من منّا لا يعرف الصحابي المحبوب أنس بن مالك، خادم النبي صلى الله عليه
وسلم، وأحد السبعة الذين أكثَروا من رواية الحديث النبوي، بل إنه الثالث بين هؤلاء
الكرام، لم يسبقه في هذا الشرف إلا أبو هريرة وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم.
وحديثنا اليوم عن أم هذا الصحابي، وإحدى المبشرات بالجنة، فقد قال عنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "دخلتُ الجنة فسمعتُ
خَشْفةً بين يديَّ، فإذا أنا بالغميصاء بنت ملحان". والغميصاء، والرميصاء
كذلك، لقَبان لأم سُليم، واسمها سهلة، وقيل رملة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحيطها برعايته وإكرامه ويقول: "إني
أرحمها. قُتل أخوها معي"! رواه البخاري ومسلم. وأخوها هو حرام بن ملحان،
الذي شهد بدراً وأحداً، واستشهد سنة 4 هـ، يوم بئر معونة. ونلحظ في موقف النبي صلى
الله عليه وسلم خُلُق الوفاء، ومَن أجدَرُ بالوفاء من رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ فهو يحيطها بعطفه ورعايته، إكراماً لأخيها الذي استُشهد! كما نلحظ مقام
الشهيد عند الله وعند رسوله، فالشهيد جدير بأن يكون حيّاً يرزق عند ربه، وأهله
جديرون بالإكرام، فكرامته تشمل أهله جميعاً!.
وماذا نتحدث عن فضائل أم سليم الأنصارية، وكل صفحة من حياتها تستحق أن تفرد
بالحديث؟. لذلك سنلتقط من حديقتها هذه الأزهار:
* ما إن رأت الإسلام ينشر عبيره في يثرب حتى وجدت فيه الحق والخير فأسلمت.
وكان زوجها مالك بن النضر غائباً، فلما رجع ووجدها قد أسلمت غضب غضباً شديداً فلم
تعبأ به، بل راحت تغرس الإيمان في نفس ولدها أنس فأسلم مثلها. وانطلق مالك بن
النضر غاضباً يريد الشام فلقيه عدو له فقتله.
* وعندما قدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً جاءته أم سليم
بولدها أنس ليخدمه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثِرْ ماله
وولده وبارك له فيما أعطيته". رواه مسلم.
* وبعد أن شبّ ولدها جاءها أبو طلحة الأنصاري يخطِبها لنفسه، وكان لا يزال
على الشرك، فوقفت منه موقف المؤمنة المستعلية بإيمانها، الداعية التي تحب أن تهدي
العالمين.. قالت: يا أبا طلحة ما مثلُك يُرَدّ، ولكنك امرؤ كافر... فما لبث أبو
طلحة أن أسلم وحسُن إسلامه، فقبلت أم سليم به زوجاً، وكان مهرُها إسلامه، وفي هذا
يقول التابعي ثابت ابن أسلم: ما سمعنا بمهرٍ قطّ كان أكرَمَ من مهر أم سليم:
الإسلام!.
* وكانت أم سليم كريمة كزوجها أبي طلحة، فكانت كل حين تُهدي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم التمر والرطب والسَّمن وأصناف الطعام. بل كانت كذلك تُعِدّ الطعام
له ولأصحابه.
* وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها أحياناً، فتدركه الصلاة فيصلي
عندها على حصير، وكان إذا مرّ قرب بيتها "دخل عليها، فسلّم عليها"
كما في البخاري ومسلم.
* وكانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم وتتبرَّك بآثاره، وإذا عرِق على فراش
أو وسادة نشَّفت ذلك العرق وجعلته في قوارير عطرها فيزداد طيباً وأريجاً، وقد
سألها النبي عن ذلك مرة فقال: "ما تصنعين يا أم سُليم؟ فقالت: يا رسول
الله نرجو بركته لصبياننا. قال: أصبتِ". رواه مسلم.
وكانت تتبرّك بشَعر النبي الشريف، فلما أراد أن يحلق رأسه بمِنى، أخذ أبو
طلحة شِقّ شعره، فجاء به إلى أم سليم، فكانت تجعله في سُكَّتها (والسُّك نوع من
الطيب) [انظر سير أعلام النبلاء].
* وقصة صبرها حين توفي صبي لها، مشهورة وثابتة، قد رواها البخاري ومسلم، وذلك
أن ابنها كان مريضاً، وتوفي وأبو طلحة غائب، فلما عاد سأل عن الصبي. فقالت أم
سُليم: هو أسكَنُ ما كان! فقرَّبت إلى العشاء، ثم أصاب منها. فلما فَرَغ قالت:
وارُوا الصبي [أي ادفنوه، فقد توفي] فلما أصبح أبو طلحة جاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبره بما كان، فدعا: "اللهم بارك لهما" فولدت غلاماً
فحنّكه النبي صلى الله عليه وسلم وسمّاه عبد الله.
وروي أن عبد الله بن أبي طلحة كان من الصالحين، وقد رزقه الله سبعة بنين،
كلهم قد قرأ القرآن.
* وكانت أم سُليم بعد هذا مجاهدة شجاعة:
روى مسلم عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم
ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء، ويداوين الجرحى.
وفي غزوة أحد خرج مع المسلمين أربع عشرة امرأة يحملن الطعام والشراب،
ويسقين الجرحى ويداوينهم، وكان منهنّ فاطمة الزهراء، وعائشة الصدّيقة، وأم سُليم
وأم عُمارة المازنية.
وفي غزوة خيبر كذلك كان لها ولعدد من الصحابيات مشاركة طيبة.
وفي يوم حُنين خرجت تبتغي الجهاد وهي يومئذ حامل بعبد الله، ومعها خنجر!
وقد سألها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تصنعين به يا أم سليم"؟
قال: أردت إن دنا أحد من المشركين مني بقرتُ بطنه!. [والحديث رواه مسلم].
لقد كان الجهاد والاستشهاد شرفاً يتسابق إليه أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم، ولا ينفرد به الرجال، بل تشارك به النساء، ألسنَ شقائق الرجال؟!. أليس للدين
مكانة في قلوب الرجال والنساء تستحق أن تُفدى بالأموال والأنفس؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق