من أهمِّ أنواع الكذب
السِّياسيِّ الذي ترسَّخ في أذهان كثير من الشُّعوب العربيَّة حتى أصبح مبادئ
ثابتة، ومسلَّمات بديهيَّة، يُمنع الاقتراب من حرَمها، أو المساس بقدسيِّتها، ما
دعوه زورًا وبهتانًا «مقاومة» حينًا، و«ممانعة» أحيانًا أخرى.
بل حاولت «الأنظمة»
السِّياسيَّة القائمة جاهدة في تبرير عمالتها، وخنوعها وتبعيِّتها، من خلال رفع
شعارات تتناسب وسبيلَ «المقاومة» و«الممانعة» وإن كان بيعًا لـ«لوطن»، واستباحة
لدم «المواطن»، وتجاوز الأمر إلى تغيير المفاهيم التي بنتْ أجيالها عليها، فحوَّلوا
«الهزيمة» انتصارًا و«نكسَةً» حتى غدت محاولات «الإصلاح» و«التَّحرُّر» و«النُّهوض»
بالمجتمع نوعًا من الخرق لهذه الشِّعارات، وخروجًا عليها، وإن كانت تنحصر في معظم
الأحيان في رفع الحالة المعيشيَّة لـ«لمواطن».
ولا يخفى على جاهل في
السِّياسة ما أحدثته ثورات «التَّحرُّر العربيّ» من كشفٍ لهذه الأكاذيب
والتُّرَّهات التي عاشت عليها «الأنظمة» ردْحًا من الزَّمن، استغلَّتها في استعباد
شعوبها، واضطهادها، وإرهابها، وسرقة لقمة عيشها، وتغييب المجتمعات في جهلٍ مدقعٍ،
وفقر شاملٍ، وضياع أجيال بأكملها، لم ترَ «المقاومة» و«الممانعة» إلا خطاباتٍ في
المناسبات المصطنعة، أو بين ثنايا الكتب المحشوَّة بالتَّزييف، وتغيير الحقائق
والوقائع.
لكن ما يُدهش حقًّا
أنَّ هذا التَّزويير والتَّغيير قد أصبح حقيقة ثابتة، وفكرًا لدى كثير من الشُّعوب
التي خرجت مطالبةً بحريِّتها وكرامتها، ورافضة لهذه «الأنظمة» القائمة بعد أن ظهرت
عمالتها، وتكشَّفت عيوبها، ومتاجرتها بالأرض وأهلها.
وخير مثال على ذلك ما
وجدناه من ردود أفعال على زيارة المعارض السُّوري «كمال اللّبوانيّ» إلى «إسرائيل»
في حضوره الفريد لمؤتمر «مكافحة الإرهاب» المتزامن مع الحشد الدُّوليِّ الذي تقوده
«الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة» لمحاربة تنظيم «الدَّولة الإسلاميَّة» في «سوريا»
و«العراق».
إنَّ مجرَّد زيارة من
هذا النَّوع كفيلة لإخراج صاحبها من عروبته، وقوميَّته، ومدعاة لفتح باب «جهنَّم»
سياسيًّا عليه، وما هذا إلا من نتاج الفكر «المقاوم» و«الممانع» الذي تربَّت عليه
أجيال هذه «الأنظمة».
ولتوضح الموقف لا
بدَّ من طرح كثيرٍ من الأسئلة التي قد نجدُ لها جوابًا في الواقع الذي نعيشه،
ولعلَّ في مقدّمتها إقناع الجيل المعاصر وجود سفارات «إسرائيليَّة» في بعض الدُّول
العربيَّة؟! أليست هذه الدُّول ممَّن تدَّعي «مقاومتها» و«ممانعتها» الأَولى بقطع
العلاقات وإغلاق «السَّفارات»؟!
أليستْ بعض الدُّول
التي تدعم حركة «التَّحرُّر الثوريَّة السُّوريَّة» تقيم علاقات دبلوماسيَّة،
وتبادل تجاريّ مع «إسرائيل» كـ«تركيا» و«قطر» و«الأردن» وغيرها؟! ألا يشهد
التَّاريخ العربيّ المعاصر بأنَّ أكثر الدُّول أمانًا هي الدَّول التي «طبَّعت»
علاقاتها مع «إسرائيل»؟!
ألا يحقُّ للشَّعب «السُّوريّ»
بعد ما تخلَّى عنه القريب والبعيد أن يتَّخذ قراره بإحقاق «السَّلام» في «الشَّرق
الأوسط»؟! ألا يقرُّ كثير من «المحلِّلين» و«السِّياسيِّين» أنَّ العقبة الوحيدة
في إنهاء المأساة «السُّوريَّة» هي إرضاء «إسرائيل»؟!
وإذا كان الأمر كذلك
ألا يحقُّ لنا أن نسارعَ إلى ذلك قبل غيرنا لأنَّنا أصحاب المعاناة، وأهل الدَّم
النَّازف؟! ألم يختر «أنور السَّادات» الطَّريق نفسه من أجل شعبه ووطنه؟! ألم
تصوِّر لنا «الأنظمة» الحاليَّة تصرَّفه على أنَّه خيانة عُظمى في حين أثبتت أنَّه
لا يمُثِّل نقطة في بحرها؟!
ألا يدلُّ ذلك على
وجود «مقاومة» و«ممانعة» فكريّة هي أشدُّ وأصعب من «السِّياسيَّة»؟! ألا يزال بعضنا
مصرًّا على هذا الفكر إن خالفناه علنًا، بينما يصفِّق ويُهلِّل لمخالفه سرًّا؟! ألم
تحنِ اللَّحظة التي تتفتَّح العقول نحو نوعٍ جديد من العدوِّ كان يدَّعي هذه
الشّعارات يومًا كـ«النِّظام الإيرانيِّ» القائم؟!
د. محمد عناد سليمان
15 / 9 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق