بعد أن أنهى عقبة بن نافع بناء
القيروان قاد عشرة آلاف فارس من أشد فرسانه وخيرة رجاله، وأناب على القيروان عمر
بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي مع (600) مقاتل ثم سار غرباً عازماً على التوغل
في غرب إفريقية دون حساب للصعاب.
حاصر عقبة في أول حملته مدينة
(باغاية) وهي أهم المراكز العسكرية الهامة على مدخل جبال الأوراس من ناحية الشرق،
بعد أن فتك بحاميتها الرومية.
ثم ترك حصارها واتجه غرباً إلى
إقليم الزاب الخصب الفسيح، وكانت عاصمته (مسيلة) فقضى على حاميتها الرومية واستولى
عليها. وبذلك تصبح هذه البلاد الغنية بمواردها الزراعية قوة للمسلمين ومخزن غذاء
لهم.
واعتبر - كما يشير المؤرخون - أن
استيلاء المسلمين على إقليم الزاب وفتحهم لمسيلة نقطة تحول حاسمة في سير فتوح
إفريقية، حيث كانت الحرب تدور بين المسلمين والروم، وكان البربر يقفون موقف
المحايد بين الطرفين، ولكن إقليم الزاب هو إقليم بربري وتقطنه قبائل بربرية، مما
جعل هؤلاء يشعرون وكأنهم مقصودون بهذا الفتح، ولهذا نجدهم عندما استغاث بهم الروم
هبوا لنجدتهم.
وعندما وصل عقبة إلى (تاهرت) وجد
أمامه الروم والبربر، فقاتلهم وانتصر عليهم بعد أن دفع الثمن غاليا.
ووصل عقبة ومن معه إلى طنجة، وكان
حاكمها (يليان) الذي بادر إلى مسالمة المسلمين والنزول على شروطهم دون أن يعرض
الناس إلى سفك الدماء. وأسرَّ هذا إلى عقبة أنه خلَّف الروم وراءه ولم يبق إلا
البربر أمامه، ونصحه بأن لا يفكر في (الأندلس).
وأخذ عقبة بنصيحة يليان واتجه إلى
الجنوب، فحارب البربر في المغرب الأقصى حتى وصل إلى بلاد (السوس) معقل قبائل
المصامدة حيث فرق جموعهم، ثم تابع مسيره جنوباً حتى بلغ (وادي درعة) فبنى هناك
جامعاً رمزاً إلى وصول الإسلام إلى هذه الناحية القصية.
ثم دخل (السوس الأقصى) فأطاعته
قبائل (مصمودة) واستولى على معسكر كبير هناك كان يسمى (الأغمات) فبنى عقبة هناك
جامعا، ثم انحدر جنوبي (سهل مراكش) واحتل (إيجلليز السوس الأقصى) وكان هذا معقلا
للقبائل في الجبال، وبنى فيه عقبة مسجداً، وأطاعته قبيلة (جزولة الصنهاجية) ودخل
أهلها في الإسلام على يديه، فتركهم واتجه غرباً حتى وصل المحيط الأطلسي عند موضع
يسمى (ايفران يطوف) جنوبي وادي السوس. وهناك أقحم عقبة فرسه في البحر وأشهد الله
على أنه وصل إلى آخر البلاد غرباً ولو امتدت الأرض أمامه لاستمر في طريقه مجاهداً
في سبيل الله.
لقد كان كثير من المؤرخين المحدثين
يرون وصول عقبة إلى المحيط الأطلسي مجرد أسطورة، وأن أقصى ما يمكن أن يكون قد وصل
إليه عقبة هو منطقة (وهران) ومصب (وادي شلف) ولكن المؤرخ (صالح بن عبد الحليم) من
مؤرخي المغرب أيد القول بوصول عقبة إلى المحيط فعلا، فقد أورد من التفاصيل في
كتابه (روض القرطاس) ما لا يدع مجالا للشك في حقيقة وصوله إلى المحيط الأطلسي.
وبعد أن رأى البربر بأم أعينهم
فعال هذا القائد الهمام وهو يقحم فرسه في مياه المحيط ويشهد الله على أنه قام
برسالته إلى أقصى ما يستطيع فعله إنسان، أخذوا في التسابق لدخول الإسلام.
ويتجه عقبة من (إيغران يطوف)
شمالا، ليعبر وادي السوس مرة أخرى، فبنى على ضفته قرب المحيط رباطا ترك فيه رجلا
من رجاله يسمى (شاكر) تجمع إليه البربر من كل ناحية، ليصبح رباط شاكر مركزا
إشعاعيا لنشر الإسلام ومحجا لوفود القبائل البربرية.
لم يكن أعداء عقبة غافلين عما يقوم
به وما يحقق من انتصارات وفتوحات بل كانوا يتتبعونه ويتحينون الفرصة لمهاجمته
والقضاء عليه، وكان هؤلاء مجاميع متبقية من الروم والبربر، كان بإمكانهم مهاجمة
عقبة بعد وصوله إلى المحيط، ولكنهم آثروا تركه يبعد في خطوط مواصلاته ويفقد رجاله
وقواه شيئا فشيئا، فقد جربوا مواجهته وهو في عنفوان قوته فأخفقوا ولم يحصدوا إلا
الهزائم.
ولقي عقبة في طريق عودته إلى طنجة
مقاومة عنيفة من هؤلاء، ففي شما (وادي تنسيفت) تجمعت عليه قبائل (مصمودية) التي
انقلبت عليه بعد أن أطاعته، ووقفت في طريقه وحاصرته في قلب (جبال ورن) فسارعت
قبائل (الزناتة) من الشمال لنصرته في فك هذا الحصار، ودارت معركة حامية الوطيس راح
فيها الآلاف من المصامدة، وفقد عقبة عددا كبيرا من خيرة رجاله، ولكن الله نصره
عليهم، وكانت المعركة في موضع قريب من (وادي نفيس) وسمي موضعها (بمقبرة الشهداء).
قفل عقبة راجعا برجاله ومعه أبو
المهاجر وصديقه البربري (كسيلة) أمير قبيلة (أوربة) مكبلين بالحديد، وقد أجهد أبو
المهاجر نفسه في إقناع عقبة بالإحسان إلى كسيلة وفك قيده وإطلاق سراحه، فإن الرجل
أمير قومه، وهو صديق للمسلمين، دون أن يفلح في ذلك، فقد كان عقبة متصلبا في رأيه،
وهو يشتم رائحة خيانة كسيلة له.
ومن الطبيعي أن يفكر هذا الرجل
بالانتقام من عقبة فراسل رجال قبيلته أوربة من معقله، فتجمع هؤلاء وراسلوا الروم،
وكمنوا لعقبة عند بلدة (تهودة) جنوبي (بسكرة) متحصنين بأسوارها العالية المنيعة.
وكان عقبة بعد أن انتصف طريق العودة أذن لأصحابه في أن يسرعوا إلى القيروان، وقد
عضَّهم الشوق إلى أهلهم وعيالهم بعد غياب نحو سنتين في حروب متواصلة، فتركه معظم
رجاله، وبقي في قلة من أصحابه لم تزد على خمسة آلاف رجل.
وعند دخول عقبة ورجاله سهل تهودة
جنوبي (وادي الأبيض) كان الأعداء في انتظاره، فأكملوا حلقة الحصار حولهم بجموعهم
المؤلفة من الروم والبربر.
ولم يكن عقبة أو رجاله من
الفرارين، فترجل عقبة وأمر رجاله بأن يترجلوا لملاقاة العدو. وفي ملحمة فريدة من
نوعها سقط عقبة شهيداً مع عدد كبير من رجاله سقوط الأبطال، ليكتب ورجاله صفحة
رائعة من صفحات فتوح الإسلام في أواخر عام (64هـ/683م) وأوائل عام (65هـ/684م).
لقد كان استشهاد عقبة ملحمة
تاريخية شهيرة، صحيح أنها كانت هزيمة عسكرية، ولكنها كانت نصراً رائعاً لأهل
الإيمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق