الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-01-15

ظاهرة الغلو – بقلم: د. محمد المحمد

الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:

فقد ظهر الغلو عند المسلمين منذ أن أظهر الله هذا الدينَ، وأعزَّ أتباعه حيث قام أعداء الله تعالى يكيدون للإسلام وأهله يحملهم على ذلك الحسد والغيرة، والحقد والضغينة، التي امتلأت بها قلوبهم على أهل هذا الدين، فتنوعت أساليبهم في حربه، وتعددت مكايدهم، وذلك بعد أن فشلوا في مواجهته من خارجه، واندحروا خائبين أمام الجيوش الإسلامية، فلجئوا إلى حربه من داخله، فأعلنوا إسلامهم ظاهراً وأبطنوا كفرهم، فعمدوا إلى استهداف  الخلفاء والأمراء بالقتل غيلة وغدراً؛ إذ كان أول  ضحايا غدرهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين هم : عمر، وعثمان، وعلي-رضي الله عنهم-، فعمررضي الله عنه قتله مجوسي حاقد، وعثمان رضي الله عنه قُتل على إثر مؤامرة، تولى كبرها عبد الله بن سبأ اليهودي. وعلي رضي الله عنه قتله المجرم عبد الرحمن بن ملجم، من أتباع ذي الخويصره، الذي طعن في النبي صلى الله عليه وسلم واتهمه بعدم العدل في القسمة.


وبمرور الأيام وجد لابن سبأ خلفاء كثيرون، أشاعوا الفرقة في صفوف الأمة، وحققوا بالكيد والحيلة ما عجزوا عنه بالسلاح، وكان هؤلاء لا يقرون لولي أمر بطاعة سواء كان عدلاً أم فاسقاً، بل أعظم أصولهم، التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور ولعلماء المسلمين ومشايخهم، كما أنهم يخصون كبار الصحابة رضوان الله عليهم بمزيد من اللعن والطعن والتكفير، ولهم في ذلك أقوال ونصوص تقشعر من سماعها جلود المؤمنين، وينسبونها زوراً وبهتاناً لأئمة عظماءَ في الفقه والعلم والفضل والتقوى، كجعفر الصادق وزين العابدين وآبائهم رضي الله عنهم أجمعين .

 وبعد هذا ندرك كيف كانت هذه الطغمة الفاسدة - من الخوارج والسبئية - أول مظاهر الغلو والتطرف الحقيقي، وأكثرها رواجاً على غلاة الرافضة خاصة، وباقي الفرق الإسلامية عامة،ثم صدَّروا هذا الغلو لخوارج العصر، الذين ورثوا التشدد في الدين، مدعوماً بالمال وآلآت القتل، والجهل وقلة الفقه، فبدؤوا يأمرون الناس بما لا طاقة لهم به، ويلزمونهم بما لم يلزمهم به الله تعالى، ولا يراعون قدراتهم واختلاف أفهامهم، فيخاطبونهم بما لا يفهمون، ويطالبونهم بما لا يستطيعون، ويعسِّرون ما يسَّره الله تعالى على عباده، يظهرون الورع الفاسد، ويتعالمون على كل عالم.

إن هؤلاء الشباب لم يحسنوا تمييز الأمور وتفصيلها، ولم يعرفوا صحيح الأقوال من سقيمها، ولم يجيدوا إنزال النصوص منازلها، ولم يرجعوا إلى أهل العلم والفقه والرأي، بل إن الكثير من هؤلاء ذهب إلى النيل من العلماء والمجتهدين بل أنكروا كل ما جاء عنهم، ويقولون: ( نحن رجال وهم رجال) حتى يقطعوا الطريق بزعمهم أمام كل من يريد أن يحتج بقول مجتهد من سلف الأمة على سوء أفعالهم وأقوالهم وما يتصفون به من الجفاء والغلظة التي يظهرونها لإخوانهم ، بدلاً من التذلل وخفض الجناح لهم ، وقد أمرهم الله تعالى بذلك، فقرن محبته لهم ومحبتهم له بالتذلل للمؤمنين إذ قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54} ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل عمدوا إلى التغرير بشبان أتقياء أصفياء أنقى من ماء السحاب ليس لهم تجربة سابقة في معرفة الخبيث من الطيب، فأظهروا لهم الصلاح ، والعلم ، وادعوا أنهم سيقيمون دولة إسلامية، فصدقوهم ووثقوا بهم،فأصبحوا من جملة الضحايا التي تم بيعها في دهاليز الخيانة والتآمر على هذا الدين الحنيف وأهله.

 لقد كان لهذا السلوك أثر كبير في تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً، بل أصبحت كل مجموعة  تحارب أختها، إذ تراشقوا بالكفر وتراموا بالشرك وتقاذفوا بالتفسيق والتبديع . وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل وصل إلى  نشوب حروب ومعارك طاحنة بين صفوفٍ كلها مسلمة،وأريقت دماء زكية كلها إسلامية، وكأن  إعداد القوة التي أُمِرنا بها لتخويف أعدائنا ومنعهم من الاعتداء علينا، ونيل حريتنا وكرامتنا، صارت ليقتل بعضنا بعضاً، وأصبح أعداؤنا يتفرجون علينا،  بل  وقف بعضهم خلف  الغلاة، يمدونهم  بالمال والسلاح، ليس ذلك محبة لهم وإنما تحقيقاً لمآرب عجزوا عن تحقيقها، فجعلوا من الغلاة وسيلة لتحقيق تلك الأغراض الدنيئة والمآرب الخبيثة، فقُتِل المسلمون، وسُلِبت أموالهم، وانتهكت أعراضهم، ونزع استقرارهم،وأشيعت الفوضى في بلادهم،وسلب الأمن والأمان، وساد الرعب والظلم والطغيان، وغاب عن أهل الغلو قول الله تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ...] {آل عمران:103}،وغاب عنهم قوله جل ذكره:[إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {الأنعام:159}.

وغاب عنهم قوله r: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" ([1]). فهذا الغلو وما يصاحبه من قسوة وتعنت وتنطع وشدة على خلاف ما جاءت به شريعتنا السمحة، من الرحمة والسهولة واليسر والرفق، كما تبين ذلك الآيات الكريمة، منها:

قوله تعالى :[...كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...] {الأنعام:54}،وقوله عزّ وجلمخاطباً نبيه الكريم:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}، وقوله :[مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {المائدة:6}.

 والأحاديث في ذلك كثيرة، منها:

 قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما بعثت رحمة مهداة "([2])، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: " بعثت بالحنيفية السمحة "([3] ) ،ومنهاأيضاً قولهr : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الْأَمْرِ كُلِّهِ "([4])، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ويعطى على الرِّفْقِ ما لَا يعطى على الْعُنْفِ وما لَا يعطى على ما سِواه، إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ في شَيْءٍ إلا زَانَهُ، ولا يُنْزَعُ من شَيْءٍ إلا شَانَهُ " ([5]).

ولذلك عندما اختار الله سبحانه هذه الأمة لحمل الرسالة ونقلها إلى البشرية ميزهم عمن سبقهم بالوسطية كي يسود الحب والخير والعدل والأمن والسلام على هذه المعمورة،  ويزيلوا الظلم والبغي والطغيان، ومن هنا كانت هذه الوسطية ملزمة للأمة الإسلامية بمحاربة الجهل والهوى والاستبداد بالرأي والابتداع في الدين والعصبية وسوء الظن بالآخرين والحسد والحقد ونشر الثقافات الإلحادية الساقطة في المجتمعات المسلمة، ومنع الغلو والتطرف في الدين - كونه وجهاً من وجوه الظلم والبغي والطغيان-  ورد الغلاة إلى منهج الاعتدال والحكمة، والتسامح والرفق والتيسير والدعوة إلى العلم والتعلم والفهم والاتباع، والتحذير من الإفراط والتفريط والتسرع في تبديع أو تفسيق أو تكفير المسلمين، ولا سيما الدعاة منهم ، لمجرد خطأ وقعوا فيه أو صواب لم يرق للبعض. يقول الإمام أحمد بن حنبل: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه لما سلم منا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما،.... " . ([6])

والذي أريد قوله: إن أي دولة أو حركة أو فرد يعتدي على أرواح الناس أو أموالهم أو أعراضهم  أو كرامتهم أو يؤذيهم ويحول بينهم وبين اعتقاداتهم المشروعة أو يهدد أمنهم أو يحجر على آرائهم وحرياتهم المنضبطة بالضوابط الشرعية، فإنه غالٍ متطرف يخالف الوسطية والتعاليم الإسلامية  والنصوص الشرعية، يجب الوقوف في وجهه وإعادته إلى الطريق القويم، والدفاع عن هذه الوسطية، عقيدة وفكراً، شريعة وسلوكاً....



                                      د.محمد محمود المحمد


________________________________

[1] - المستدرك على الصحيحين ج1/ص637 اقتضاء الصراط ج1/ص103

[2] - المعجم الأوسط ج3/ص223

[3] - مسند أحمد بن حنبل ج5/ص266و المعجم الكبير ج8/ص170 مجمع الزوائد ج4/ص302

[4] -  صحيح البخاري ج5/ص2242

[5] -   صحيح مسلم ج4/ص2003


[6] - سير أعلام النبلاء ج14/ص40

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق