يا أمير المؤمنين، هذا مدد
من المسلمين قادم إلى المدينة من اليمن يريدون القتال في سبيل الله، وقد جهَّزوا
أنفسهم للسفر إلى العراق، ليكونوا في الجند الذين استعدوا لفتح إيران وما وراء
النهرين، وهم ينتظرون الإذن منك للسفر.
قال الفاروق عمر: دعهم
ينتظرون قليلاً كي أودعهم، ثم إني أريد أن أسألهم عن أويس بن عامر.
يا أمير المؤمنين، إنني
لفي عجب مما تصنع، أفكلما جاء مدد من اليمن سألتهم عن أويس بن عامر هذا! فما شأنه
يرحمك الله.
سترى ذلك – إن شاء الله –
حين أراه وأكلمه وأعرف خبره.
قال عبد الله بن عمر لصاحب
أبيه: تلَبَّث يسيراً حتى ينقضي عجبك، فأمير المؤمنين لا يفعل أمراً إلا إذا كان
مهماً، أو له فيه الخير والبركة.
قال الرجل لعبد الله:
أوتعرف أنت يا عبد الله، لمَ يسأل أمير المؤمنين عن هذا الرجل كلما جاء مدد من
اليمن.
قال عبد الله: لا، ولِمَ
أسأل والدي عن الأمر، فهو إن أراد أن يذكره لي ذكره دون أن أسأله إياه، ولعلنا
ندرك السبب إن رأى بغيَته وحدَّثه..
وانطلق الثلاثة إلى معسكر
المسلمين من أهل اليمن خارج المدينة، وسلَّم أمير المؤمنين على جمع المجاهدين،
وذكّرهم بالجهاد، وحضّهم عليه وبيّنَ أنه ذروة سنام الإسلام، وبه يعلو شأنه، ثم
نادى: أفيكم أويس بن عامر؟
قال أحدهم: - وكان شاباً –
لبيك يا أمير المؤمنين.
قال عمر: أأنت هو؟
قال: نعم يا أمير
المؤمنين، أنا من هتفت باسمه.
قال عمر: أانت من قبيلة
مراد؟
قال: أجل، من قبيلة مراد.
قال عمر: أمن بطن قَرَن؟
قال: من بطن قَرَن يا أمير
المؤمنين.
قال عمر: أكان بك بَرَصٌ
فبرأتَ منه إلا موضعَ درهم؟
قال: قد كان بي برصٌ
فشفاني الله منه إلا موضع درهم لم يزل في جسمي يذكّرني بفضل الله عليّ ومنّته إذْ
أذهب عني الأذى وعافاني وجمَّلني في أعين الناس ،فله الحمد والشكر على نعمائه يا
أمير المؤمنين.
قال عمر: ألك والدة لا
تزال حيّة ترزق وأنت بها بارٌّ؟
قال: نعم، أسأل الله أن
يطيل عمرها ويحسِّن عملها، ويكتب لي ثواب البر بها، فتحت قدميها جنتي.
قال عمر: أنت يا أويس على
خير عميم وفضل عظيم.
قال: بشَّرك الله بالخير –
يا أمير المؤمنين – فمن دلّك عليَّ وعرَّفك بي فسألتَ عني، واجتهدتَ أن تراني؟
قال عمر: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
((يأتي عليكم أويس بن
عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مرادٍ، ثم من قَرَن، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع
درهم، له والدة، هو بها برُّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك
فافعل)).
سمعَ الجمع هذا الحديث،
فضج المكان بالتهليل والتكبير، والصلاة على سيدهم وحبيبهم محمد عليه الصلاة
والسلام.
يا الله، ما أروع حبَّ
النبي الكريم أمّتَه! وما أسعدهم بانتمائهم إليه! إنهم يشعرون بوجوده، وهو في جوار
ربه، ويعيشون معه بأرواحهم وقلوبهم، ويرون في كل آنٍ ولحظةٍ عظيمَ فضله، وجلال
قربه.
قال أويس: والله إني لأحب
الله ورسوله، وأتمنى لقاءَهما.
قال عمر: صدقتَ يا أويس،
وما حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذا إلا لعلمه بذاك وأنك من أهل الله وخاصته، وقد مدحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: ((إن خير التابعين رجلٌ
يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمُروه فليستغفر لكم)).
قال أويس: وكيف أستغفر لك
يا أمير المؤمنين، وأنت أفضل مني، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أوائل
العشرة المبشرين بالجنة. أنت الصاحب، وأنا التابع، فما استغفاري لك يرحمك الله؟!
قال عمر: رحمك الله يا
أويس، فمن يدّعي أنه خير من إخوانه؟! ومن يزعم أن المستغفر، أو الداعي، أفضل من
المستغفَر له أو المدعوِّ له؟
إنني استأذنت رسول الله في
العمرة، فأذن لي وقال: ((لا تنسنا يا أخيَّ من دعائك)) فقال كلمة ما يسرُّني أن لي
بها الدنيا.
قال أويس – وقد اغرورقت
عيناه بالدموع لهذا الفضل العظيم الذي حباه إياه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى -:
وما فائدة دعائي يا أمير المؤمنين؟!
قال عمر: هذا إرشاد لنا –
يا أويس – إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء مَنْ تُرجى إجابته، وأنت مستجاب
الدعوة، فلا تحرمنا دعاءك يا أخي.
رفع أويس يديه إلى السماء،
وتوجّه بوجهه وقلبه إلى مالك الملك وملك الملوك، وسكب العبرات أمامه وتذلل أمام
عتباته، ونادى بلسان الحال والمقام ربّه، واستغفر لعمر وللمسلمين..
يا رب، يا عظيماً بنفسه،
يا كريماً بعطائه، يا رحيماً بخلقه، إليك نشكو ضعفنا، وقلّة حيلتنا، وهواننا على
الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا لذنا بجنابك، ولجأنا إلى رحابك، فلا ترّدنا
خائبين، يا رب العالمين..
إذا كان أمير المؤمنين عمر
الفاروق خليفة المسلمين الذي أذلّ الروم، ومرّغ رؤوس الفرس، ونشر الإسلام شرقا
وغربا يحتاج إلى الاستغفار ويسأل الصالحين أن يستغفروا له!، فماذا يقول معشر
الغثاء الذين هانوا وذلوا أمام أعدائهم، وأضاعوا كرامتهم وقبلوا الدنيَّة في
حياتهم؟ رحماك يارب، هيِّء لنا من أمرنا رشدا ..
قال له عمر: أين تريد؟
قال أويس: أريد الكوفة
قال عمر: ألا أكتب لك إلى
عاملها فيكرم وفادتك، ويكفيك مؤونتك؟
قال أويس: لأن أكون في
عامة الناس أحبُّ إلي من أن أكون سريَّاً يشار إليه بالبنان. وانطلق أويس مع
اليمانيين إلى الكوفة حامياً للثغور، مجاهداً في سبيل الله، يحيا حياة المساكين
ويرضى من الدنيا الفانية بما يسُدُّ الرمق، فهو يريد أن يخرج منها خفيفاً، لا له
ولا عليه.
ومرت سنوات على هذا
اللقاء، وجاء موسم الحج، فوفد أهل الكوفة على عمر رضي الله عنه، وفيه رجل كان
غنياً موسراً، يرى من أويس عزلة عن الناس، ورضىً بالكفاف من الحياة – ينشغل بنفسه
عن تفاهات الحياة – فكان هذا الرجل يسخر من أويس ويبخسه حقّه.
فقال عمر: هل هنا أحد من
القرنيين؟
قال الرجل: أجل يا أمير
المؤمنين، أنا منهم.
فسأل عمر عن أويس، فكان
ردُّ الرجل ردَّ مَنْ يجهل مكانة الصالحين ولا يأبه إلا للوجهاء من الناس أصحابِ
المال الوافر، والغنى الظاهر، فأعاده عمر إلى صوابه وردَّدَ على مسامعه وصفَ
الرسول الكريم صلوات الله عليه لأويس، وأمره إن عاد إلى الكوفة أن يلتمس استغفار
أويس له..
وعاد الرجل إلى الكوفة
والتمس أويساً فلقيه، واعتذر إليه عما بدر منه وقال له: استغفر لي يا أخي.
قال أويس: أنت أحدث عهداً
بسفر صالحٍ، فقد رجعت من الحج وعُدتَ مغفورا لك دون ذنوب كيومَ ولدتك أمك، فأنت
أحق أن تستغفر لي.
فأبى الرجل أن يفارق
أويساً إلا أن يستغفر له.
قال أويس حين رأى تحوّلا
في نظرةِ الرجل إليه: ألقيت عمر أمير المؤمنين فأخبرك بما قاله النبي صلى الله
عليه وسلم ؟
قال الرجل: نعم..
فاستغفر أويس له، ودعا له
خيراً.
وفطن الناس إلى مكانة
أويس، وقد جهد أن لا يفطَنوا إلى ذلك، فخرج عنهم كي لا ينشغل بهم عن خالقه سبحانه.
روى عبد الله بن مسلم قال:
غزونا أذربيجان زمن عمر بن
الخطاب، ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض علينا، فحملناه، فلم يستمسك، فمات،
فنزلنا، فإذا قبر محفور، وماء مسكوب، وكفنٌ وحنوط، فغسلناه، وكفنّاه وصلينا عليه،
ودفناه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا، فعلَّمنا قبره، فإذا لا قبر ولا أثر.
رياض الصالحين: باب
زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم
وطلبِ زيارتهم، والدعاءِ منهم، وزيارة المواضع الفاضلة
وطلبِ زيارتهم، والدعاءِ منهم، وزيارة المواضع الفاضلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق