بسم الله الرحمن الرحيم
أن تقول لغيركَ: "أخطأتَ"
فهذا له ظروفه وآدابه، ومتى يحسُن ومتى يسوء، وهل الذي تواجهه بهذه الكلمة إنسان أضعف
منك، أم مثلك، أم أنه من أصحاب النفوذ والسلطان...
والحديث في ذلك يدخل في باب النصيحة،
أو في باب النهي عن المنكر، كما يدخل أحياناً في باب "ما لا يعنيك".
حديثنا هنا عن الوجه الآخر: أن تُقِرَّ
على نفسك بالخطأ، فتقولَ بتواضع حقيقي: "أخطأتُ". فهذا لون من ألوان الشجاعة
يَفقِده كثيرٌ من الناس.
الإنسان بحاجة إلى أن يتذكّر بعض البديهيات
والمسلَّمات، ويلتزم بها، ويتكيَّف معها... كما هو بحاجة إلى أن يتعلم الجديد من المعارف
والقيم والمهارات.
ومن البديهيات ذات العلاقة بموضوعنا
أن الإنسان يضْعُفُ ويجهَل ويُخْطِئ ويَنسى.
القرآن الكريم يقول عن الإنسان: وخُلِق الإنسان ضعيفاً (النساء: 28) لذلك يعجِز عن إنجاز كثير من الأمور،
فإذا يسَّره الله للنجاح في ميدان، فقد لا يُيسّره للنجاح في كل ميدان. وفي الحديث
الشريف: "اعملوا فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له". رواه البخاري ومسلم.
وهو كثير الخطأ: "كل ابن آدم
خطّاء" من حديث رواه أحمد والترمذي.
وفي حديث الاستخارة يُعلّمنا النبي
صلى الله عليه وسلم أن يُخاطب العبدُ ربَّه: "... فإنّك تعلم ولا أعلم، وتقدِرُ
ولا أقدر، وأنت علام الغيوب". من حديث رواه أحمد والبخاري.
وأمام هذه الحقائق التي يعلَمُها كل
مؤمن، بل يعلمها كثير من الكفار، لا يُستغرب أن يندّ عن الإنسان – مهما بلغ مقامه
– خطأ أو تقصير، في قول أو عمل، أو جهلٌ في علم من العلوم، أو مسألةٍ من المسائل...
وإذا كان الله تعالى قد عصم رسُله
عن الوقوع في المعاصي ليكونوا أسوة لمن وراءهم، فإنه سبحانه لم يجعل هذه العصمة لغير
الرسل، فضلاً عن أن يعصم أحداً عن النسيان والجهل والضعف.
ولعل ما تكلمنا به حتى الآن محلُّ
تسليم لدينا جميعاً. فلنسْأل أنفسنا: أنلتزم به في حياتنا فعلاً؟!
ألسنا نجد من يتأخر عن الوصول إلى
الموعد، فإذا عاتبه أخوه انتفض غاضباً في وجهه، وأتى بمزيد من الإساءات: نحن لسنا طلاب
مدرسة ابتدائية حتى تُحاسبنا على التأخير! أنسيتَ عندما تتأخر أنت عن مواعيدك؟ أتحسبُ
أننا في سويسرا حتى تسألنا عن تأخر ربع ساعة؟!
ألم يكن أسهَلَ وأسلم أن يقول: لا
تؤاخذني! وسأحرص على أن لا أتأخر في مرات مقبلة إن شاء الله؟!.
ويتقدم أحدهم للحديث بلغة الأرقام،
شأنَ الواثق المتمكن. فإذا واجهه أحد الحاضرين بأن هذا الذي تقوله بعيدٌ كل البعد عن
الحقيقة، وأن الأرقام التي ذكرتها قد بالغتَ فيها مبالغة شديدة... أبى أن يتراجع ويعتذر،
بل راح يهاجم أخاه: لا أسمح لك أن تردَّ عليّ! أنا لستُ ملزماً بأن أتقيد بالأرقام
الدقيقة والكسور العشرية على طريقتك الفذة!.
ألم يكن الأولى به أن يقول مثلاً:
كنتُ أحسبُ أنني أقول الصوابَ. سأحاول أن أعيد النظر في الأرقام لأتأكد منها.
ومثل هذا وذاك من يتصدى لعمل من غير
اختصاصه، ومن غير أن يضطر إليه... وينشأ عن عمله خسائر بل كوارث... ثم لا يرضى أن يُقرّ
بخطئه..
ومثله من يتعصب لإنسان ويدافع عنه
في أي موقف، ويصعب عليه أن يقبل نسبة أي خطأ إلى صاحبه الذي يتعصب له.
***
وحتى يزداد قبح تلك المواقف وضوحاً
ننقل نماذج لصور مضيئة من مواقف رجال أسهموا في بناء الحضارة... ننقلها باختصار من
كتابٍ عظيم الشأن، هو "جامع بيان العلم وفضله" للإمام ابن عبد البَرّ:
عن الإمام التابعي عامر الشعبي قال:
ما رأيتُ مثلي، ما أشاء أن أرى أعلَمَ مني إلا وجدتُه!
وسئل أيوب السَّختياني عن شيء فقال:
لم يبلغني فيه شيء. فقيل له: قل فيه رأيك! قال: لا يبلُغُه رأيي!
وقال عبد الرحمن بن مهدي: ذاكرتُ عبيد
الله بن الحسين القاضي، بحديثٍ، وهو قاضٍ فخالفني فيه. فدخلتُ عليه (بعدئذ) وعنده الناس
سِماطين (جالسين صفّين) فقال لي: ذلك الحديثُ كما قلتَ أنت، وأرجع أنا صاغراً!.
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: أيامي
أربعة: يوم أخرج فألقى فيه من هو أعلمُ مني فأتعلّم، فذلك يوم فائدتي وغنيمتي. ويوم
أخرج فألقى فيه من أنا أعلم منه، فذلك يومُ أجري. ويوم أخرج فألقى فيه من هو مثلي فأذاكره،
فذلك يوم درسي. ويوم أخرج فألقى من هو دوني، وهو يرى أنه فوقي، فلا أكلّمه، وأجعله
يوم راحتي.
وعن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ،
بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أهْيَبَ لما لا يعلم، من عمر، وإن أبا بكر نزلت به قضية
فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً، ولا في السنّة أثراً، فاجتهد رأيه ثم قال: هذا رأيي،
فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني، وأستغفر الله.
وذكر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه
خرج عليهم وهو يقول: ما أبردها على الكبد! فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا
تعلمه: لا أعلم!.
وجاء رجل إلى القاسم بن محمد (التابعي،
أحد فقهاء المدينة السبعة) فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أُحْسِنُهُ! فجعل الرجل يقول:
إني رُفِعتُ إليكَ لا أعرفُ غيركَ! فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس
حولي، والله لا أُحْسِنُهُ!.
وسأل عبد الله بن نافع أيوبَ السختياني
عن شيء فلم يُجبْه، فقال له: لا أراكَ فهمتَ ما سألتكَ عنه. قال: بلى. قال: فلِمَ لم
تجبْني؟ قال: لا أعلمه!.
ودخل رجل على الإمام مالك بن أنس فقال
له: يا أبا عبد الله جئتُكَ من مسيرة ستة أشهر، حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألُك عنها.
فقال: سلْ. فسأله الرجل عن المسألة فقال مالك: لا أُحسنها. فبُهت الرجلُ فقال: أيُّ
شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعتُ إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أُحسن!.
وذكر ابن وهب: سمعتُ مالكاً يقول:
ينبغي للعالم أن يألَفَ فيما أَشكلَ عليه قول: لا أدري. فإنه عسى أن يهيَّأ له خير.
وقال ابن وهب: وكنتُ أسمعه كثيراً ما يقول: لا أدري!.
***
وفي مقالٍ بعنوان: "من غرر الحكم"
للأستاذ بشار بكّور، كلمة لابن هُرمُز: "ينبغي للعالِم أن يورِث جلساءه قولَ لا
أدري، حتى يكون ذلك أصلاً يفزعون إليه.
وقد تحدّث الإمام ابن الجوزي رحمه
الله عن نوع من أنواع التكلّف فقال: "إذا صحّ قَصْدُ العالم استراح من كُلف التكلّف،
فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول: لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا
يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا، وهذا نهاية الخذلان.
وقد مرّ بنا آنفاً أن مالك بن أنس
- وهو الذي يقال فيه: لا يُفتى ومالك في المدينة - كان كثيراً ما يقول: "لا أدري".
فهلا عوّد أحدنا نفسه أن يقول: أخطأت،
ولا أدري، وأستغفر الله؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق