لم تعد تنفع المجاملة أو المداهنة في مواجهة فقه التوحش الذي يزداد ضراروة
كل يوم، وأصبحت وتيرة الجهود التي يبذلها فقهاء التجديد في مواجهة التعصب أدنى
بكثير من وتيرة التجدد في توحش العنف الثأري الذي يعتمد عليه الفقه الأعمى لجماعات
التوحش الديني.
لقد كتبنا مطولات عن إمكانية التحول فقهيا من أحكام الجلد والقطع والرجم
إلى العقوبات الإصلاحية، عبر آلة أصولية محكمة، بلغة الفقهاء الأصوليين، وأنا سعيد
انني ساهمت بهذا، وخاصة في كتابي الأخير العقوبات الحسدية والكرامة الإنسانية، نحو
فقه إسلامي مناهض للتعذيب، وأنا على يقين أن مثل هذه الدراسات ستكون ضرورة حقوقية
وتشريعية حتمية لأولئك الذين يبحثون عن نظام عادل بمرجعية إسلامية وفق الفقه
العميق لتجارب كبار فقهاء الإسلام عبر التاريخ.
ولكننا لم نستطع أبداً أن نؤثر في تلك الأشجار اليابسة التي شربت ثقافة
الكراهية والقسوة والشدة على مقاعد الدرس العتيقة، وفهمت القسوة والشدة والعنف على
أنها مراد الله وحدوده وأمره، ولم نستطع أن نوازي التطور المريع في ابتكار آلات
الموت الجديدة، فبعد القتل بالحرق والشنق والرصاص، يقومون من جديد بابتكار أنواع
جديدة من الموت: القتل بالخنق والقتل بالتفجير والقتل بالغرق والقتل بالركل... ويقومون
بتصوير ذلك كله بأرقى مستويات الميديا والمؤثرات الصوتية والبصرية والاحتراف
الفني، ويمضي ذلك الفقه الدموي الصادم في خيار الموت إلى درجة وصفها الرسول الكريم
بقوله: فتنة تجعل الحليم حيران.
وتصدر داعش أفلاماً خاصة لجرائم قتل العلماء المتخصصين بتهمة الردة، وتخص
منهم عدداً من فقهاء الشريعة المعروفين كان آخرهم الدكتور أحمد علي صالح القيسي
استاذ الدراسات الإسلامية في جامعة تكريت، ولست أدري كيف يمكن الحكم على أستاذ
الدراسات الإسلامية في جامعة سنية في قلب العراق بالردة؟؟ على الرغم من أن الكتب
التي يدرسها والمعايير التي يحتكم إليها في علمه وتعليمه لا تخرج أبداً عن منهج
الكتاب والسنة في شيء.
ولست بحاجة لمن يذكرني بأن جرائم داعش المتكررة لا تبلغ حجم جرائم النظام
الذي يقوم كل يوم بارتكاب مجازر أشد هولاً، وأفظع تدميراً، ولكنني لا أحاور هنا
جنون السياسة وجرائمها، بل أناقش فقط القتل باسم الرب، قاتلون يقتلون ويبتغون
رضوان الله، إنما نقتلكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً!!!!
ترتبط سوسيولوجيا التعذيب بجانب من الثقافة التي نتلقاها في حياتنا التربوية،
ومن اللحظة التي يقال فيها للطفل أقم الصلاة اليوم قبل ان تصليها على بلاط جهنم،
وصم حتى لا يحرقك الله بالنار، حتى في تقاصيل الوضوء الصغيرة ويل للأعقاب من
النار، وإنَّ الرجل لَيتكلَّمُ بالكلمة من الباطل ليضحك أو يضحك يهوي بها في
النَّار سبعين خريفاً، وإن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفا، يجري
فيها أودية القيح والدم، ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار
الأنيار يسقون من طينة الخبال وهي صديد أهل النار، وأن في النار أودية في ضحضاح من
النار، في تلك الأودية حيات أمثال أعناق الإبل، وعقارب كالبغال الخنس، فإذا سقط
إليهن شيء من أهل النار أنشأن به لسعاً ونشطاً، حتى يستغيثوا بالنار فرارا منهن،
ويأتيه في قبره من ملائكة العذاب من يحاسبه على التنزه من البول فيضربه سوطاً
يشتعل عليه القبر بالنار، ومنهم من يسلط عليه ثعبان شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه
يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه فجرجرهما إلى شحمتي أذنيه، وكلما نضجت
جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
حين تصبح قراءة أشكال من الانتقام والسادية بهذا اللون
المرعب جزءا من الثقافة المعتادة، والتي لا يجوز فيها أبداً مناقشة العدالة
والرحمة والحكمة، فإن من المنطقي أن يتصرف الذباحون بدم بارد وهم يطبقون ما تعلموه
في الأرض وتعودوا سماعه في عالم السماء، وحين يطرح التجديد الإسلامي مناقشة مسألة
التعذيب الموعود تواجهك فوراً ثقافة الردة المخيفة: أأنتم أعلم أم الله؟؟؟ قل
أتعلمون الله لدينكم؟؟
إن معاني مثل هذه يمكن أن تكون طرفاً من حديث صحيح او
ضعيف، ويمكن أن يجد المرء في القرآن الكريم نفسه خبر الحميم والزقوم والغساق
والسجِّين والعذاب المرقوم والعذاب المهين والشديد والأليم والعظيم، ولكن ذلك كله
يأتي في سياق عالم موعود لا يشبه عالمنا في شيء لا في عذاباته ولا في آلامه ولا في
قوانينه الفيزيائية.
وإلى جانب آيات العذاب فإن آيات الرحمة تملأ القرآن
وتملأ التراث الإسلامي إن الله يغفر الذنوب جميعاً، وهو الرحمن الرحيم، ومع أن
صفاته المتقابلة فيها الرحمة وفيها البطش، وفيها الغفران وفيها الانتقام، ولكنه
اختص البسملة التي هي أساس كل شيء بصفتين من باب الرحمة، الرحمن الرحيم وكررها في
سورة الفاتحة القصيرة أربع مرات، واختص الرحيم برحمة من يستحق واختص الرحمن برحمة
من لا يستحق، فمن يرحم الحمام والعصافير والأطفال فهو الرحيم ومن يرحم الثعبان
والعقرب والكافر الملحد فهو الرحمن، وليس لأحد أن يزعم أنه رحمن
ويروي ابن عربي أن إبليس نفسه لما نزلت (ورحمتي وسعت كل
شيء) شمخ بقدميه وقال يا رب أنا شيء!! أنا شيئ!!
وفي لهجة فطرية بريئة وعقب حديث طويل للنبي الكريم عن أهوال النار
وعذاباتها سأله أعرابي: يا رسول الله!! من يلي أمر الحساب يوم القيامة؟ قال
الرسول: الله!! قال الأعرابي ففيم الفزع
يا رسول الله؟ والله ما أحب أن يلي أمر حسابي أبي ولا أمي.. إن الله ارحم... والراحمون
يرحمهم الله.
نجحت الصوفية خلال التاريخ في كسر تابو العذاب الأبدي،
ونجح ابن عربي تحديداً في تحويله إلى ممارسة عذبة من العذوبة فيها بهجة الاتحاد
والشهود والشوق، وذهب في الفتوحات المكية إلى ما هو أبعد من هذا فأخبر عن أولياء
الله وأحبائه من الكافرين والمشركين والمسيحيين واليهود، وقدم قراءة فريدة في ذلك،
ولكن الخطاب الصوفي ظل مارقاً أسود في ثقافة العذاب والقهر التي يمارسها الخطاب
الظاهري الذي يرفض كل جهد فقهي أو صوفي في تطوير النص أواستجابته للتطور الإنساني
والعرفاني.
ربما كان ابن عربي العلامة الفارقة في التمييز بين ما هو
نصي محسوم وبين ما هو عرفاني مفتوح، ورسم بقلمه صورة التشظي العنيف بين أبناء
الأمة بين ثقافة الوفاق والفراق، وقد عشقه الشمال الإسلامي في بلاد الشام
والأناضول في حين رفضه عرب الجنوب، واختار له الأولون اسم الشيخ الأكبر فيما اختار
له الآخرون لقب الشيخ الأكفر.
أحبته دمشق وحلب وحمص وحماه، وكان فقهاؤنا الراسخون
يَقرؤون ويُقرؤون كتاب الفتوحات لابن عربي، ولأجل مجده سمت دمشق جبينها المجيد في
قاسيون جبل الشيخ محي الدين بن عربي.
لا أعتقد أن ابن عربي يمكن أن يقدم أي حل لكارثة ثقافة
البغضاء الطاغية التي يحملها أصحاب القلوب القاسية ويمارسون بها تعذيب عباد الله
خنقاً وحرقاً وغرقاً وشبقاً، وغاية ما يمكن أن يؤثر فيهم إذا قرؤوا هذا المقال أن
يفخخوا قبره ويفجروه انتقاماً للتوحيد من الشرك، ولكنه قدم نموذجاً في التاريخ كان
له دور جوهري في جيل كامل يؤمن بالحب ولا يؤمن بالحرب، وأعتقد انها مسؤولية فقهاء
الإسلام اليوم أن يقوموا بدور إيجابي مماثل كالدور الذي قام به ابن عربي في إصلاح
التربية والتعليم، ومنع أي تفكير يأخذ المسلم إلى الاعتقاد بإله يشبه إله بني
إسرائيل الذي لا يكف عن الصياح والوعيد والتهديد ويبتكر فنون الإبادة ضد مخالفيه،
ويصرخ فيهم هاتوهم واذبحوهم قدام الرب!! إلى الأفق الآخر الذي بلغه العرفان
الإسلامي حين قدم الله رسالة محبة ورحمة، رسالته النهائية هي ما سطره في صدر سورة
الفاتحة وألزمك بقراءتها كل يوم سبع عشرة مرة: الرحمن الرحيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق