إنَّ «القرآن
الكريم»
كتابٌ معجزٌ في لفظه ومعناه، وقد أكبَّ العلماء قديمًا وحديثًا على دراسته،
واستنباط أحكامه، ومعرفة مقاصدها، وكان تفسير الطّبريّ المتوفى 316هـ أوَّل تفسير
وصلنا بالمأثور، ثم درج العلماء على تفسيره بالرَّأي، اجتهادًا منهم، وفق معايير
وضعوها، وقد تختلف من عصر إلى عصر، ومن مفسِّر إلى آخر.
لكنَّ مصنَّفاتهم في
ذلك لم تخلُ غالبًا من نزعة مذهبيَّة، أو سيطرة توجيه فقهيّ، أو استبداد فكر
طائفيِّ، فسادت هذه الكتب، وظهرت ظهورًا بيِّنا، وإن حاول بعضهم فيها أن يظهر
بمظهر المنصف والمعتدل.
فالزَّمخشري تـ538هـ،
في الكشَّاف جنح فيه نحو مذهبه الاعتزاليّ، والرَّازي تـ606هـ في مفاتيح الغيب درج
فيه على مذهب أهل المنطق والكلام الذي كان علمًا مذمومًا ومنبوذًا، والطُّوسيّ
تـ460هـ في التَّبيان نحو مذهبه الشِّيعيّ، إلا أنَّنا لا نرى فيه ما نراه اليوم
من تطرّف لدى أصحاب المذهب بعد سيطرة الحركة الإخباريّة والصفويَّة عليه، والبغويّ
تـ516هـ في معالم التَّنزيل ذهب مذهب أهل السنَّة، ولم يستطع أن يتخلَّص من هذه
النَّزعة، والقرطبيّ تـ668هـ في أحكامه نحو مذهبه المالكيّ، وغالب تفسيره في بيان
الأحكام، لكنَّه لم يبتعد أيضًا عن نزعته نحو رأي أهل السنَّة، وغالبًا ما يرجِّح
مذهبهم على غيره، وأبو حيّان تـ748هـ في البحر المحيط درج على المنهج السَّلفيّ،
وكثيرًا ما كان يتتبَّع الزَّمخشريّ، فيذكر مواضع دسائسه الاعتزاليَّة، وإن كان
يغلب على تفسيره النَّحو الصَّرف واللغة، وغيرهم من أئمة التَّفسير.
وكذلك الأمر في
الحديث النَّبوي الشَّريف، حيث عكف أهل العلم على دراسته، والبحث والنَّظر فيه،
لكنَّه لم يسلم من تحريفٍ ووضعٍ ونسبة ذلك إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويعدُّ
صحيح البخاري تـ256ه، من أقدم ما وصل إلينا، ثم تلميذه مسلم تـ261هـ في صحيحه، مع
الأخذ بعين الاعتبار أنَّ التلميذ خرج على أستاذه وألَّف في علمه، وزاد عليه، ولا
ضير في ذلك بخلاف من يرى من أهل العصر ممَّن يدَّعي العلم ضرورة الوقوف عند ما
وصلوا إليه، وعدم تجاوزهم في محاولة لإغلاق باب التَّجديد والإبداع، وكأنَّهم
صدَّقوا قولهم: لم يترك السَّابق للاحق شيئًا!
ومثله سنن ابن ماجه
تـ209ه ومسند الإمام أحمد تـ241هـ، وسنن أبي داود تـ275هـ، وسنن التَّرمذيّ
تـ279هـ، ، والطَّبرانيّ تـ360هـ، والبيهقيّ تـ458هـ، وغيرها من تصانيف علم
الحديث.
أمَّا
علم الفقه فقد جاء تتويجًا لهذه الأطراف المتنوعة المشارب، المتعددة المسالك،
وحاول كل فريق أن يخضع اللَّفظ القرآني لما يؤيد فكره الفقهيّ، وأن يعلي من شأن
التَّفسير الذي يتوافق معه، وأن يوجدوا الأحاديث ويضعوها وينسبوها إلى النَّبيّ
صلى الله عليه وسلم ليثبتوا صحَّة رأيهم، وصواب اجتهادهم، كالمبسوط للسرخسيّ، وبدائع الصنائع في ترتيب
الشَّرائع، والبحر الرَّائق، والبيان والتَّحصيل، وإرشاد السَّالك، ومنح الجليل،
وكتاب الأم للشَّافعيّ، والحاوي الكبير، والمجموع، والإقناع، ومغني المحتاج، والمغني
لابن قدامة المقدسيّ، والمبدع، ومنار السَّبيل وغيرها من المصنَّفات.
وعلى الرَّغم من كلّ
هذه المؤلَّفات، وكثرة تناقضها، واختلافها، الذي قد يصل إلى حدِّ التّكفير في
بعضها، فإنَّ باب الاجتهاد والتَّأليف فيها كان متاحًا، ومقبولاً، شريطة ألا يخرج
المؤلّف عن سياج هذه العلوم، وإن كان الصَّواب ألا نرى اختلافًا، أو تناقضًا؛
لأنَّها وكما يدَّعي أصحابها قد اعتمدت على منبع واحد.
أمَّا التأليف في
غيرها من الفنون فقد كان مستهجنًا، ومستغربًا إذا ما أقدم عليه عالم من العلماء
لكسر هذا الحاجز، وتجاوز السِّياج المصطنع، والخروج على هذا النَّهج الدِّيني
الواضح، ولكنَّ هؤلاء العلماء كانوا يقفون بالمرصاد في وجه أي محاولة تجديديّة، أو
التَّفكير بالخروج على منهجهم، وطرق تفكيرهم، فكانوا أكثر النّاس نقدًا لهم،
وكثيرًا ما يلجأون إلى الفتاوى التي يرونها ويبثُّونها هنا وهناك، من أجل ثني
الباحث عن فكره ومراده، وكأنَّهم يرون حقّ التأليف خاصًّا بهم، ومحتكرًا لهم، فقد
حرُّقوا كتب الإمام الغزاليّ، ووصف الذَّهبيّ في سير الأعلام كتابه بقوله: «أراد
إحياء الدين فأماته». وكذلك خنقوا لسان
الدين ابن الخطيب، وحرقوا جثَّته بسبب ما أورده في كتابه: «روضة
التعريف بالحبّ الشَّريف»، وحكموا بالكفر
والزَّندقة على ابن الفارض، ومطاردته في كلِّ مكان، نتيجةً لما أورده في شعره،
ووصف ابن الجوزيّ كتاب «الأغاني»
لأبي فرج الأصفهاني بأنَّ فيه كلَّ قبيح ومنكر، لأنَّه كان على «التشيُّع»،
ووصف ابن القيّم ابنَ سينا بأنَّه إمام الملحدين الكافرين، وكذلك كفَّروا
الفارابيّ لمجرّد محاولته محاكاة العلم والبحث عن جواهر الفلسفة.
والغريب أيضًا أنَّ
ثلَّة ممن نهجوا النَّهج نفسه ممَّن يدَّعون أنَّهم من علماء العصر يسلكون
السَّبيل نفسه في الحكم بالتَّكفير، والطَّعن، والزَّندقة والإلحاد على كلّ من يحاول
التَّجديد، والبحث في مكنونات العلوم؛ بل زادوا عليهم وكانوا أكثر تشدُّدًا إذ
إنَّهم يكفِّرون كلَّ من يحاول المساس بالقديم الذي وصل من مؤلَّفات القوم، وإعادة
البحث والنَّظر فيه، وكأنَّ الدنيا توقّفت عند هؤلاء.
ولعلَّ هذا من أهم
الأسباب التي نراها في عدم نبوغ وجوه مسلمة لها حضورها في التَّاريخ البشريّ
المفيد والمميَّز على النّحو العلميّ والتَّطبيقي، على الرَّغم من أنّهم يمتلكون
أعظم معجزة في الوجود ألا وهي كتاب الله سبحانه وتعالى، القائل فيه: {يَا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}الرحمن33،
في دلالة واضحة إلى الإبداع والابتكار والإنجاز، وإن كان خارج الكرة الأرضيَّة.
ماذا عليهم لو أنَّهم
توقّفوا عن التَّأليف في العلم نفسه، الذي لم يكن إلا تكرارًا لما سبق، وأفردوا
وقتهم لشيء من هذا؟! وماذا عليهم لو أنَّهم نبذوا الخلافات الدِّينيَّة
والمذهبيَّة التي لم تثمر إلا تشتتًا في الأمَّة وصل إلى حدِّ القتل والتَّعزير؟!
ماذا عليهم لو أنَّهم أفردوا فكرهم وأعملوه لتحقيق ما يفيد الإنسان في دنياه، بما
أنَّ القرآن الكريم تكفَّل بآخرته؟! ماذا عليهم لو أنَّهم سمحوا لذوي العقول أن
يبحروا في فنونهم ليكونوا السبَّاقين لنهضة الأمَّة الإسلاميَّة؟!
د. محمد عناد
سليمان
20 / 5 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق