لم أكن أتخيل أن أعيش إلى
زمن يقوم فيه الناس بتوزيع الحلوى بمناسبة الموت والقذائف التي تسقط على رؤوس
مواطنين آخرين من أبناء جلدتهم ودينهم ووطنهم...
ولكن هذا بالضبط ما يحصل
في المسالة السورية المحكوم بقواعد اللامعقول واللامنطق ... حدث ذلك من قبل في
الضاحية حين كان حزب الله يضرب بمدافعه في القصير والقلمون ويحصل الآن في الريف
الدمشقي والحلبي حين تنفجر حوزات وحسينيات في الضاحية الجنوبية معقل الشيعة في
لبنان.
التفجير الذي شهدته
الضاحية عمل إجرامي بكل تأكيد ولا بد من إدانته بكل العبارات، والجريمة لا تبرر
ولا تكرر، ولكن تفسيرها المرير يضعنا مباشرة أمام مسؤوليات خطيرة وبالغة في
التحدي.
والانتحاريون الثلاثة
الذين اختاروا أن يكونوا وقوداً للموت على مركب الانتحار هم نتيجة طبيعية لفكر
التخوين والتكفير الذي يمارسه الطرفان على نطاق واسع في استباحة دم المخالفين، وكل
عبارة تستهدف تخوين طائفة أو تكفيرها فإنها مشروع فتنة طامية وعلى الأول فيها وزر
الآخر، ولا يراق دم من بريء إلا كان وزره على من أفتى أو أمر أو رضي أو شمت،
وقديماً قال رسول الله عن منازل جهنم: للمحرض تسعة وتسعون وللقاتل واحدة .
قاعدة الحاضنة الشعبية
للتطرف فكرة مسمومة بلهاء استخدمها النظام ضد الشعب السوري، وفي إحصاء رقمي مفجع
سمع السوريون رئيسهم بشار الأسد وهو يتحدث عن حاضنة الإرهاب في سوريا، وسمعوه وهو
يحدد ما يقصده بالضبط بهؤلاء الإرهابيين المستحقين للموت بانهم ملايين.
وملايين جمع مليون، وأقل
ما تصدق فيه في اللغة والواقع هو ثلاثة ملايين فما فوق، على أن الجمع أقله ثلاثة
وقد يمتد إلى ما لا نهاية.
لقد كان هذا التصريح أسوأ
تصريح سياسي يرتكبه مسؤول مباشر في هذه الحرب، وقد كرس اصطفافاً غير معقول ولا
مسؤول بين نصف الشعب ونصفه الآخر، بواقع رقمي مرعب لا يمكن تخفيضه أو الالتفاف
عليه.
لا يوجد لدي أدنى شك في أن
كل قطرة دم تسيل في الحرب المجنونة إياها إنما يتحمل وزرها النظام الذي أمر بإطلاق
الرصاص على المتظاهرين وقام باعتقالهم في عنابر التعذيب حتى الموت، وحلفاؤه الذين
جاؤوا يؤازرونه في مظالمه، ولكن من يقاوم الظلم بالظلم والعسف بالعسف إنما يدفع
العالم للمساواة بين الضحية والجلاد، ويحول الجميع إلى جلادين.
ولكن الجنون لا يعالج
بالجنون، والحرب بهذا المعنى ستمتد إلى ما لا نهاية، ولن تنتهي هذه الحرب حتى ياتي
جيل يقول: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله
رب العالمين.
تائهة وبائسة .. هي دعوات
التسامح والوئام في عصر الحنون والجرب، ويبدو دعاة اللاعنف في هذه الأيام أكثر
الناس بؤساً وحزناً، فكلام الحكمة لا سامع له في عصر الرصاص، وقديماً قال شاعر الجنون....
نطق الرصاص فما يباح كلام .....وجرى القصاص فما يتاح ملام.....
ولكن أصحاب المبادئ لا
يمكنهم أن يكونوا وقوداً في الحروب الطاحنة حيث يشاء لهم الجزارون، وعلهم أن
يرفعوا الصوت ضد كل جريمة ضد الناس مهما كانت المظالم التي ذاقوها وعانوا منها.
من الغريب أن من ذاق الظلم
يعرف مرارته وقهره، ولكن يبدو أن من الناس من لا يتعلم من درس الظلم شيئاً، فكثير
من الشعوب المظلومة تحولت إلى شعوب ظالمة حين دار بها الزمن، وفي الحالة اليهودية
مثلاً فقد عانى اليهود مظالم النازية عشرات السنين ولكن اليهودي تحول إلى نازي
جديد عندما أتاحت له الأيام أن يمتلك أسلحة عدوه، ويبدو أنه لم يتعلم من درس
الحياة شيئاً.
تقول إحصائيات وتخمينات
ينشرها إعلام (المقاومة) إن الشيعة في لبنان مصطفون مع قيادة حزب الله وقراراته
بواقع 94 بالمائة، وهو رقم محزن ومؤلم، وأشك في صدقه، ولكنه مع ذلك لا يخول أحداً
الحق بمحاسبة طائفة بعينها لما اقترفه أفراد منها ولو كانوا كثرة غالبة، فمنطق
الإسلام والعقل والبرهان أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرء مؤاخذ بإقراره،
وأنه لا ينسب لساكت قول، وأن كل نفس بما كسبت رهينة.
في النهاية ستكون هذه
التفجيرات حدثاً جيداً في ملف القصف الروسي على السوريين، وسيقول الروس نحن ندافع
عن أمننا القومي، وإذا لم نضربهم في عقر دارهم فإنهم سيضربوننا في عقر دارنا،
والعاقل من اتعظ بغيره، وهي حرب مفروضة علينا وليس لنا فيها خيار.
كم نحتاج اليوم لترميم
العلاقة بين السوريين واللبنانيين، وكم سيدفع اللاجئ السوري من قهر وظلم بعد هذه
التفجيرات المجنونة، وكم نحتاج من الأمل والعمل ليصدق الناس أنهم عاشوا هنا قروناً
طويلة مذاهب وأدياناً مختلفة ولكنهم كانوا يصنعون رغيف الخبز مشتركين، ويأكلونه
متقاسمين، وكانوا يتسامون على الأحقاد المريرة التي تستيقظ بين كل حين وآخر لتضرب
في أقدس ما يعتقد الناس من خطاب الحرية والكرامة.
لست أدري إن كان هناك من
لا يزال يعزف هذه المزامير التي طحنتها الحرب، وخربت أوتارها بنشاز السلاح ومكر
السياسة، ولكنني ساستمر في عزف هذه المزامير، فهي خيارنا الوحيد، ولن يكون لبلادنا
حاضر ولا مستقبل حتى ندرك أنه لا شرف لبندقية ولا مجد لقاتل، وأن الإنسان أخو
الإنسان أحب أم كره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق