في خضم حزنها الكبير على فقد ولدها
الشاب محمد علي، أقسمت انها لن تغادر اللاذقية ما عاشت.. كانت تحمل غيابها ذنب فقد
ابنها.
استشهد أخي محمد علي في آب ٧٩، كانت
أمي حينها تقضي بعض ايام الصيف في مصيف "سلمى" .. سمعت بالأحداث الجارية
في اللاذقية و ان "نادر حصري" - ابن حارتنا - قد استشهد يوم الخميس، و جنازته
يوم الجمعة.
توجهت مسرعة الى اللاذقية لتكون قرب
اولادها ولتطمئن على "محمد علي" فهي تعلم انه لن يتوانى عن المشاركة في الجنازة.
وصلت الى "الشيخضاهر" قرابة
الحادية عشر صباحا، كل الشوارع مغلقة بوجه العابرين الى "الصباغين او الصليبة"،
كان عناصر المخابرات متمركزين عند "العوينة و القلعة" مدججين بأسلحتهم، و
من جهة "هنانو" وصولا لحي "الأميركان" و الكورنيش القديم، يفصلون
وسط المدينة عن محيطها..
بذلت كل ما بوسعها، تلهث من شارع لآخر
علها تصل قبل صلاة الجمعة، توسلت و بكت لكل عناصر الأمن، و حاولت عبور بعض الأزقة ممسكة
بيد صغيرها ذي الست سنوات ، و لكنها لم تفلح..
الصمت كان عنوانا لتلك الساعات.. كانت
المآدن تعلن اوان صلاة الظهر، و انهيار كل آمال أمي بالوصول الى البيت، لهاثها يشتد
و رجاؤها يضعف، و العساكر المتعطشون لما هو آت لم تلين قلوبهم توسلاتها، و لا بكاء
الطفل الصغير.
مضى من الوقت ما يكفي لتصل الجنازة
الى محلات "مهروسة" في شارع القوتلي، منطلقة من "الصليبة" عبر
"الصباغين" باتجاه الشيخضاهر. و على الجانب الاخر من برزخ الشيخضاهر كانت
أمي، ما تزال في سعيها للعبور حين - فجاة - فتحت أبواب الجحيم امام ناظريها.. عشرات
من عناصر المخابرات و المتمترسين في ساحة الشيخضاهر يفرغون رصاصهم باتجاه شارع القوتلي،
في صدور العشرات من جمهور الجنازة، تتساقط الاجساد، يتساقط التابوت.. و انفلتت جثة
الشهيد، و سقطت أمي .. لم تحملها قدماها، ولا تمتماتها.
في هذه اللحظة تماما، سقط محمد علي
شهيدا برصاصتين في القلب و الخاصرة، استشهد محمد علي بعيدا عن أمه قرابة المائة متر..
لا يعلم بوجودها و لكنها كانت تستشعر خطبا ما. كان اخي "مروان" في الجنازة،
و لكن احدهما لم يكن يدري بوجود الآخر، وحده الوالد - رحمة الله عليه - كان يرى ولديه
في الجنازة و لا يرونه، يمشي خلفهما كأنه الملاك الحارس.
اقترب الوالد من محمد علي، حمل رأسه
..ضمه إلى صدره و لم يبك.
بعد ساعتين وصلت أمي الى البيت، كانت
موقنة فور وصولها، و عند مدخل البناية، عابرة عشرات من الجيران ان الفقيد هو محمد علي.
بعد عام و نصف، حنثت أمي بيمينها،
اذ اضطرت لترك اللاذقية يوم سافر والدي لمصر بعد ملاحقة استمرت شهرين، و حينما عادت
مسرعة خائفة، تحققت مخاوفها فلم ترني الا بعد ثلاثة عشر عاما..
و في تلك الفترة سافر مروان هربا من
اعتقال أكيد.. و بقيت أمي شامخة عالية صامدة..
توفي الوالد غريبا في منفاه، و تناثرنا
أكبادا حرى في مشارق هذا الخراب و مغاربه، و أمي مشرفة من علياء صبرها و جهادها ترعانا،
نحن اطفالها الكهول.
إليك ايتها الباسقة ..اتوجه باعتذار
شديد عن تقصيري و قلة حيلتي لأغسل حزنك و ألمك ، مع يقيني انك اكبر من كل هذي الماسي.
كل يوم و كل ثانية و انت بألف الف
خير.
أمي اليوم تعود للدراسة، تحمل دفترها
كل يوم و تتوجه لمحاضرتها مشرقة باسمة، و تحدثنا بثقة و حماس عما تدرسه، تحلم ان تسجل
في الجامعة.. انها ست الكل "ام شفيق".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق