قبل
أيام قليلة وقعت كارثة مؤلمة راح ضحيتها عدد من أطفالنا الأعزاء نتيجة إعطائهم
جرعات من لقاح الحصبة ، وقد أظهر التحقيق أن الأطفال بدل أن يحقنوا باللقاح حقنوا بدواء
مخدر يرخى العضلات ــ بما فيها عضلات التنفس ــ فيؤدي إلى الاختناق ، وقد وقعت هذه
الكارثة نتيجة خطأين اثنين :
الخطأ الأول نقل زجاجات الدواء ووضعها في الثلاجة المخصصة لحفظ اللقاحات ، وهذا
مخالف للأعراف الطبية التي تقضي بعدم اختلاط اللقاحات بأية أدوية أخرى تجنباً لمثل
هذا الخطأ القاتل .
والخطأ
الثاني إهمال الذين تولوا
تطعيم الأطفال ، فقد كان عليهم قبل استخدام كل زجاجة أن يتأكدوا من نوع محتواها
، وتاريخ صلاحيتها ، ولو أنهم فعلوا لما وقع هذا الحادث الأليم.
علماً
بأن حادثة مشابهة وقعت في اليمن قبل حوالي عشرة أعوام ، راح ضحيتها أكثر من خمسين
طفلاً ، وللأسباب نفسها ، فقد نقل بعضهم دواء الأنسولين الذي يستخدم لمرضى السكر
ووضعه في ثلاجة اللقاحات ، وبدلاً من أن يحقن الأطفال باللقاح الثلاثي (DPT) حقنوا بالأنسولين بسبب
تشابه عبوات الدواء مع عبوات اللقاح ، ما أدى إلى انخفاض حاد بالسكر عند الأطفال
وقضوا نحبهم نتيجة هذا الإهمال !
والغريب
أن شبيهاً بهذه الكوارث كثيراً ما تقع ، ليس في الطب ، وإنما في الممارسات الثقافية
والفكرية ، حين تنقل بعض المفاهيم من سياقاتها التداولية إلى سياقات أخرى فتختلط
الأمور وتقع الكوارث ، ومن ذلك مثلاً نقل بعض النظريات العلمية من حقلها التداولي
إلى الحقل الاجتماعي أو الفكري أو العقائدي فتقع الكارثة ، ومن ذلك مثلاً القانون
الذي وضعه عالم الكيمياء الفرنسي لافوازييه وهو القانون القائل : لا شيء
يخلق ولا شيء يفنى . فقد وضع لافوازييه هذا القانون ليعبر به عن المعادلات
الكيميائية ويضبطها ، فقد وجد أن العناصر الكيميائية التي تدخل في التفاعل تخرج من
التفاعل بمركبات مختلفة ، لكن دون أن يظهر بين الناتج عناصر جديدة ، ودون أن يختفى
شيء من العناصر التي اشتركت بالتفاعل ، أي إنه لا شيء يخلق بين هذه العناصر ولا
شيء يفنى منها ، وقد كان لهذا القانون دور كبير جداً في تطوير علوم الكيمياء فيما
بعد ، لكن جاء بعض المغرضين فنقلوا هذا القانون الكيميائي إلى حقل الإيمان والعقائد
فقالوا مادام لا شيء يخلق ولا شيء يفنى فإذن لا إله هناك ولا خالق ، وإنما هو كون
أزلي أبدي ! ولا ريب بأن هذا محض كذب وافتراء جاء نتيجة نقل القانون الكيميائي واستخدامه
في غير مجاله التداولي ، تماماً كما حصل في حادثة التطعيم حيث وضع الدواء في غير
مكانه فكانت الكارثة !
والأمثلة
كثيرة في مجال الفكر حين يؤدي نقل مفهوم معين إلى حقل آخر غير حقله التداولي فتختلط
المفاهيم وتقع الكوارث ، خذ مثلاً آخر على هذا "نظرية اللايقين"
التي وضعها عالم الذرة ماكس بلانك ، ومفادها أننا لا نستطيع أن نرصد بصورة
يقينية حركة الإلكترونات حول نواة الذرة في زمن محدد ، فجاء بعضهم ونقل هذه
النظرية إلى حقل الإيمان والعقائد فقالوا مادام لا يقين هناك فإذن لا يقين بوجود
الخالق !
ومثال
آخر ، "نظرية النسبية" الذي قال به العالم أينشتاين ، فقد
رأى أن مفهوم الزمن هو مفهوم نسبي ، فالزمن يتغير مع زيادة السرعة حتى إذا بلغنا سرعة
الضوء (300.000 كلم / ثانية) توقف الزمن ، فجاء بعضهم وقالوا مادامت الظواهر
الكونية نسبية فكذلك الأخلاق أمر نسبي ، فاختلط الحابل بالنابل ، وضاعت الأخلاق !
وهكذا
نجد لكل مفهوم حقله التداولي الذي يعمل في إطاره ، فإذا نقلناه إلى غير حقله
اختلطت الأمور ووقعت كوارث لا تقتل عدة أطفال كما حصل في التطعيم ، وإنما تقتل
أمماً ، وتقضي على حضارات .. فتأمل !
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق