لقد أجمعت مصادر التاريخ على أن
الفتنة التي تمخضت عنها الانشقاقات التي عصفت بجسد هذه الأمة ومزقت صفها، تعود إلى
عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. وكانت هذه الفتنة الغطاء الذي
تحرك في ظله دعاتها، ولتجر فيما بعد مسلسلاً دموياً طال الخليفة عثمان نفسه، ومن
بعده الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وبعد أن تطاولت الأيدي الآثمة على
رموز الدولة الإسلامية لم يعد هناك من شيء يمنعها أو يحد من غلوائها في تحدي
الإسلام عقيدة وفقهاً وعبادة وإمامة.
ووجدت هذه الأيدي مطيتها في أصحاب
الجهالة والعصبية حصاناً تركبه، ودرعاً تلبسه، وسيفاً تشهره.
لقد حدثت اختلافات بين المسلمين
من يوم أن قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلافاتهم كانت تهوي صاغرة
أمام كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله
عنه ينهي النزاع على خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قُبض، حيث اجتمع
الأنصار في سقيفتهم يريدونها فيهم، وهم يرون أحقيتهم فيها، فقد ناصروا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأيدوه وآووه. ولكنهم تراجعوا عندما ذكّرهم أبو بكر الصديق بما
قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، وسلم الأنصار
للقول الفصل، ولم يعلنوا الثورة أو التمرد وهم أصحاب الأرض والمنعة.
وهذا علي رضي الله عنه عندما جاءه
خبر بيعة الناس لأبي بكر، خرج في قميص له ما عليه إزار ولا رداء عجلاً، كراهية أن
يبطئ عنها حتى بايعه. ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله ولزم مجلسه.
لقد كانت غاية أصحاب الفتنة
ومفتعليها وقف المد الإسلامي والحد من الفتوحات (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو
كره الكافرون).
قلنا إن بداية الفتنة - كما أجمع
على ذلك رواة التاريخ - كانت قد أخذت تشرئب بأعناق مفتعليها كما تشرئب الديدان
برؤوسها من المستنقعات الطينية في النصف الثاني من عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان
رضي الله عنه.
وقد عرف عن عثمان رضي الله عنه
بحبه لقرابته، فولاهم وقربهم واستشارهم، وأُخذ على عثمان رضي الله عنه عزله لسعد
بن أبي وقاص عن ولاية العراق، وعزله لعمرو بن العاص عن ولاية مصر، وتقريبه لمروان
بن الحكم، وتوليته لعبد الله بن أبي السرح على مصر، الذي كان فظاً غليظاً متعالياً
قاسي القلب، مما أثار الناس على عثمان رضي الله عنه، فقد كان أول من انتقض وسار
عليه أهل مصر رعية ابن أبي السرح.
وجاء أهل مصر متمردين ثائرين، بعد
أن ضاق صدرهم بما يفعله فيهم عبد الله بن أبي السرح، ويئسوا منه أن يثوب إلى رشده
ويقيم العدل فيهم، وإن اليأس يفتح باب الشر، ويشق طريق الفتن ومن ثم القتل
والاقتتال، لأن العدل هو الحاجز المتين بين الخير والشر.
وكان عثمان رضي الله عنه - كما
روت كتب التاريخ - رقيق القلب ليناً مع ولاته وعماله، رغم سوء إدارتهم وظلمهم. وقد
تسلم عثمان الإمارة بعد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان شعاره: "خير
لي أن أعزل كل يوم والياً، من أن أبقي والياً ظالماً ساعة من زمان".
هذا التحول بين عهد عرف بالشدة
والعدل إلى عهد عرف برقة القلب واللين في التعامل. جعل الناس يتسرب اليأس إلى
نفوسهم والشك إلى يقينهم في أن يغير عثمان رضي الله عنه ما حل بهم من جور الحكام
وظلم الولاة.
أيضاً لم يكن عثمان رضي الله عنه
حازماً في وجه معارضيه، بل ترك لهم الحبل على الغارب، ظناً منه أنه يسوس الأمة
بلينه وشفقته بعد عهد من القسوة والشدة، فجاءت النتائج بعكس ما كان يؤمل، كما منع
الصحابة من التصدي لرؤوس الفتنة الذين أحاطوا بداره يريدون رأسه، منعاً لسفك
الدماء، ومنعاً من أن يرى المسلمين يقتل بعضهم بعضا.
رحمك الله يا عثمان ما أرق قلبك
وما أشفقك، أبيت سفك الدماء فكان رأسك الشريف الثمن، وجسدك الطاهر المهر، وكنت أول
الفداء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق