الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2015-06-17

من شارع الحمرا إلى سجن الشرطة العسكرية في القابون في ثلاث ساعات من الحياة اليومية لمواطن سوري (الجزء 1-2) – بقلم: طريف يوسف آغا

قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
المكان مدينة دمشق والزمان حوالي الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس، قبل عدة أيام من عيد رأس السنة الميلادية الذي سيعلن نهاية عام 1980 وبداية 1981. كنت أعمل حينها بصفة مدنية في مؤسسة تنفيذ الانشاءات العسكرية (متاع) كمهندس متدرب حيث خرجت ذلك المساء بسيارة المؤسسة ذات اللوحة العسكرسة لمقابلة بعض الأصدقاء دون أن أعلم ماذا ينتظرني.

     كانت وجهتي شارع الفردوس، فقدت سيارتي من بيتنا في منطقة الجسر الأبيض عبر مشفى الطلياني، ولكن وأثناء عبوري لاشارة المرور التي تفصل ساحة عرنوس عن شارع الحمرا، كانت تلك الاشارة تتغير من الأخضر إلى البرتقالي، فما أن قطعتها حتى سمعت صافرة عرفت فوراً أنها لدورية المرور. ركنت السيارة على اليمين وانتظرت الشرطي المدني حتى وصل فبادرني بالكلام زاجراً: ألم تر أن الاشارة كانت حمراء حين قطعتها؟ أنتم العسكريون من تخلقون الفوضى في البلد وتتسببون بالحوادث! أجبته بهدوء: أولاً أنا مدني ولست عسكرياً، وثانياً الاشارة كانت برتقالية وليست حمراء حين قطعتها، وسرعتي لم تسمح لي بالتوقف المفاجئ وإلا لتسببت بحادث مع السيارات التي خلفي. كنت واثقاً مما أقوله ولم أكن مستعداً لدفع (المعلوم) للشرطي كما هو متعارف عليه في هكذا ظروف. نظر الشرطي إلي وفهم بأني لن أدفع، فقال لي بأنه سيأخذ بطاقتي ويذهب إلى سيارة الضابط الواقفة خلفنا ويسأله ماذا يريد أن يفعل. غاب الرجل عدة دقائق ثم عاد وقال لي بأن الضابط قرر بأنه لن يخالفني هذه المرة ولكن هناك روتيناً يجب إتباعه حيث علي الذهاب أولاً إلى فرع المرور في ساحة (باب مصلى) ليصار هناك إلى كتابة تقرير بالحادث وتوقيع تعهد من قبلي بالانتباه للاشارة في المستقبل، يتم بعدها إخلاء سبيلي، وقال بأنه سيركب بجانبي حتى نصل إلى هناك. لم تعجبني القصة ولكن لم يكن هناك ماأستطيع فعله، أي لم أكن في وضعية الرفض، فهويتي كانت معهم والرجل كان قد أصبح على المقعد بجانبي.
     وصلنا إلى فرع المرور حوالي الساعة السادسة حيث تم إدخالي مباشرة إلى قاعة كبيرة ليس فيها كراسي أو مقاعد ولاحتى سجاد، بالرغم من أنها كانت تغص بعشرات الأشخاص الذين كانوا يفترشون الأرض وبعضهم كانوا ملتفين بالبطانيات من شدة البرد. قبل تركي في القاعة، طلب مني الشرطي الانتظار لحين كتابة التقرير وقال بأنهم سينادون باسمي لتوقيع التعهد ومن ثم للسماح لي بالمغادرة. سرعان مااقترب بعض الشبان مبتسمين وقال لي أحدهم من باب الفضول: من أي إشارة مرور أتوا بك؟ فهمت منهم بعدها بأن هناك تعليمات جديدة من إدارة المرور باحضار الناس، مخالفين وغير مخالفين، لملء هذه القاعة كل يوم وذلك للبرهان بأنهم يسهرون على تطبيق القانون وضبط المخالفين، وأضافوا بأن كل من يأتوا به إلى هذه القاعة هو بمثابة المعتقل ولايتم إخلاء سبيله إلا في الصباح. وهنا اقترح أحدهم بأن شرطة المرور، وكونها جهة مدنية، لايحق لها اعتقالي هنا كوني أعمل في مؤسسة عسكرية، وبالتالي عليهم أن يخلوا سبيلي مباشرة. أعجبتني الفكرة ولم أجد مايمنع تجريبها، فقرعت على باب القاعة وطلبت التكلم مع أحد أفراد الشرطة، ولما فتحوا الباب، قلت للعنصر بأني أطلب إطلاقي مباشرة لأني أعمل لصالح جهة عسكرية. أخذني الرجل جانباً وقال لي: نصيحة أخ، تحمل البقاء هنا عندنا حتى الصباح ولاتفتح سيرة العسكر. كنت في ذلك الوقت في حالة نفسية سيئة للغاية كوني اكتشفت بأنهم، وبهدف أن يحضروني إلى هنا، كذبوا علي بقصة كتابة التقرير وتوقيع التعهد وإخلاء السبيل، فقلت له بأنني سأطلب الشرطة العسكرية للتدخل مالم يطلقوا سراحي مباشرة! فقال الرجل: لك ماتشاء، سنطلب لك الشرطة العسكرية وسنرى ماذا ستفيدك.
     كانت الساعة قد قاربت السابعة حين وصلت دورية الشرطة العسكرية إلى فرع المرور، وتم استدعائي إلى خارج القاعة حيث قال لي أحد عناصر تلك الدورية بأنهم سيخلون سبيلي من فرع المرور ولكن (الروتين) يتطلب مرافقتي لهم إلى فرع الشرطة العسكرية في القابون ليصار إلى تحرير ضبط بالموضوع وإخلاء سبيلي من هناك. شعرت حينها بأني قد زدت الأمور سوءاً ولكن ماعاد يمكن التراجع، حيث تم اصطحابي بسيارتي ورفقة أحد العناصر إلى هناك. وما أن وصلنا حتى تم اقتيادي إلى غرفة التحقيق حيث قالوا لي بأن أحد الجامعيين المجندين سيأخذ أقوالي قبل الافراج عني. وفعلاً استقبلني محامي من دمشق يؤدي الخدمة الالزامية، فهدأ أعصابي وصب لي كأساً من الشاي وقال لي: (احكيلنا استاذ، شو جابك لهون؟). وكوننا جامعيين، فقد رفعنا الكلفة مباشرة وتحدثنا عن أيام الدراسة ووجدنا الكثير من العوامل المشتركة بيننا. وقد قال لي الشاب وبصورة غير مباشرة بأنه وكونه (شامي)، وهذه تهمة بحد ذاتها في سورية الأسد، وأيضاً كونه مجرد مجند، فليس هناك الكثير مما يستطيع أن يساعدني به، وقال لي بأنهم لن يفرجوا عني كما قالوا، وإنما سيقومون بزجي في إحدى الزنزانات حتى صباح السبت (باعتبار غداً الجمعة عطلة رسمية) حيث سأذهب بسيارة الشحن ذات القضبان الحديدية إلى المحكمة العسكرية مع عشرات المساجين من المجرمين وأيضاً ممن هربوا من قطعاتهم أو شكلوا (فرار) من الخدمة وتم القبض عليهم ليقرر القاضي العسكري ماهو حكم كل منهم. ثم قال لي بأنه يستطيع مساعدتي بالسماح لي باستعمال هاتف مكتبه للاتصال بمن يمكنه إخراجي من هذه (المصيبة). كنت أستمع إليه ولاأصدق مايقول ولا مايمكن أن يحصل فيما إذا لم أتمكن الخروج من هنا الآن قبل أن أمضي يوماً وليلتين أصعد بعدها إلى سيارة الشحن الزيل الشهيرة بلقب (سيارة اللحمة) وأساق إلى المحكمة العسكرية. اتصلت من هاتف المكتب بأحد أقاربي الذي يعمل في نفس المؤسسة (متاع) وشرحت له الوضع باختصار وطلبت منه الاتصال بقريب آخر كان برتبة لواء في الجيش ويشغل منصباً رفيعاً في الدولة ويمكنه إخراجي من هنا بسهولة.
     كانت الساعة قد قاربت على الثامنة حين اعتذر مني المحقق وقال بأنه لن يتمكن من إبقائي في مكتبه أكثر من ذلك خوفاً من المسؤولية، خاصة وأن عليه مغادرة الفرع، ثم نادى على أحد الحراس وطلب منه تسليمي للسجن. لم أصدق مايجري حولي، وماعدت أعرف هل هو حقيقة أم كابوس مرعب، وخاصة أني كنت قبل ثلاث ساعات فقط أقود سيارتي في شارع الحمرا للاجتماع مع أصدقائي، وها أنا في طريقي إلى سجن يضم مجرمين ولصوص وهاربين من الخدمة، لالشئ ولكن من أجل لون إشارة المرور: هل كانت حمراء أم برتقالية! فتح باب حديدي عملاق تم إغلاقه بسرعة بعد مروري عبره ليطلب مني المجند الذي فتح الباب أن أتبعه. قادني إلى مصعد ليس له جدران، وكان أشبه بسقالة كهربائية منها لمصعد، وضغط على الزر فبدأنا بالهبوط ببطء إلى الأقبية تحت الأرض. أثناء مرورنا عبر القبو الأول، شاهدت العشرات من السجناء شبه العراة، حيث كانوا جميعاً بالسليب فقط، وحيث كان عناصر الشرطة يضربون بعضهم بالسياط والأحزمة، في حين كان البعض الآخر من العناصر يصبون عليهم الماء البارد من التنكات، وطبعاً صوت الصراخ كان الأسوأ في ذلك المشهد الذي بدا وكأنه هارب من ملحمة (الجحيم) لدانتي. وحين مررنا بالقبو الثاني، كان المشهد شبه مطابق لسابقه مع اختلاف الوجوه، مما يجعلك تسأل نفسك: كيف يمكن للانسان أن يصل إلى هذا القدر من التوحش وفقدان الرحمة في تعامله مع أخيه الانسان بغض النظر عن الأسباب؟
     وصلنا بعدها إلى القبو الثالث والأخير حيث قادني العنصر إلى غرفة المساعد أول المسؤول عن السجن. كان الرجل في عقده الخامس ويرتدي (بيجامة الرياضة) الزرقاء اللون الشهيرة في أوساط الجيش (الباسل)، كما كان ابريق الشاي وعلبة الدخان على الطاولة القذرة أمامه وكذلك مدفأة المازوت كلها مجتمعة لتكمل اللوحة النمطية لجيش (أبو شحاطة)، أما عدم وجود عدة (المتة) أو مشروب (العرق) فقد كان يعني وببساطة أن المساعد إياه لم يكن من (الطائفة الكريمة). ما أن بدأ الرجل بقراءة التقرير المكتوب بخصوصي وعرف قصة وصولي إلى هذا المكان، حتى هز رأسه متأسفاً ومتحسراً دون أن يعلق بأي كلمة، فالحيطان لها آذان في سورية، ولكنه قال بأنه سيسمح لي بالبقاء في مكتبه وعلى مسؤوليته حتى الساعة العاشرة لاأكثر، لأن ذلك قد يعرضه للعقوبة، وتمنى أن أتمكن خلال هذا الوقت من الخروج عن طريق (الواسطة) التي اتصلت بها وأخبرته عنها، وبالتالي لايضطر لزجي في الزنزانة حسب القانون وحسب ماهو مجبر عليه.
     ولكن يبدو أن ذلك اليوم أبى إلا أن يكون سيئاً حتى النهاية، فما أن أشارت الساعة إلى العاشرة، حتى طلب مني المساعد أن أسلمه (شواطات) حذائي قبل أن يرسلني إلى الزنزانة، وهي قاعدة متبعة في كافة السجون كي لايشنق السجين نفسه بها. تبعت بعد ذلك العنصر المكلف بايصالي إلى الزنزانة، وما أن فتح بابها الحديدي حتى لفح وجهي منها هواء حار، بالرغم من أننا كنا في شهر كانون الأول الشديد البرودة، وكان الهواء أيضاً ممتزجاً برائحة هي مزيجاً من العفن والعرق وأصابع الأرجل، وأقل مايمكن أن يقال فيه أنه خال من الأوكسجين. مالبث استغرابي لذلك الهواء وتلك الرائحة أن تبدد حين أصبحت داخل الزنزانة وأغلق الباب من ورائي، حيث وجدت نفسي في غرفة لاتتجاوز مقاساتها 3-2-2 أمتار، أرضها إسمنتية وجدرانها مزركشة ببقع الماء والعفن وفي سقفها مروحة سحب هواء صغيرة صوتها أكبر من فعلها، ومع ذلك تستضيف الزنزانة بين جدرانها مالايقل عن الخمسين سجيناً. لتحقيق هذه المعجزة الاسكانية، كانت المجموعة تتناوب مابين الوقوف والاستلقاء، وحتى من هم مستلقون، كانوا مستلقين على جنبهم لضيق المكان. من جهتي، لم أجد مكاناً أقف عليه حتى أجد مكانا أستلقي فيه لأنام، وبالتالي وقفت لاأعرف ماأفعل. بعد أن استوعبت الصدمة الأولى من دخولي إلى الزنزانة، بدأت أتحرك ببطء مبتعداً عن باب الزنزانة ومتجهاً إلى الجهة المقابلة، ناقلاً قدمي بحرص شديد كي لاأدعس على رؤوس أو أجساد المستلقين أو على أقدام الواقفين، هكذا حتى وصلت إلى صدر الزنزانة وبدأت أحاول أن أوسع لي مكاناً أجلس فيه.
     هنا تحرك شخص كان مستلق بجانبي والتفت إلى وقال بلهجة تحد: (شو يا أبضاي، شو عم تعمل؟) فقلت له: أحاول أن  أنام! فعاد وسألني (وشو جابك لهون؟ تهمة قتل، تشطيب، سرقة، فرار؟). ظاناً بأني (مبيض وش)، قلت له (أبداً، أبداً، مجرد تهمة إشارة مرور). وهنا ضج الجميع بالضحك وكأني أطلقت نكتة الموسم، ولكن الوحيد الذي لم يضحك كان من وجه الكلام لي، والذي فهمت لاحقاً أنه (زعيم القاووش)، وأن لاأحد يتحرك في هذا (القبر) ولا أحد ينام أو يستلقي أو يجلس أو يقف إلا بعد أخذ موافقته! كانت المجموعة عبارة عن خليطة عجيبة من الأشخاص، فيها مراهقين وفيها من تجاوزا الخمسين، ومنهم من هم بالملابس المدنية ومنهم من بالعسكرية، وكان يبدو على وجوههم أنهم هنا منذ فترة ليست بالقصيرة ولكن كان من الواضح أن أياً منهم لم يكن مسجوناً بسبب (إشارة مرور). أرسل (زعيم القاووش) لي نظرة حادة رافقها بقفل حاجبيه وقال لي (ومالك مستحي على حالك جاية بتهمة إشارة مرور وماصرلك فايت كم دقيقة وبدك تعد بصدر القاووش؟ روح روح، ارجاع لعند الباب وخليك هنيك!) وهنا عاد الجميع إلى الضحك وإطلاق عبارات المديح للزعيم مثل (طيب أبو فلان، فهمو شو هي إيمتو ووين محلو!)
     حين وصلت إلى هذه اللحظة، لم أعد أعرف ما أفعل، وكانت محنتي قد وصلت إلى ذروتها وأنا مازلت أشك بأنها مجرد كابوس لابد وأن ينتهي حين أستيقظ، فالحقيقة لايمكن أن تكون بهذه القسوة. ماحصل بعدها أني فقدت أعصابي بالكامل، وقررت عدم السكوت عما يجري لي ومن حولي بعد كل هذا، وذلك على قول المثل (أكثر من القرد، الله مامسخ). شعرت حينها بقوة جبارة تسري في عروقي، هي قوة المقهور الذي قرر أخيراً أن لايسكت عن قهره، فكان أول مافعلته أن التفت إلى (زعيم القاووش)، وكنت واقفاً وكان مازال مستلقياً، وأمسكته من ياقة معطفه ورفعته إلى وضعية الوقوف. تفاجأ الرجل بتصرفي، وحاول عبثاً تخليص نفسه من يدي، ولكني كنت مطبقاً عليه بقوة بقبضة يدي اليسرى وأستعد لأنهال عليه بالضرب بقبضة يدي الثانية. وهنا اكتمل المشهد بالصراخ الأقرب إلى العويل الذي بدأ المساجين باطلاقه، وهو صراخ من شاكلة (لك ولي .. لك ولي، ياحرس .. ياحرس، لحئو الزلمة أبل مايموت، هالمجرم راح يموتو!) طبعاً فهمت لاحقاً أني كنت المقصود بالمجرم. غرابة الموقف وصوت العويل من حولي جعلاني أتوقف عن الحركة كلياً وكأنني تجمدت في قالب من الجليد، أو كأن الزمن توقف لبرهة ليستريح ويلتقط أنفاسه وكأنه هو الذي أتوا به من شارع الحمرا وزج به في هذه الزنزانة.
     سمعت صوت بسطار عسكري يجري مقترباً من الزنزانة، انتهى بفتح الباب الحديدي من جديد ودخول العنصر الذي اقتادني إلى هنا قبل دقائق وهو يصرخ (شو عم تعمل ولاك انت واياه؟) وحين تعرف علي، قال لي (مو هلأ جبناك؟ لحئت تعمل مشاكل؟). كنت ماأزال في حالة الصدمة والجمود، ولم أعرف ماأجيبه به، فاكتفيت بالتحديق به دون أن أترك (الزعيم) من قبضة يدي. وهنا وصل عنصر ثاني من الشرطة اعتقدت بأنهم أرسلوه ليساعد الأول باقتياد المتسببين بالمشكلة لمعاقبتهم أو لأخذهم إلى الانفرادية. ولكنه فاجأني بقراءة اسمي من ورقة كانت بيده، ولما أجبت بنعم، قال: تعال معي، إخلاء سبيل! لم أصدق في البداية حتى وصلت إلى غرفة المساعد الذي وقف وصافحني بحرارة وقال لي (مبروك استاذ، الضابط المناوب بانتظارك في مكتبه لاخلاء سبيلك).
     وصلت برفقة العنصر إلى مكتب الضابط المناوب والذي لم يخيب ظني كونه من (الطائفة الكريمة). وغرفة مكتبه لم تخيب ظني أيضاً، كونها تحتوي على كافة عناصر ومكونات المكتب النمطي لضابط من (الشباب الطيبة)، عدة المتة وزجاجة وأقداح العرق وزجاجة ويسكي وباكيت الدخان، وطبعاً صورة للقائد الخالد وأقوال المأثورة على كل جدار من جدران المكتب. كان الرجل برتبة مقدم وكان شبه (مطفي) من كثرة المشروب، وبياض عينيه الزرقاوين بات أحمراً كالجمر وبالكاد تخرج معه الحروف. بعد كل هذه المناظر المقرفة، وقع بصري أخيراً على منظر أراحني وطمأنني، ألا وهو قريبنا الذي كلمته من مكتب المحقق وطلبت مساعدته. بادر الضابط قريبنا الذي كان نقيباً مهندساً بالسؤال (هل هذا هو قريبك الذي أتيت لاخراجه؟) فرد بالايجاب، فأردف قائلاً بسماجة فجة وابتسامة صفراء (كنا نريد استضافته عندنا كم يوم، ولكن لم تقبلوا ضيافتنا) ثم أضاف (اعذرني بأني لم أفرج عن قريبك إلا بأمر رسمي، فأنا لست مدير الفرع هنا ولكن مجرد ضابط مناوب، ولو كنت أخرجته بدون أمر لكان رئيس الفرع قطع (صبيعي). شكرنا الرجل وخرجنا مسرعين حيث رافقنا أحدهم إلى المرآب لاستلام السيارة.
     سألت قريبي هناك مالذي سبب تأخره كل هذا، فقال بأنه أتى أولاً إلى الفرع وطلب من المقدم إياه الافراج عني باعتباره يعرفه شخصياً وباعتبار أن مؤسستنا التي نعمل بها قدمت وتقدم دائماً خدمات هندسية وانشائية لفرع الشرطة العسكرية، ولكن كل هذا لم يكن كافياً ولم يدفع المقدم (السكير) للاستجابة لطلب الافراج، ولمح لقريبنا بأن (مافي شي ببلاش، وسبحان من فاد واستفاد). ولما سألته ماذا كان يريد بالتحديد لاخلاء سبيلي، فأجاب بأنه لم يسأله، بل غادر الفرع واتجه مسرعاً إلى بيت اللواء وأحضر منه (أمراً خطياً) بالافراج عني فوراً ودون تأخير، وهذا ماأغضب المقدم كونه كان يتأمل بأن (يلحس اصبعتو بشي كم ملحفة)، فحصل بدلاً عن ذلك على أمر بالتنفيذ الفوري وإلا!
        وبالمناسبة، فلم تمض أسابيع على هذه الحادثة حتى اصطدمت بمجموعة من (الطائفة الكريمة) في المؤسسة حول كيفية إداء العمل، فما كان منهم إلا أن اختلقوا لي تهمة سياسية حاولوا عبرها إرسالي إلى سجن تدمر العسكري لولا أن الرياح سارت على غير مااشتهوا، وكنت قد كتبت مقالاً حول هذه القصة سابقاً. هذه هي سورية الأسد التي لايزال البعض حتى اليوم يقولون فيها (كنا عايشين وماشي حالنا)، حيث لاقانون إلا قانون البلطجة والاذلال وحيث أن الحكام والمسؤولين هم خليط من المجرمين واللصوص ويشكلون نظاماً مافيوياً بامتياز يدعونه زوراً بالدولة.  
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 28 شعبان 1436، 15 حزيران، جون 2015
هيوستن / تكساس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق