تحدَّثنا في
مقال سابقٍ عن الفرق بين «الفاحشة» و«الزَّنا»
باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن»، وبيَّنا أنَّ «الفاحشة»
لا يُراد بها «الزَّنا» على نحو ما ذهب عامَّة «أهل التَّفسير»،
ورجَّحنا أقوالاً مغمورة تتناسب وسياق المعنى الذي وردت فيه هذه الألفاظ، وقد
رأينا خلال ذلك أنَّ بعض المفسِّرين قد أخذ على نفسه أنَّ لفظ «الفاحشة»
أينما وردت في «القرآن الكريم» فهي تعني «الزَّنا»؛
بل إنَّ بعضهم يرى أنَّ «الفاحشة المبيَّنة» أيضًا بمعنى «الزَّنا»،
فقال: «قال ابن الأَثير: وكثيراً ما تَرِدُ
الفاحشةُ بمعنى الزِّنا، ويسمَّى الزَّنا: فاحشةً، وقال اللَّه تعالى: إِلا أَن
يَأْتِينَ بفاحشةٍ مُبَيِّنةٍ؛ قيل: الفاحشة المبينة أَن تزني فتُخْرَج
لِلْحدّ، وقيل: الفاحشةُ خروجُها من بيتها بغير إِذن زوجها» انتهى
كلامه.
وفي هذا الكلام
نظر وبحث لا بدَّ منه، إذ إنَّ بعض آيات «القرآن الكريم» التي وردت
فيها لفظ «الفاحشة المبيَّنة »كانت خاصَّةً في أزواج «النَّبيّ»
صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أنَّ المراد بمعناها «الزِّنا» لعلوِّ
شرفهنَّ ومكانتهِنَّ، في قوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ
بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }«الأحزاب30.
لذلك رأينا أن
نقدِّم للقارئ ما يُراد بهذه الألفاظ من معنى يضعها في مكانها الصَّحيح، باعتماد
منهج «تفسير القرآن بالقرآن». إذ إنَّ لفظة «الفاحشة المبيِّنة»
وردتْ في كتاب الله في ثلاثة مواضع:
الموضع الأوَّل:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ
النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً
وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }«النِّساء19».
والخطاب في
أوَّلها موجَّه إلى «الذين آمنوا»، فهو عامٌّ لكلِّ من آمن بالله، وتختصُّ
في حكم «الميراث» من «النِّساء»، وما يوجب في أخذه
منهنَّ، وليس هذا مدار الحديث هنا، وإنَّما نقصد مجيء لفظ «الفاحشة المبيَّنة»،
ومذهب «أهل التَّفسير» فيها، الذين ذهبوا فيها ثلاثة مذاهب:
الأوَّل:
أنَّ المراد بـ«الفاحشة المبيَّنة» «الزِّنا»، وهو
عادة كثير منهم في تفسيرهم للفظة «الفاحشة» أينما وردت بـ«الزِّنا»،
كَمَا قَالَهُ «سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ»، وَ«الشَّعْبِيُّ»، وَ«الْحَسَنُ»، وَ«ابْنُ سِيرِينَ»، وَ«مُجَاهِدٌ»، وَ«عِكْرِمَةُ»، وَ«سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ»، وَ«أَبُو قِلَابَةَ»، وَ«أَبُو صَالِحٍ»، وَ«عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ»، و«السُّدِّيُّ»، وَ«سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ» وَغَيْرُهُمْ.
الثَّاني: المراد بها «النُّشوز»، وإليه ذهب «ابن مسعود»، «وابن عبَّاس»، و«عكرمة»، و«الضَّحاك»، و«قتاد»ة، و«أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ» وغيرهم.
الثَّالث:
المراد بها «البذاء باللِّسان» و«سوء العشرة» قولاً
وفعلاً، ويؤيِّده كما يذكر «الرَّازيُّ» في تفسيره قراءة «أبيّ
بن كعب»: «إلا أن يفحش عليكم».
وذهب «الطَّبريُّ» في تفسيره إلى الجمع بين هذه الثَّلاثة ورجَّحه، فقال: «وأولى ما قيل في تأوله قوله: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة،
أنَّه معنيٌّ به كلُّ فاحشة، من إيذاء باللسان على زوجها، وأذًى له، وزنا بفرجها،
وذلك أنَّ الله جلَّ ثناؤه عم بقوله: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، كلَّ فاحشة
متبينة ظاهرة، فكلُّ زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي: زنا، أو نشوز، فله
عضلها على ما بيَّن الله في كتابه، والتَّضييق عليها حتى تفتدي منه، بأي معاني
الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبيَّنة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى». انتهى كلامه.
ورأى «ابن عاشور» في «تحريره وتنويره» أنَّ «الفاحشة» هنا
عند جمهور العلماء هي «الزَّنا»، أي:
أنَّ الرَّجل إذا تحقَّق زنا زوجته فله أن يعضلها.
الموضع
الثَّاني: قوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ
مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }«الأحزاب30».
وقد ذهب «أهلُ
التَّفسير» إلى أنَّ المراد منها «الزِّنا»، وظاهر الآية أنَّها تتوجَّه بخطابها إلى أزواج النَّبيّ صلى الله عليه
وسلم، ومِّمن ذهب إلى ذلك «الطَّبريُّ» في
تفسيره حيث يقول: «من يزن
منكن الزِّنا المعروف الذي أوجب الله عليه الحد». انتهى كلامه. ويُلاحظ على «الطَّبريّ» أنَّه لم يجر على عادته ومنهجه في تفسيره من ذكر الآثار التي تقول بما ذهب
إليه.
والقول بأنَّ معنى «الفاحشة» هنا «الزِّنا» ارتضاه «القرطبيُ» في تفسيره ونسبه إلى قومٍ ولم يسمِّهم، فقال: «قال قوم: لو قدر الزِّنا من واحدةٍ منهنَّ، - قد
أعاذهنَّ الله من ذلك – لكانت تُحدُّ حدَّين لعظم قدرها». انتهى كلامه. وبما أنَّ الله قد أعاذهنَّ منه، فلمَ
القول بما ذهب إليه القوم؟!
أمَّا الموضع الثَّالث الذي ذكرت فيه «الفاحشة المبينَّة» فهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }«الطلاق1».
وقد ذهبوا إلى أنَّ المراد بـ«الفاحشة» هنا «الزِّنا» على نحو ما ذكره «الطَّبريُّ» في
تفسيره مرويًا عن «ابن
عبَّاس»، و«الحسن»، و«قتادة»، و«مجاهد»، و«صالح بن مسلم»، و«الضَّحَّاك بن مزاحم»، بينما ذهب «ابن عبَّاس» في
قول آخر إلى أنَّ المراد هو «البذاءة على أحمائها»، وفي قول آخر له المقصود من «الفاحشة» هو «المعصية» وهو قول «السُّدِّيّ» أيضًا، بينما ذهب آخرون إلى أنَّ المراد «النُّشوز» كما ورد في آيات سابقة، ومنهم «قتادة» في أحد أقواله، وذهب آخرون إلى أنَّ «الفاحشة المبيَّنة» هنا يراد بها «خروجها من بيتها»، وبه قال «ابن عمر»، و«السُّدِّيّ».
ورجَّح «الطَّبريُّ» القول الذي يرى أنَّ المراد هو «المعصية»، فقال: «والصَّواب
من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالفاحشة في هذا الموضع المعصية، وذلك أنَّ
الفاحشة هي كلُّ أمر قبيح تعدَّى فيه حدَّه، فالزِّنى من ذلك، والسَّرق والبذاء
على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدَّ منه، فأيُّ ذلك
فعلت وهي في عدّتها، فلزوجها إخراجها من بيتها ذلك؛ لإتيانها بالفاحشة التي ركبتها». انتهى كلامه.
وبعد متابعة هذه الأقوال في تفسير معنى «الفاحشة المبيَّنة» نجد أنَّ ثمة اختلافًا قد شابها، وأنَّ عامَّة «أهل التَّفسير» قد جعلوا «الزِّنا» معنى
من معانيها، وهو على ما ذكرنا سابقًا من تقريرهم بأنَّ «الفاحشة» أينما وردت فإنَّما يُراد بها «الزِّنا»، وباعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نقول:
إنَّ إطلاق معنى «الزِّنا» على لفظ «الفاحشة» أينما وردت في «القرآن الكريم» ليس بصحيح، ولا وجْه له في «التَّفسير»، بل هو تحميل للّفظ ما لم يحتمل، لعدة أسباب:
الأوَّل: قد وردت أقوال كثيرة
بأنَّ المراد منها غير «الزِّنا»، ولا
نرى مبرِّرًا لإشهار وجه «الزِّنا» على
غيره، إلا سيْر العلماء خلف بعضهم دون تحقيق أو تمحيص.
الثاني: ورود تناقض في بعض
الأقوال المنسوبة إلى شخص واحد، كما هو الحال عند «ابن عبَّاس» و«قتادة»، مما يشير إلى أنَّ ثمة تدليسًا في رواية هؤلاء، إذ لا يمكن أن يقول أحدهم
بـ«الزِّنا» مرة، وبـ«المعصية
أو «البذاءة» في أخرى.
الثالث: أن لفظ «الفاحشة المبيَّنة» قد ورد في «القرآن الكريم» في مواضعه الثَّلاثة
مختصٌّ بسمتين:
الأولى: أنَّها وردت منكَّرةً،
ولم تدخلها «ال التَّعريف»، في إشارة واضحة إلى أنَّ المراد بهما معنى آخر يختلف
عمَّا ورد سابقًا من آيات جاءت معرفة بـ«ـال»، وهو ما ذهب إليه «ابن عاشور» في «تحريره»، حيث رأى أنَّ «الفاحشة» في «القرآن» إذا وردت نكرة فهي «المعصية»، وإذا
وردت معرَّفة فهي «الزِّنا»، ونتَّفق معه في الأولى ونرجِّحها، ونختلف معه في الثَّانية
على نحو ما قرَّرنا في مقالنا السَّابق عن «الفاحشة و«الزِّنا.
الثَّانية: أنَّ لفظ «الفاحشة» قد وردتْ متبوعةً بنعتٍ واضح الدَّلالة وهو قوله: «مبيَّنة»، في إشارةٍ أيضًا إلى أنَّها
تختلف اختلافا تامًّا عن «الفاحشة» المعرَّفة
السَّابقة الذِّكر لها في أكثر من موضع.
الرَّابع: أنَّ الله عزَّ وجل قد
ذكر «الزِّنا» بلفظه الصَّحيح في سورة «النُّور»، فلو
كان المراد من هذه الألفاظ «الزِّنا»
لصرَّح بها في مواضعها، ولأضاف إليها صفة «التَّبيين» في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَاء سَبِيلاً }«الإسراء32». والله تعالى أعلم.
الخامس: أنَّ آخر لفظ لـ«لفاحشة» معرَّفًا بـ«ال»
على
إطلاقه، قد ورد في سورة «النُّور» في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}«النور19».
لتشمل جميع ما يقبح من القول والعمل، ويشمل جميع المعاني التي وردت في الآيات
السَّابقة. وما ورد منها بعد ذلك معرَّفًا فقد ورد في «قوم لوط»، و«الفاحشة» معروفة فيهم وبيَّناها في مقالنا السَّابق.
د. محمد عناد
سليمان
9 / 1 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق