لقد
كان أول من تصدى لهذه الفئة الباغية الضالة - الخوارج - أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، بشجاعته النادرة وإيمانه القوي، وعزيمته التي لا تلين. وقف متحديا
بحقه باطلهم، وقف في وجه هذه الطغمة الجاهلة، التي تريد هدم هذا الدين (يريدون أن
يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
وقف
يحاججهم، قبل أن يسل السيف في وجوههم، وينفذ فيهم القصاص العادل، وحكم الله فيهم،
وقد سفكوا الدماء، وقتلوا الأبرياء، وبقروا بطون النساء، وذبحوا الأطفال.. وقف
ليحاججهم حتى لا يترك لهذه الطغمة الشريرة حجة لشق صف المسلمين، والعبث بهذا الدين
الحنيف الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
وقف
فقال: ماذا نقمتم مني ؟
فقالوا
له: أول ما نقمنا منك أنّا قاتلنا بين يديك يوم الجمل، فلما انهزم أصحاب الجمل
أبحت لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال، ومنعتنا من سبي نسائهم وذراريهم، فكيف
استحللت مالهم دون النساء والذرية ؟
فقال:
إنما أبحت لكم أموالهم بدلاً عما كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي
عليهم، والنساء والذرية لم يقاتلونا، وكان لهم حكم الإسلام بحكم دار الإسلام، ولم
يكن منهم ردة عن الإسلام، ولا يجوز استرقاق من لم يكفر، وبعد لو أبحت لكم النساء
أيكم يأخذ عائشة في سهمه ؟
فخجل
القوم من هذا. ثم قالوا له: نقمنا عليك محو إمرة أمير المؤمنين على اسمك في الكتاب
بينك وبين معاوية لما نازعك معاوية في ذلك، فقال: فعلت مثل ما فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم الحديبية، حين قال له سهيل بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله لما
نازعتك ولكن اكتب باسمك واسم أبيك، فكتب: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله
وسهيل بن عمرو". وأخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لي منهم يوماً مثل
ذلك، فكانت قصتي في هذا مع الأبناء قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الآباء،
فقالوا له: فلم قلت للحكمين: إن كنت أهلا للخلافة فاثبتاني، فإن كنت في شك من
خلافتك فغيرك بالشك فيك أولى. فقال: إنما أردت بذلك النصفة لمعاوية، ولو قلت
للحكمين أحكما لي بالخلافة لم يرض بذلك معاوية، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم نصارى (نجران) إلى المباهلة وقال لهم: (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا
ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين). فأنصفهم بذلك
من نفسه، ولو قال: "ابتهل فأجعل لعنة الله عليكم" لم يرض النصارى بذلك،
لذلك أنصفت أنا معاوية من نفسي، ولم أدر غدر عمرو بن العاص. قالوا: فلم حكّمت
الحكمين في حق كان لك! فقال: وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكّم سعد بن
معاذ في (بني قريظة) ، ولو شاء لم يفعل، وأقمت أنا أيضاً حكماً، لكن حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد حكم بالعدل، وحكمي خُدع حتى كان من الأمر ما كان، فهل عندكم
شيء سوى هذا ؟
فسكت
القوم وبهتوا أمام الحجة المقنعة كما بهت (النمرود) من قبلهم أمام إبراهيم عليه
السلام.
وقال
معظمهم: صدق والله.. وقالوا: التوبة.. واستأمن إلى علي رضي الله عنه يومئذ ثمانية
آلاف، وبقي على الغي والضلالة منهم أربعة آلاف.
وبعد
هذه المحاجة ثاب جل القوم إلى رشدهم، وأبت منهم فئة - ضالة - إلا ركوب طريق الشك
والغي والضلالة، ليلاقوا جزاءهم العادل على أيد هيأها الله عز وجل لتقتص منهم في
كل زمان ومكان.
وهكذا
نجد أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تظهر هذه الفئة الباغية من
افتراق أمة الإسلام أمرا محققاً. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود
على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين
وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده
لتفرقن أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل يا
رسول الله: من هم ؟ قال: الجماعة".
لقد
انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وترك هذه الأمة على المحجة
البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، تاركاً بين أيديها ما إن تمسكت به
لن تضل أبداً، كتاب الله وسنته المطهرة، ولكن للنفس هوى وللقلب قرين.
لقد
شغل الخوارج عبر التاريخ الإسلامي حيزاً كبيراً من حياة دولة الإسلام سواء منها في
العهد الأموي أو في العهد العباسي، والعهود المتتالية، وفي طول بلاد دولة الإسلام
وعرضها. من نجد إلى أعماق بلاد المغرب وفارس والهند، ومن الجزيرة والشام في الشمال
إلى أقصى الجنوب في اليمن.
حيروا
الخلفاء وهزموا الجيوش وقهروا القادة العظام، واعتدوا على المحرمات وسفكوا الدماء،
معتقدين - واهمين - أنهم لا يسفكون الدماء ولا يقتلون النفس التي حرمها الله إلا
حميّة وتقرباً لله واستجابة لمرضاته.
كانت
ضحاياهم من الخلفاء والفقهاء وصفوة الصحابة وأشراف التابعين ووجوه الناس وعلية
القوم. وكان كل من لا يقول قولهم، ويرى رأيهم، ويعتقد اعتقادهم، مهددا في حياته
وماله وعياله.. زرعوا الرعب في القلوب، والخوف في النفوس، والشك في العقول، كما
يفعل خوارج عصرنا اليوم.
كانت
أخبار تحركاتهم تكفي كي يهجر الناس البيوت ويفروا، وكانت تصطك أسنان شجعان الرجال
عند اللقاء بهم، فكم من جيوش سيقت لقتالهم سوقاً كالأنعام وفرت كالنعام دون
احتراب. كان الواحد تخشاه المئة، والمئة تخشاها الألوف، فالتاريخ يروي لنا عن
بطولاتهم الأسطورية الكثير، فها هو (شبيب بن يزيد) أحد قادتهم يهزم جيش الحجاج وهم
خمسون ألفا وهو في ستمائة فارس، وهذا ضرب من الخيال في منظار الميزان المادي،
ولكنها الحقيقة التي أجمع عليها رواة التاريخ الذين لا يشك في صدقهم وأمانتهم في
نقل هذه الحقائق إلينا.. (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع
الصابرين).
لم
يقاتل الخوارج لدنيا أو متاع أو مال، فهذا (شبيب) يلقي بالمال الذي أهدي إليه في
نهر دجلة قائلا: (ما لهذا خرجنا). وهذا أحدهم يهدى إليه سيف وفرس ومال، فيأخذ
السيف والفرس ويرد المال.
لقد
كانت نساؤهم فارسات يقاتلن كالرجال، فهذه (غزالة) زوجة شبيب تقود مئتين من
صواحبها، وتدخل الكوفة لتفي بنذر قطعته على نفسها، ويهرب منها الحجاج الذي دانت له
الرقاب وهابته الرجال. وتأتي جامع الكوفة، وتعلوا المنبر، وتخطب في الناس، وتطعن
في بني أمية، ثم تصلي ركعتين تقرأ فيهما سورتي البقرة وآل عمران. ثم تقتل بعد ذلك
المعتكفين في المسجد. وقد عيّر بعض الشعراء الحجاج بهربه من غزالة فقال:
أسد علي وفي الحروب نعامـة …
فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى …
بل كان قلبك في جناحي طائر
إن
الحديث عن الخوارج يدمي القلوب، فكم كانت بلدان ستفتح، ومنارات سترفع، لو كانت
سيوف الخوارج قد سلت في وجه الكفر والشرك، وأشرعت لإعلاء كلمة التوحيد ونشر دين
الإسلام.
إن
ما دفعني للمسير في هذا الطريق الشائك أمران:
الأول:
لفت انتباه حكام المسلمين كي يستوعبوا الدرس من الحالات التي دعت إلى ظهور
الخوارج، وفي هذا السياق عليهم استيعاب شباب هذه الأمة وامتصاص اندفاعاتهم، وترك
حرية التعبير لهم ضمن القنوات التي تكفل لهم هذه الحرية دون مساس بأمن الوطن أو
الإضرار بالمجتمع. فإن الصحوة الإسلامية التي تجتاح العالم الإسلامي، هي ظاهرة
صحية وبشائر خير لهذه الأمة. فبهذا الدين صنع الآباء والأجداد لهذه الأمة أعظم
حضارة عرفتها الإنسانية على مر العصور.
الثاني:
لفت انتباه الجماعات المسلحة التي تظهر هنا وهناك، وقد جعلت من نفسها دائرة فقه
وشرع وفتوى ودار حرب ودار إسلام، أن تعمل على كبح جماح اندفاعاتها المتهورة التي
تسير في طريق لا يخدم الإسلام، بقدر ما يفكك المجتمع ويزعزع الاستقرار ويهدد أمنه
وسلامته، ويزرع الأحقاد والضغائن بين فئاته وطبقاته، ويؤلب أعداء الإسلام علينا
بحجة أمن وسلامة شعوبهم وبلدانهم، كما حدث في أعقاب ضرب نيويورك في الحادي عشر من
أيلول عام 2003م. ونقول لهؤلاء الشباب النزق المندفع: لا يجوز تكفير المسلم بكبيرة
أو معصية، ولا يجوز إشهار سيف في وجه رجل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد عصم دم من قالها. فما المسوغ لقتل النفس التي حرم
الله قتلها إلا بالحق، فقد جاء في حديث أسامة بن
زيد (بعثَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ سريَّةً إلى الحُرقاتِ
فنَذروا بنا فَهَربوا، فأدرَكْنا رجلًا، فلمَّا غشيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ، فضَربناهُ حتَّى قتلناهُ. فذَكَرتُهُ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ
وسلَّمَ فقالَ: (من لَكَ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ القيامةِ. فقُلتُ: يا رسولَ
اللَّهِ، إنَّما قالَها مَخافةَ السِّلاحِ. قالَ: أفلا شقَقتَ عن قلبِهِ حتَّى
تعلمَ مِن أجلِ ذلِكَ قالَها أم لا؟ مَن لَكَ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يومَ
القيامةِ؟ فما زالَ يقولُها حتَّى وَدِدْتُ أنِّي لم أُسلِم إلَّا يومئذٍ)..
وقبل
البدء بكتابة هذه االحلقات قرأت مقالاً للدكتور
الداعية الشيخ يوسف القرضاوي – حفظه الله –حول هذا لموضوع جاء فيه:
"يبلغ
التطرف غايته، حين يُسقط عصمة الآخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ولا يرى لهم حرمة
ولا ذمة، وذلك إنما يكون حين يخوض لجّة التكفير، واتهام جمهور الناس بالخروج من
الإسلام، أو عدم الدخول فيه أصلاً، كما هي دعوى بعضهم، وهذا يمثل قمة التطرف الذي
يجعل صاحبه في واد، وسائر الأمة في واد آخر.
وهذا
ما وقع فيه الخوارج في فجر الإسلام، والذين كانوا من أشد الناس تمسكاً بالشعائر
التعبدية، صياماً وقياماً وتلاوة قرآن، ولكنهم أتوا من فساد الفكر، لا من فساد
الضمير.
وما
وقع لطائفة الخوارج قديماً، وقع لأخلافهم حديثاً، وأعني به من سموهم جماعة التكفير
والهجرة.
فهم
يكفرون كل من ارتكب معصية وأصر عليها، ولم يتب منها، وهم يكفرون الحكام، لأنهم لم
يحكموا بما أنزل الله.
ويكفرون
المحكومين، لأنهم رضوا بهم، وتابعوهم على الحكام بغير ما أنزل الله، وهم يكفرون
علماء الدين وغيرهم، لأنهم لم يكفروا الحكام والمحكومين، ومن لم يكفر الكافر فهو
كافر.
وهم
يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم، فلم يقبله، ولم يدخل فيما دخلوا فيه.
ويكفرون
كل من قبل فكرهم، ولم يدخل في جماعتهم يبايع إمامهم. ومن بايع إمامهم ودخل في
جماعتهم، ثم تراءى له – لسبب أو لآخر – أن يتركها، فهو مرتد حلال الدم.
وكل
الجماعات الإسلامية إذا بلغتها دعوتهم ولم تحل نفسها لتبايع إمامهم فهي كافرة
مارقة.
وكل
من أخذ بأقوال الأئمة، أو بالإجماع أو القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان
ونحوها، فهو مشرك كافر.
وهكذا
أسرف هؤلاء في التكفير، فكفروا الناس أحياءً وأمواتاً بالجملة، هذا مع أن تكفير
المسلم أمر خطير، يترتب عليه حل دمه وماله، والتفريق بينه وبين زوجه وولده، وقطع
ما بينه وبين المسلمين، فلا يرث ولا يورث ولا يوالى، وإذا مات لا يغسل ولا يكفن،
ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
ولهذا
حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاتهام بالكفر، فشدد التحذير، ففي الحديث
الصحيح: من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما فما لم يكن الآخر كافراً
بيقين، فسترد التهمة على من قالها، ويبوء بها، وفي هذا خطر جسيم".
وإن غيب بعض قادة هذه الأمة فريضة الجهاد فإن
حسابهم على الله، وحتى لا تكون هذه الجماعات خوارج هذه الأمة اليوم عليهم أن
يثوبوا إلى رشدهم ويتقوا الله في هذه الأمة، وليرجعوا إلى التاريخ، وما جرته
الخوارج على هذه الأمة - التي ابتليت بهم على مر العصور - من دمار وحروب وتعطيل
لفريضة الجهاد ووقف للفتوح.
على
هدي هذين الأمرين، توكلت على الله وقمت بإعداد هذه الحلقات لتكون فيها (ذكرى لمن
كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق