ومن
عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ
رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ
الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين
للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى
التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله
عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ
أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة النحل
[الآية 103]
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهَـذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُّبِين ).
منذ
القديم وإلى هذه اللحظة يفتري الكافرون على نبي الإسلام ما يفترون، ويدّعون ما
يدّعون، ويرمونه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن ليس من الله، وليس من عنده، فقد
تعلمه من غيره ..
ومما يضحك له الإنسان- من ألم- أن هذا الادعاء
صبياني، لا يقول به عاقل، ومتى كان الكافرون عاقلين، لأن الحجة التي بنوا عليها
ادعاءهم تافهة لا وزن لها - كبقية الاتهامات الأخرى- لكن تفاهة هذا الادعاء ناتجة عن
أن الصغير لا يقبل بها، ويسخر من سردها.
فقد روى ابن إسحاق أنه كان في مكة فتى أعجميٌّ قُربَ
الصفا، يبيع بعض السلع البسيطة، يمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كما يمر عليه
الناس، ويكلمه كما يكلمه الآخرون، ولم يكن هذا الأعجمي ليتكلم من العربية سوى كلماتٍ
وجملٍ يكاد لا يبينها ولا يحسن نطقها ادعى كفار مكة أنه علم النبي صلى الله عليه
وسلم القرآن والحكمة!!.
وعلى
الرغم من أن هذا الادعاء لا وزن له إلا أنه ينبغي أن نشير إليه رادّين على
تخرصاتهم :
1-
لو كان هذا الغلام ذا حكمة وفهمٍ، ما وضع نفسه في الموضع الذي هو فيه، يمرُّ عليه
الجميع من كبارٍ، وصغارٍ، وينظر إليه الكثير منهم نظرة ازدراء.
2-
أنَّى لهذا الفتى أن يُعلِّم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن والحكمة، على فرض
وجودها عنده، وأداة التعليم واللغة وحسن البيان ليست فيه؟! وفاقد الشيء لا يعطيه.
3-
كان أحرى بهذا الأعجمي- الذي اتصف بالعلم والحكمة على حد قول الكفار- أن ينسب
القرآن إلى نفسه، فيفخر بذلك على أهل مكة ومن حولها، ويتبوأ فيهم مركز الصدارة، لا
خانة النسيان!!
4-
لِمَ تكاسل هؤلاء جميعاً فلم يتعلموا منه- إن صح زعمهم- فأفادوا واستفادوا،
ونافسوا محمداً صلى الله عليه وسلم في دعوته؟!!.
5-
وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم - حسب ادعاء الكافرين- تعلَّم من ذلك الأعجمي
القرآن والحكمة، ثم صاغ ذلك بأسلوب عربي مبين.. أما كان أهل قريش - وهم أفصح
العرب- أن يصوغوا الأفكار بقالبٍ سامٍ من البلاغة.. مثَلُهم مثَلُ النبي صلى الله
عليه وسلم ؟!! لقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله.. فعجزوا.. وتحداهم أن يأتوا بعشر
سورة مثله- مفتريات- فعجزوا.. وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا..
أمة
مشهورة بالبلاغة والفصاحة يأتيها رجلٌ بكلامٍ من كلامهم ويتحداهم أن يكونوا مثله
في حُسن البلاغة والبيان فلا يستطيعون.. وينبهرون حين يقرأ عليهم، وتتلى آياته فيهم،
فيصمتون إعجاباً.. أحرى بها أن تصدق أنه كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه
وسلم..
ولئن
اجتمع الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية عام أربعة وخمسين وتسع مائةٍ وألف في
مؤتمر المستشرقين يدّعون أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد- وهو محمد
عليه الصلاة والسلام- بل من عمل جماعة كبيرة، وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في
الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها!!
لَهذا
الافتراءُ الجاهليُّ في القرن العشرين الجاهلي!! أقلُّ خطأ من خطأ الجاهليين أهل
مكة.. وكل أقوالهم خطأ.. لكنّ جاهليّي القرن العشرين أقرُّوا أنَّ رجلاً واحداً بل
إن رجلين أو أكثر لا يستطيعون تأليف كتاب يتضمن قواعد الحياة وأسسها إلى يوم
القيامة.. وغاب عن عقول ملاحدة القرن العشرين أن العالم كلّه ماضيه وحاضره لا
يستطيع أن يأتي بمثله أنسهم مع جنّهم.. لأنه كلام الله الذي
( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (1)
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق