمة تفسيره «البحر»، ولمَ خصَّص «مجاهدًا» بالذّكر أولاً؛ إذ إنَّ جلوس
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مرويٌ عنه.
وحجَّة مصحّح
مطبعة «السَّعادة» ليست بحجَّة جديدة، فقد ذكرَ قريبًا منها «النَّووي» في شرحه لـ«مسلم»
فقال: «وقد حمل هذا المعنى بعضَ النَّاس على أن أزال هذا اللَّفظ من نسختِه
تورُّعًا عن إثبات هذا»، وهو يشير إلى حذفٍ حصلَ في بعض نسخ «صحيح مسلم»،
والدَّافع إلى ذلك «التّورُّع» عن إثبات ما لا يراه النَّاسخ مقبولا، وما علموا
أنَّ الأمانة العلميَّة في النَّقل أعلى مراتب الورع وأسماها.
بل نظنُّ أنَّ «صحيح مسلم» لم يخلُ أيضًا من «حذفٍ» أصابه، وسقوط بعض «أحاديثه»،
وأنَّ النُّسخة التي بين أيدي النَّاس اليوم تختلف عن النسُّخة التي كانت فيما
مضى، وقد يُسارع بعضُ المدافعين إلى اتِّهامنا بما اعتادتْ عليه ألسنتُهم من «شتمٍ»،
أو «تكفير»، أو «طعنٍ»، متناسين أنَّ الحقَّ أولى بالاتِّباع.
وقد نصَّ محقِّقُ كتاب «علل الأحاديث في كتاب الصَّحيح لمسلم بن الحجَّاج»
تأليف «أبي الفضل بن عمَّار الشَّهيد تـ317هـ» «علي بن حسن بن علي الأثريّ الحلبيّ»
الصَّادر عن «دار الهجرة» في طبعته الأولى عام «1991م» إذ قال: «وتكمنُ قيمة هذا
الكتاب في ناحيتين بارزتين:
الأولى: أنَّه تكلَّم على أحاديث
لم يسبق إليها، وكذا لم يُلحق فيها فيما اطَّلعت.
الثَّانية: أنَّ فيه ثلاثة أحاديث
معزوَّة إلى صحيح مسلم وليست في نسختنا منه، وإنَّما في بعض نسخه».
وينصُّ «ابن عمَّار» بقوله: «ووجدتُ» في إشارة واضحة إلى أنَّ النُّسخة
التي يقرأ منها فيها هذه «الأحاديث»، وهي:
الأوَّل: قوله: «ووجدتُ فيه عن
أبي موسى محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شيبة عن قتادة عن سعد بن هشام عن
عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم أمرَ بالأجراس أن تُقطع من
أعناق الإبل يوم بدر». قال «أبو الفضل»: «وهذا حديث لا أصل له عندنا من حديث شعبة،
وإنَّما يُعرف من حديث سعيد بن أبي عروبة».
وقد نبَّه محقِّقُ الكتاب في حاشيته على عدم وجوده في النُّسخة الحاليَّة
فقال: «لم أقف عليه في صحيح مسلم لا من هذه الطَّريق، ولا من غيرها».
الثَّاني:
قوله: «ووجدتُ فيه عن القواريري عن أبي بكر الحنفي عن عاصم بن محمد العمري عن سعيد
بن أبي سعيد المقبريّ عن أبيه عن أبي هريرة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
قال الله عزّ وجلَّ: أبتلي عبدي المؤمن، فإن لم يشكُني إلى عوَّاده أطلقتُه من
أسار علَّته، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثمَّ ليأتنف
العمل». قال «أبو الفضل»: «وهذا حديث منكر».
ونبَّه
محقِّقُ الكتاب في حاشيته أيضًا معزِّزًا رأيه برأي «ابن حجر» على عدم وجوده في
النُّسخة الحاليَّة، فقال: «ليس هو في نسختنا من صحيح مسلم، وقال الحافظ ابن حجر
في النكت الظراف بعد أن أورده: قال البيهقي في الشّعب عن بعض الحفَّاظ: إنَّ
مسلمًا قد أخرجه عن القواريري عن أبي بكر عن عاصم. قال. ونظرتُ في كتاب مسلم فلم
أجدْه، ولم يذكره أبو مسعود في تعليقه. قلت –ابن حجر-: أراد بقوله بعض الحفَّاظ
أبا الفضل بن عمَّار، المعروف بالشَّهيد، فإنَّه ذكره في الجزء الذي تتبَّع فيه
أوهام مسلم».
قلتُ:
انظر رعاكَ الله إلى نصِّ «ابن حجر» نفسه إلى أنَّه لم يجدْه في «صحيح مسلم» أيضًا،
وانظر إلى نصَّه بصحَّة نسبة هذا الكلام إلى «أبي الفضل» واطِّلاعه على كتاب «العلل».
الثَّالث:
قوله: «ووجدتُ فيه عن عبد بن حميد عن مسلم بن إبراهيم عن حمَّاد بن سلمة عن ثابت
عن أنس قال: كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدُّعاء قال: جعل الله
عليكم صلاة قوم أبرار، يقومون الليل، ويصومون النَّهار، وليسوا بأثمة ولا فجَّار».
قال «أبو الفضل»: «ورفْع هذا الحديث إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خطأ، وأحسبه
من عبد بن حميد».
ونبَّه محقِّق
الكتاب في حاشيته عليه أيضًا فقال: «لم أقف عليه فيه. ولكن قال الضِّياء المقدسي
في الأحاديث المختارة بعد أن رواه من طريق عبد بن حميد: وذكرَ بعضُ المحدِّثين
أنَّ مسلمًا رواه عن عبد بن حميد بهذا الإسناد، ولم أره في صحيح مسلم والله أعلم».
قلتُ:
وليستْ هذه المواضع الثَّلاثة التي سقطتْ فيها «أحاديث» من «صحيح مسلم»، فإنَّ
ثمَّة موضعين آخرين وقعتُ عليهما فيما بين يديَّ من المصادر:
الموضع الأوَّل:
أشار إليه «الحاكم» في «مستدركه» حيث قال: «وهذا حديث صحيح الإسناد. إنَّما تفرَّد
مسلم بإخراج حديث أبي موسى عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: خير نساء العالمين
أربع».
وبالرُّجوع
إلى «صحيح مسلم» عن «أبي موسى» نجد نصًّا مغايرًا لما نصَّ عليه «الحاكم» حيث جاء:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرِّجال كثير، ولم يكمل من النِّساء
غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإنَّ فضل عائشة على النِّساء كفضل
الثَّريد على سائر الطَّعام».
قلتُ:
وفيه أمران:
الأوَّل:
أنَّ «مسلمًا» ذكره في «فضل خديجة بنت خويلد»، وليس في نصِّه ما يدلُّ على ذلك.
الثَّاني: أنَّ
«الزِّيلعيّ» نصَّ على أنَّ هذا «الحديث» لم يخرِّجه «مسلم» في «صحيحه» فقال: «والحديث
رواه البخاري في صحيحه...ورواه الباقون إلا مسلمًا». فمن أين أدخله في باب لا
يدلَّ عليه؟
الموضع
الثَّاني:
أشار «ابن حجر الهيتمي» في «الصَّواعق المحرقة» أيضًا إلى «حديث» مرويٍّ في «مسلم»،
إذْ قال: «وفي رواية مسلم: ومن تخلَّف عنها غرق»، لكنَّنا لا نجدُ هذا «الخبر» في
النُّسخة التي بين أيدينا.
وثمَّة مواضع
كثيرة تنصُّ على وقوع «تصحيف»، و«تحريف» في «صحيح مسلم»، ولا يسمح المقام
بتتبُّعها جميعًا، ذكر طرفًا منها بعض «شرَّاح «الحديث» على نحو ما نجدُه مثلاً في
«فتح الباري» لـ«العسقلاني» إذ يقول: «فذكر أبو مسعود أنَّ مسلمًا روى هذه
الزِّيادة في كتابه، وذكرها أيضًا أبو بكر البرقاوي في هذا الحديث. قال الحميدي:
وليست عندنا في كتاب مسلم».
وهذه الإشارات
لم تقتصر على «صحيح مسلم»؛ بل نجدُها أيضًا في «صحيح البخاريّ»، من ذلك اختلافهم
في «حديث القردة»، فقد ورد في «صحيح البخاري» برقم «3849»: «حدَّثنا نعيم بن
حمَّاد حدَّثنا هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيتُ في الجاهليَّة قردةً
اجتمع عليها قردة قد زنَت، فرجموها، فرجمتُها معهم».
وزعمُ بعضُ «شرَّاحه»
أنَّ هذا «الحديث» ليس في نسخ «البخاري» أصلا، قال «العيني» في «عمدة القاري»: «مع
أنَّ هذه الحكاية لم توجد في بعض نسخ البخاري. وقال الحميدي في «الجمع بين
الصحيحين»: هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأنَّ أبا مسعود وحده ذكره في «الأطراف».
قال: وليس هذا في نسخ البخاري أصلا، فلعلَّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري».
وفي موضع آخر ينقلُ «العيني» كلامًا عن وجوب إسقاط بعض «أحاديثه» لعدم وجودها في
نسخ0 فقال: «قال صاحب التَّلويح: هذا يحتاج إلى نظر، وقال غيره: هذا ليس بموجود في
نسخ البخاريّ فينبغي إسقاطه».
وفي موضع آخر
ذكروا «زيادة» في «حديث الفئة الباغية»، قال «الحميدي»: «في هذا الحديث زيادة
مشهورة، لم يذكرها البخاري أصلا من طريقي هذا الحديث، ولعلَّها لم تقع إليه فيهما،
أو وقعت فحذفها لغرض قصده في ذلك». وقال «أبو مسعود»: «لم يذكر البخاري هذه
الزِّيادة». وأشار «المزي» في «تحفة الأشراف» أنَّ رواية «البخاري» ليس فيها: «تقتل
عمارًا الفئة الباغية»، وعلَّل «ابن حجر» سبب الحذف بقوله: «ويظهر لي أنَّ البخاري
حذفها عمدًا وذلك لنكتة خفيَّة» تدلُّ على «فهمه وتبحُّره في الاطِّلاع في علل
الحديث».
قلتُ:
سواء أكان حذفُها عمدًا، أم لنكتة، أم لغيرها، فهي لم توجد في الأصل، وإذا كان
حذفها لنكتةٍ دليلا على تبحُره، وفهمه فإنَّ إثباتها دليل على عدم الأمانة
العلميَّة في نقلهم عن «الصَّحيح».
ومن «التَّصحيف»
الذي وقع لـ«صحيح البخاري» نتيجة اختلاف نسخه أيضًا ما ذكره «ابن تيمية» في «فتاويه»،
و«إقامة الدَّليل»: «قال البخاري في باب «سجدة المسلمين مع المشركين: المشرك نجس
ليس له وضوء. وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء. ووقع في بعض نسخ البخاري: يسجد على
وضوء. قال ابن بطَّال: الصَّواب إثبات «غير»؛ لأنَّ المعروف عن ابن عمر أنَّه كان
يسجد على غير وضوء».
وقد وصلتْ يدُ
العبث إلى غيرهما من الكتب، فلم يكن حكرًا عليهما، حيث نبَّه بعض الباحثين
المحقِّقين إلى وجود اختلاف في النَّقل، ورجَّح أن يكون متعمَّدًا قصدَ فيه صاحبه «الكذب»،
على نحو ما ذكره في نقل «ابن تيمية» عن الحافظ «ابن عبد البرَّ» فقال في «فتاويه»:
«وقد ثبتَ في الصَّحيحين من غير وجه أنَّه كان يأمر بالسَّلام على أهل القبور،
ويقول: قولوا: السَّلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء
الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منَّا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم
العافية، اللهمّ لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم، واغفر لنا ولهم. فهذا خطاب
لهم. وإنَّما يخاطب من يسمع. وروى عبد البرِّ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم
أنَّه قال: ما من رجل يمرُّ بقبر رجل كان يعرفه في الدُّنيا فيسلِّم عليه إلا ردَّ
الله عليه روحه، حتَّى يردّ السَّلام». وأكَّد ذلك في «منهاج السُّنَّة»، و«اقتضاء
الصِّراط»، فقال الباحث: «وبالمقارنة بما في الاستذكار لابن عبد البرَّ «463هـ»
نجدُ أنَّه تصَّرف في الحديث نصرة لمذهبه حيث النَّصّ الصَّحيح: أخبرنا أبو عبد الله عبيد بن محمَّد قراءة
منِّي عليه سنة تسعين وثلاثمئة في ربيع الأوَّل قال: أملت علينا فاطمة بنت
الرِّيّان المستملي في دارها بمصر في شوَّال سنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة قالت:
حدَّثنا الرَّبيع بن سليمان المؤذِّن صاحب الشَّافعي، قال: حدَّثنا بشر بن بكير عن
الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما من أحدٍ مرَّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدُّنيا فسلَّم عليه إلا
عرفه، وردَّ عليه السَّلام، فشتَّان بين
«إلا ردَّ الله عليه روحه» و «إلا عرفه».
وبالمحصِّلة:
إنَّ مسألة الأمانة العلميَّة في علم «التَّحقيق»، و«النَّقل»
في التَّأليف مسألة في غاية الأهميَّة لما لها من دور في «تحريف» «الكتاب» عن وجهه
الذي أراده مؤلِّفه، وقد تؤدّي عند عدم توفِّرها إلى الوهْم في النَّقل عن صاحبه
مما يفتح الباب واسعًا أمام التَّغيير والتَّبديل التي قد تصل إلى درجة «الكذب»
أحيانًا.
د. محمد عناد
سليمان
15 / 11 / 2015م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق