لقد أورد
الباحث جملة من الأحكام التي لا تنهض دليلاً على ما يريد إثباته، وسنردُّ على ما
ورد كما هو ظاهر منها، وندعم بأدلةَّ موضوعيَّة، والهدف تقويم البحث، وتصحيح ما اعوجَّ
منه، والله من وراء القصد، وثَّمة ملاحظات عامَّة على البحث وما ورد فيه، نجملها
بنقاط محدَّدة، ثم نفصِّل فيما ورد في البحث تفنيدًا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
أما الإجمال
فنقول:
أولاً:
صاحب البحث حصر النِّقاش في فكرة الإسناد، ولم يتطرَّق إلى متن الأحاديث التي وردت
في ذلك وما فيها من تناقض بدارسة دقيقة، ولو انَّه فعل لأفاد البحث فائدة عظيمة.
ثانيًا:
لم يتطرَّق إلى حقيقة نزول «عيسى» عليه السَّلام من عدمه، بين أدلَّته النَّصيَّة
والعقليَّة، وهو أمرٌ لا بدَّ منه؛ لارتباطه بقصة «الدَّجَّال»، لما ورد من
الأخبار أنَّه من سيقتله.
ثالثًا: أورد الباحث أدلَّة توافق ما يريده، وهو طبيعة علميَّة
لدى كلِّ باحث، كما فعل بإيراد قول «ابن كثير»، وعودة «الضَّمير»
على «عيسى» في قوله تعالى: «موته»، وهو يؤيّد ما ذهبنا إليه من ضرورة العودة إلى
دراسة حقيقة نزول «عيسى عليه السَّلام، فلا يقوم أيُّ بحث لحقيقة «الدَّجَّال»
بعيدًا عنها.
أمَّا في
تفصيل ما ورد في البحث فنردُّ عليه بما يرى من أدلَّة عقليَّة ونقليَّة كما فصَّل
وأراد، ومنها:
1-ذكر الباحث
حفظه الله أنَّ «الدَّجَّال» سيظهر في آخر الزَّمان، وجعل ذلك حقيقة شرعيَّة
قطعيَّة الثُّبوت، وأشار إلى أنَّ مثل هذا الأمر لا يمكن للعلم الحديث أن يثبته أو
ينفيه، ولا للعقل أن يصدِّقه أو يكذِّبه، وعلَّل ذلك بأنَّه خبر مستقبليّ، ولأنَّ
هذا القدر لا يعارض الحقائق العلميَّة.
وبما أنَّ هذه
الفكرة قائمة على نقاش عقليٍّ، ولا يمكن للعقل أن يصدِّق أو يكذِّب، فلا حجَّة على
من يُنكر ذلك، ولا تأثيما؛ على اعتباره خبرًا مستقبليًا يدخله في علم الغيبيَّات،
والإنسان بطبعه غير مأثوم بما لا يعلم في حياته، فكيف بما هو ما بعد مماته، وداخل
في علم المغيَّبات؟!!
2-أكَّد
الباحث أنَّ كون «الدَّجَّال» موجودًا الآن فهو أمر ظنيُّ الثُّبوت، وليس يقينًا،
مع صحَّة الخبر وثبوته، لكنَّه يرى وعلى الرَّغم من ثبوته، فإنَّه لم يصل حدَّ
القطع واليقين، وجعل حديث «الجساسة» من أهم ما ورد فيه، وهذا يتعارض مع ما ذكره
آنفًا، بالوقوف منه موقف التَّصديق والتَّكذيب، ولم يناقش الباحث حديث «الجساسة»
مناقشةً نقديَّة متينة وإسناديَّة، ولم يذكر سبب إغفال «البخاريّ» ورفضه لتخريج
الحديث في صحيحه، علمًا أنَّ الرِّواية تشير إلى أنَّ «النبي» صلى الله عليه وسلم
جمع النَّاس ونادى بهم، ومع ذلك لم يخرَّج إلا من طريق «فاطمة بنت قيس!!
3-واستغرب
الباحث في نقطة هامَّة مجرَّد السُّؤال الصَّادر من مجهول عن سبب عدم ذكر «الدَّجَّال»
في «القرآن الكريم»؛ بل واتَّهم السَّائل بأنَّه ممن ينكر «السُّنَّة» عند صدوره،
وهذا حكم بعيد منه غفر الله له؛ لأنَّ علَّة الكون قائمة على السُّؤال والجواب،
فبها يقتنع العقل، وتثبت الحجَّة، ويتقوَّى الدَّليل، وحسبنا في ذلك سؤال «إبراهيم»
عليه السَّلام لربّه عن إحياء الموتى، وهو بين النَّبيِّ وربِّه، فكيف الحال بين
البشر في أمور الغيبيَّات والمسلَّمات؟!!
ولعلَّ الأغرب
مَّما ذكره صاحب المقال، الأدلَّة التي أوردها في تفنيد سبب عدم ذكر «الدَّجَّال»
في «القرآن الكريم»، فأورد قولا لـ«ابن برجان» أشار فيه الأخير إلى أنَّ في القرآن
تعريضًا بقصَّة «الدَّجَّال» في قصَّة «السَّامريّ»، ولم نعلم لمَ استدلَّ الباحث
بقول «ابن برجان» هذا في حين أنَّ المتواترات في تفسير هذه الآية وما سواها بخلاف
ذلك، ولا تشير تعريضًا أو تلميحًا إلى قصَّة «الدَّجَّال»، وهذا منه دَرَجٌ على
سبيل استحضار الأدلَّة التي توافق البحث، دون مناقشة علميَّة دقيقة تغني صاحبها عن
السُّؤال.
بل إنَّ
الباحث جعل من رأي «ابن كثير» رحمه الله خير ردِّ لذلك فقال: «وأحسن منه جواب ابن
كثير ، حيث قال في نهاية البداية والنِّهاية (19/195-198) : «وقد سأل سائل سؤالاً،
فقال : ما الحكمة في أنَّ «الدَّجَّال» مع كثرة شرِّه وفجوره وانتشار أمره ودعواه
الرّبوبية، وهو في ذلك ظاهر الكذب والافتراء، وقد حذَّر منه جميع الأنبياء، لم
يُذكر في القرآن؟! ويُـحذَّر منه؟! ويُصرَّح باسمه، ويُنوَّهَ بكذبه وعناده؟! والجواب
من وجوه:
أحدها:
أنَّه قد أشير إلى ذكره في قوله تعالى:{ يَومَ يأتي بَعضُ آياتِ ربّكَ لاَ ينْفَعُ
نفْساً إيمانُهَا لمْ تكُنْ آمنَتْ منْ قبْلُ أوْ كسَبَتْ في إيمَانهَا خيْراً }.
الأنعام: 158، الآية. قال أبو عيسى التّرمذي عند تفسيرها: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا
يعلى بن عبيد، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله
عليه وسلم قال: ثلاثٌ إذا خرَجْنَ لم ينْفَعْ نفْسًا إيمانُهَا لم تكُنْ آمنَتْ
منْ قبْل أو كسبتْ في إيمانِها خيْراً: الدَّجَّالُ، والدَّابَّة، وطلوعُ الشمَّس
من المغربِ، أو من مغربها. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
الثَّاني:
أنَّ عيسى ابن مريم ينزل من السَّماء الدُّنيا فيقتل الدَّجَّال، كما تقدَّم، وكما
سيأتي، وقد ذكر في القرآن نزوله ني قوله تعالى:{ وقوْلهمْ إنّا قتَلْنَا ألْمَسيحَ
عيسى أبنَ مرْيَمَ رسُولَ اللّهِ وما قتَلُوهُ ومَاَ صلَبُوهُ ولَكِنْ شئبّهَ
لهُمْ وإنَّ الّذِينَ اختَلَفُوا فيهِ لفِي شكٍّ مِنهُ ما لهُمْ بهِ منْ عِلم
إلاَّ اتباع الظّنِّ ومَا قتَلُوهُ يقِيناً بلْ رفَعَهُ اللّهُ إِلَيهِ وكَانَ
اللّهُ عزِيزاً حكِيماً وإنْ منْ أهل الكِتابِ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بهِ قَبلَ مَوتهِ
وَيَومَ القِيَامَةِ يكُونُ عَلَيهِمْ شهيداً }. النساء : 157 - 159.
وقد قرَّرنا
في التَّفسير أنَّ الضَّمير في قوله:{قبل موته} عائد على عيسى، أي سينزل إلى الأرض،
ويؤمن به أهل الكتاب الذين اختلفوا فيه اختلافاً متبايناً، فمن مدّعي الإلهيَّة
كالنَّصارى، ومن قائل فيه قولاً عظيماً، وهو أنَّه ولد ريبة، وهم اليهود. فإذا نزل
قبل يوم القيامة تحقَّق كلٌّ من الفريقين كذب نفسه فيما يدَّعيه فيه من الافتراء،
وسنقرِّر هذا قريباً. وعلى هذا: فيكون ذكر نزول المسيح عيسى ابن مريم إشارة إلى
ذكر المسيح الدَّجَّال شيخ الضُّلال، وهو ضدّ مسيح الهدى. ومن عادة العرب أنَّها
تكتفي بذكر أحد الضّدين عن ذكر الآخر ، كما هو مقرَّر في موضعه.
الثَّالث: أنَّه
لم يذكر بصريح اسمه في القران احتقاراً له، حيث يدّعي الإلهية، وهو بشر، وهو مع بشريّته
ناقص الخلق، ينافي حالة جلال الرَّبّ وعظمته وكبريائه وتنزيهه عن النَّقص، فكان
أمره عند الرَّبِّ أحقر من أن يذكر، وأصغر وأدحر من أن يحكي عن أمر دعواه ويحذر. ولكن
انتصر الرّسل لجناب الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، فكشفوا لأممهم عن أمره، وحذروهم ما معه
من الفتن المضلَّة والخوارق المضمحلَّة، فاكتفى بإخبار الأنبياء، وتواتر ذلك عن
سيد ولد آدم إمام الأتقياء، عن أن يذكر أمره الحقير بالنِّسبة إلى جلال الله في القران
العظيم، ووكَّل بيان أمره إلى كل نبيٍّ كريم.
فإن قلت: فقد
ذكر فرعون في القرآن، وقد ادعى ما دعاه من الكذب والبهتان، حيث قال: أنا رَبّكُمُ
الأعلَى. النازعات: 24. وقال: يأيهَا الملأ ما عَلمْتُ لَكمْ من إلهٍ غَيْري.
القصص: 38.
والجواب: أنَّ
أمر فرعون قد انقضى وتبين كذبه لكلّ مؤمن وعاقل؟ وهذا أمر سيأتي وكائن فيما يستقبل
فتنة واختباراً للعباد، فترك ذكره في القرآن احتقاراً له وامتحاناً به؛ إذ الأمر
في كذبه أظهر من أن ينبه عليه ويحذر منه، وقد يترك الشّيء لوضوحه، كما قال النَّبيّ
صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وقد عزم على أن يكتب كتاباً بخلافة الصّديق من
بعده، ثم ترك ذلك وقال:« يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر». فترك نصه عليه لوضوح
جلالته، وظهور كبر قدره عند الصَّحابة، وعلم عليه الصَّلاة والسَّلام منهم أنَّهم
لا يعدلون به أحداً بعده، وكذلك وقع الأمر. ولهذا يذكر هذا الحديث في دلائل النّبوة
كما تقدَّم ذكرنا له غير مرَّة في مواضع من الكتاب».
ونردُّ على
هذه الوجوه بما نراه حقًّا بإذن الله:
الوجه الأوَّل:
أنَّ الآية التي أوردها من سورة «الأنعام»، والمجيء بحديث «التّرمذيّ» ليس قويًا،
لورود أحاديث أخرى صحيحة أيضًا بروايات أخرى وليس فيها ذكر الدَّجَّال أو نزول «عيسى»
عليه السَّلام، فقال ابن مسعود وابن عمر ومجاهد وقتادة والسّدي: إنَّه طلوع الشَّمس
من مغربها، رواه أبو سعيد عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفي «الصَّحيحين»
أيضًا عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تقوم السَّاعة حتى تطلع الشَّمس من
مغربها، فإذا طلعت ورآها النَّاس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم
تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا.
وروى مسروق عن
ابن مسعود أيضًا: أنَّه طلوع الشَّمس من مغربها، وفي رواية القاسم عن ابن مسعود:
إحدى الآيات الثَّلاث: طلوع الشمس من مغربها، والدَّابَّة، وفتح يأجوج مأجوج.
والمطالع هذه
الرَّوايات يجدها تتوافق مع نصِّ كلام الله عزَّ وجلَّ فيها، وليس المقام مقام
شرحها والتّدليل عليها، وإنَّما اكتفينا بإيراد ما خالف ما أراده الباحث، ولو
أنَّه سعى إلى التَّوفيق بين متونها لأفادنا علمًا كثيرًا.
الوجه الثَّاني: ربط «ابن
كثير» رحمه الله بين نزول «عيسى» عليه السَّلام و«الدَّجَّال»، فهو من سيقتله كما
تواردت الأخبار بذلك، وأورد آية «النِّساء» السَّالفة كدليل على ذلك، وقرَّر أنَّ
الضَّمير في قوله تعالى: «قبل موته» عائد على «عيسى» عليه السَّلام، وفي هذا
الكلام نظر وردٌّ كبير، من عدة منها:
أنَّ عودة الضَّمير
على «عيسى» لم يكن على إطلاقه، ولا على تقريره هو، بل إنَّه يذهب في ذلك مذهب ابن
عبَّاس وأبو مالك وجماعة في أنَّ الضَّمير عائد على «عيسى» عليه السَّلام، بينما
ذهبت جماعة ومنهم مجاهد وعكرمة وابن عبَّاس في قول آخر إلى أنَّ الضَّمير عائد على
«الكتابيّ»، أي: «من أهل الكتاب»، ويؤيّده قراءة أبيّ: «قبل موتهم».
ولا أدري
السَّبب الذي دفع «ابن كثير» إلى الإقرار بذلك، إلا ما ذكره أبو حيَّان في تفسيره
من «أنَّ الطَّعن في الحديث الثَّابت الصَّحيح لا يناسب
مذاهب أهلِ السُّنَّة».
وفي هذا
المقام أشير إلى أجمل ما وقعتُ عليه في صَلْب «عيسى وقتله عليه السَّلام، وهو ما
قاله «ابن عطيَّة» في «محرَّره» بنصِّه: «ثم أخبر
تعالى أنَّ بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم، واختلفت الرُّواة
في هذه القصَّة وكيفيَّتها اختلافاً شديداً، أنا أختصر عيونه، إذ ليس في جميعه شيء
يقطع بصحَّتِه؛ لأنَّه لم يثبت عن النَّبي عليه السَّلام فيه شيء، وليس لنا متعلَّق
في ترجيح شيء منه إلا ألفاظُ كتاب الله».
أما الوجه
الثَّالث: فلا يجوز أن يكون دليلا على ما ذهب إليه «ابن كثير» وغيره، ولا
قوَّة لحجَّته بالرَّدِّ على ذكر «فرعون» في «القرآن»، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد
ذكر من الفتنة «الأولاد» و«الأزواج»، فكان ذكر أعظم فتنة يجري على يد صاحبها كما
نقلت الأخبار «الإحياء» و«الموت»، وبين يديه «جنَّة» و«نار»، ويعيد الأب لابن،
أولى بالذكر، إذ لا يجوز أن يرى الإنسان مثل هذه الخوارق دون أن يؤمن بها،
وبصاحبها؟! ومن ثمَّ يقع الحساب عليه من الله؟!
بل إنَّ «ابن
كثير» رأى سبب ذكر «فرعون» أنَّه مضى وانتهى، وهو نقيض لما يريده، فالماضي والفائت
أولى بعدم الذِّكر من العظيم القادم، ولا فائدة لذكره إن حدث إلا الموعظة والعبرة،
وليس على عكسه، وأغرب من ذلك ما ذكره «ابن حجر» من أنَّ عدد المؤمنين يومئذ سبعة
آلاف فقط!!
د. محمد عناد
سليمان
2 / 1 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق