إنَّ من
يتدبُّر كلام الله عزَّ وجلَّ المعجز يجدْ أنَّه قد بلغ من العظمة ذروتها، ومن
البلاغة قمَّتها، ويعلمُ أنَّ لكلِّ كلمة وحرف معنى مرادًا قائمًا بنفسه، لا زيادة
فيه بحرفٍ، خلافًا لمن ذهب إلى ذلك.
وكنَّا قد
أشرنا في عددٍ من المقالات إلى نحوٍ من هذا، ونؤكِّد هنا أنَّ كلَّ لفظة في «القرآن
الكريم» حاضرة لمعنى في مكانها، وقد تكون لآخرَ في موضع آخر، وسياق جديد، وكلُّ
لفظةٍ فيه مختارة بعناية ودقَّة، كيف لا، وهو كلام ربُّ العالمين، القائل فيه: {أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ
فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}النساء82.
ومن إعجازه ما
ذكره عن الإنسان، وتمايز الألفاظ من موقع لآخر، فنراه حينًا ذكرًا وأنثى، وحينًا
رجلا وامرأة، ولا شكَّ أنَّ لكلٍّ منها معنى خاصًّا يتناسب والسِّياق الذي ترد
فيه، والذي نرجِّحه أنَّ الأوَّل يُراد به الطبيعة البشريَّة التي خلق الله عليها
الإنسان من زوجين، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}الحجرات13. وقوله تعالى: {فَلَمَّا
وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا
وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}آل عمران36، وقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}آل عمران195، ومنه أيضًا: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}النساء124.
أمَّا
الثَّانية فالمراد بها حالة «الذّكر» و«الأنثى» عند البلوغ، وفي علاقتهما
اليوميَّة من نكاح، ومعاملات وغيرها، يؤكِّد ذلك المواضع التي وردت فيها، من ذلك قوله
تعالى: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
السُّدُسُ}النساء12؛ بل نكاد لا نعثر عليه في كتاب الله مقارنًا لذكْر المرأة إلا
مجموعًا كقوله تعالى عند ذكره عدَّة المطلَّقات: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ
وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}البقرة228. وغيرهما من الآيات التي تختصُّ بذكرهما معًا،
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن
نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَاء}النساء1. وقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ}النساء7. وقوله أيضًا: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ
وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}النساء32.
وقد اجتمعا في
قوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ}النَّساء176. وقوله أيضًا: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن
تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ
فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}الفتح25.
إلا أنَّ
كثيرًا من أهل العلم والتَّفسير لم يفرِّقوا بينهما، ودرجوا عليهما وكأنَّهما شيء
واحد، فابتعدوا كثيرًا في تفاسيرهم وأحكامهم الفقهيَّة اعتمادًا على ذلك، وأودعوا
كتبهم ومصنَّفاتهم ما يشير إليه؛ بل إنَّ بعضهم قد بالغ ليصل إلى حدِّ وصْفِ «المرأة»
بما ليس فيها، وجعلها دون الرَّجل مكانة ومنزلةً وخلقًا، والله تعالى يقول: {لَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}التين4. ولفظ الإنسان عامٌّ يشمل
الذَّكر والأنثى.
ونخصِّصُ بحثنا
هذا لما علقَ في أذهان أهل العلم خاصَّة، ومن تابعهم من العامَّة من نعت «المرأة»
بنقصان عقلها ودينها، ومحاولة إظهار حقيقة ما هي عليه، وما هم عليه من قولهم، وما
هي الأدلَّة التي اعتمدوا عليها في قولهم هذا.
ولعلَّ من
أظهر الأدلَّة التي جعلوها ركنًا يستندون إليه في ذلك آيتان، الأولى قوله تعالى: {الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ
لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً
كَبِيراً}النساء34.
حيث جعلوا من
«القوامة» سببًا للتَّنقيص من حقِّ « المرأة»، وفسَّروا أنَّ فضل «الرَّجل» عليها حاصل من
العلم والقدرة، حيث إنَّ عقول «الرِّجال» وعلومهم أكثر، ولا شكَّ كما يرون أنَّ
هذين السَّببين جعلت الفضيلة لـ«لرِّجال» على «النِّساء» في «العقل»، والذي نراه
أنَّ مردَّ ذلك كما أشرنا إلى عدم تمييزهم بين لفظ «الأنثى» و«المرأة» في «القرآن
الكريم».
أمَّا الآية
الثَّانية فهي قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن
لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}البقرة282.
حيث اجتهدوا في تأويلها، حتى وقعوا فيما أطلقنا عليه سابقًا «تحريف القرآن بالتَّأويل.
إذ إنَّ بعضهم كابن كثير قد ذهب إلى أنَّ سبب شهادة «امرأتين» مقابل شهادة «رجلٍ»
إنَّما عائد إلى نقصان عقلها، فقال: «وقوله: استشهدوا شهيدين من رجالكم: أمر
بالإشهاد مع الكتابة لزيادة الثِّقة. فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان: وهذا
إنَّما يكون في الأموال وما يقصد به المال، وإنَّما أقيمت المرأتان مقام الرِّجل
لنقصان عقل المرأة، كما قال مسلم في صحيحه:حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني
رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل
النار؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن. قالت: يا رسول الله، ما نقصان
العقل والدين؟ قال: أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل
شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان
الدّين».
فـ«النِّساء»كما
يظهر من هذا الخبر «ناقصات عقل ودين»! مِّما يجعل النَّاظر يقف حيران أمام مثل هذه
الأوصاف، وبين آيات أخرى سبق ذكرها في «كتاب الله» عزَّ وجلَّ.
بينما علَّل «الرَّازيُّ»
ذلك بالنِّسيان الحاصل لـ«لمرأة» بغلبة طبعها، فقال: والمعنى أنَّ النَّسيان غالب
طباع النساء لكثرة البرد والرُّطوبة في أمزجتهن, واجتماع المرأتين على النِّسيان
أبعد في العقل من صدور النِّسيان على المرأة الواحدة فأقيمت
المرأتان مقام الرجل الواحد حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية».
وأبعد من ذلك ما
ذكروه عن «سفيان بن عيينة حملا على قراءة «ابن كثير»، و«أبي عمرو بن العلاء»:
أنَّه قال: «ومن الذّكر أي: تجعل إحداهما الأخرى ذَكَرًا، أي: تصير شهادتهما
كشهادة ذكر». وقد ردَّه بعض المفسِّرين كـ«الزمخشريِّ» حيث وصفه بأنَّه من «بدع
التَّفاسير»، و«ابن عطيَّة» بأنَّه: «تأويل بعيد غير صحيح، ولا يحسن في مقابلة
الضَّلال إلا الذِّكر». وكذلك ردَّه «البغويّ» و«الرَّازي» و«أبو حيَّان» و«ابن
كثير» وغيرهم، ووصفوه بأنَّه «مخالف لإجماع المفسِّرين».
وقد بيِّن بعض
المفسِّرين سبب إدخال شهادة «المرأة» هنا مع «الرِّجال» خاصَّة فقال: «وإنمَّا كان
ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها
وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التّوثق تارة بالكتبة، وتارة بالإشهاد، وتارة
بالرَّهن، وتارة بالضّمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النِّساء مع الرّجال».
ولا حظنا كيف
علَّل «ابن كثير» وغيره أنَّ شهادة «المرأتين» في مقابل شهادة «الرَّجل» الواحد،
إنَّما هو عائد إلى نقصان عقلها، ولا أعلم سبب هذا التَّحامل على «المرأة»، ووصفها
بذلك، إلا التَّأويل البعيد عن إدراك المعنى المراد من الآية الكريمة، ولعلَّ قوله
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ}البقرة282. كفيلٌ للرَّد
عليهم في ذلك، فلم يسألوا عن سبب وجود «الرَّجلين» في شهادة «الدَّين»! وهل وجود «رجلين»
معًا دليل على أنَّ أحدهما ناقص عقل ليبرِّر وجود الثَّاني؟!
وأكاد أجزم
بأنَّ الذي دفعهم إلى مثل هذا القول ما ورد من أحاديث في بعض الكتب «الصِّحاح»
التي تساند قولهم، وتبرِّرُ زعمهم، وتؤكِّد المعنى الذي ذهبوا إليه، من ذلك ما ورد
في صحيح «مسلم»، و«البخاريّ»،
حيث جاء فيه: «حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ
أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ
فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ
النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ
وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ
مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ
الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ
الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا
حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ
دِينِهَا».
ومثل هذه
الأحاديث وغيرها لا تنهض دليلاً على صحَّة ما ذهبوا إليه، لأنَّها تسقط عند البحث
والتَّفنيد العلميّ، وقد بذل الأستاذ «ظافر النَّحَّاس» المتخصِّص في «الحديث النّبويِّ»
جهدًا كبيرًا، من خلال دراسة علميَّة دقيقة، وأثبتَ بما لا يدعُ مجالا للشكِّ
بطلانها، وأنَّها مدرجةٌ على أصل، لا نجد فيها ذكرًا لمثل هذه الأوصاف التي تطعن
في بنية «الأنثى» البشريَّة التي خلقها الله عليها.
فقد أشار الباحث
«النَّحَّاس» إلى أنَّ ثمَّة مراحل مرَّ بها حديث «ناقصات عقل ودين»، وأنَّ هناك
أصلاً معتمدًا له، وهو قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَان يَخْرُجُ
يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ فَيَبْدَأُ بِالصّلاةِ، فَإِذَا
صَلَّى صَلاتَهُ وَسَلَّمَ قَامَ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ جُلُوسٌ
فِي مُصَلاهُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ،
أَوْ كَانَتْ لَه حَاجَةٌ
بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ
بِهَا وَكَانَ يَقُولُ: تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا،
تَصَدَّقُوا، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاء ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وهو
في صحيح مسلم برقم /1472/، ومسند أحمد برقم: /10637/.
ثم يجري «النَّحَّاس»
مقارنة ومقابلة رائعة في «متن الحديث»، ودراسة تطوِّره من خلال بعض أسانيده، حيث
رأى أنَّ هناك «متنًا» آخر من الحديث ورد فيه أنَّ أكثر من يتصدَّق هو من «النِّساء»،
كما في «سنن ابن ماجه» برقم /1278/ حيث جاء: «يَخْرُجُ
يَوْمَ الْعِيدِ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ
فَيَقِفُ عَلَى رِجْلَيْهِ فَيَسْتَقْبِلُ النَّاسَ وَهُمْ جُلُوسٌ
فَيَقُولُ تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا فَأَكْثَرُ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ
بِالْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ وَ الشَّيْءِ فَـإِنْ كَانـتْ حَاجَةٌ يـُرِيدُ
أَنْ يَبْعَثَ بَعْثًا يَذْكُرُهُ لَهُمْ وَإِلاّ انْصَرَف».
وفي ذلك يقول «النَّحَّاس»:
«وهو ما يتناسب مع طبيعة المرأة وبذلها وعطائها
الكريم، ونجد في صحيح
ابن خزيمة 4/107 زينب امرأة ابن
مسعود تتصدَّق على زوجها وقرابتها».
ثم يؤكِّدُ «النَّحَّاس»
ذلك بقوله: «هذا هو الحديث الأوَّل انتشر ضمن السَّند،
وقد تطابق الإسناد، ولم
تدخل للمتن الشّوائب، فهو حديث
طاهر نقي فاه به الرّسول صلى الله عليه وسلم بقوله: تصدَّقوا، ثلاث مرات؛
ولم يقل: تصدقْن، ثلاث مرات, كما في الحديث الثاني. وذلك بسبب عدالة
وضبط راوييه بعد الصَّحابيّ أبي سعيد الخدريّ، وهما عياض وداود».
ثم
يشير إلى أنَّ هذا الحديث قد رواه مسلم في صحيحه برقم /1472/، والنَّسائي برقم /1558/،
/1561/، وابن ماجه برقم /1278/، وأحمد في مسنده برقم /10954/، و/10889/، و/11084/،
وغيرهم كابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم، والبيهقيّ، وعبد الرزاق في مصنِّفه،
وأبي يعلى في مسنده.
أمَّا الحديث
الثَّاني الذي يريده «النَّحَّاس» فهو ما ورد في «البخاريّ» برقم /293/: «أَخْبَرَنِي زَيْدٌ
هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
–أصلي عليه وأسلم- فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ
عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي
أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ! فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ! مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ
عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ
مِنْ إِحْدَاكُنَّ! قُلْنَ: ومَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ
نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ! قُلْنَ بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ
عَقْلِهَا! أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ! قُلْنَ
بَلَى؟ قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا».
وعقَّب
الباحث «النَّحَّاس» على ذلك بقوله: «ومن الجدير
بالانتباه الضَّعف الواضح في الحفظ فلم يحفظ زيد الزمن فطر أم أضحى أم
كلاهما؟ وربما كانت (أو) مفتعلة, للظُّهور بمظهر الصِّدق! المهم هو التَّصرف
في الحديث الأوّل».
ومن خلال دراسته لأسانيد ومتون هذه
الأحاديث أكَّد «النَّحَّاس» نقاط اتِّفاق واختلاف بينها، أمَّا الاتِّفاق فكان من حيث
السَّند أولاً، حيث يُلاحظ في كلا الحديثين «عياض
بن عبد الله»، وهو الرَّاوي الثَّاني عن «أبي سعيد الخدريّ»، وهو
الرَّاوي الأوَّل، وكذلك من حيث المتن حيث نلاحظ أنَّ المناسبة التي قيل فيها
الحديث هي مناسبة العيد، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي، ثمَّ يخطب
بالنَّاس.
أمَّا
الاختلاف من حيث السَّند في الحديث الأوَّل فنجد أنَّ الرَّاوي هو «داود بن قيس»، وهو راوٍ
ثقة، كما يذكر «النَّحَّاس»، ولم يتعرَّض له أحد بجرح، بينما يرى أنَّ الرَّاوي
الثَّالث في الحديث الثَّاني وهو «زيد بن أسلم» قد ذكره العلماء بـ«التَّدليس».
أمَّا
المتن فيرى الباحث أنَّ النِّداء في الحديث الأوَّل لـ«لرِّجال»، وجاء بلفظ: «تصدَّقوا»، بينما كان
النِّداء في الحديث الثَّاني موجهًا لـ«لنِّساء» خاصَّة بلفظ: «تصدقْنَ». وقد خلا الحديث الأوَّل من جمل وعبارات من مثل: «أنَّهن أكثر أهل النَّار»،
و«أنَّهن يكفرن العشير»، و«أنَّهن ناقصات عقل»، و«أنَّهن ناقصات دين»، ووصفها «النَّحَّاس» بأنَّها «أوصاف هجوميَّة
وشتائم، تبعها تبرير نقص العقل والدِّين للنِّساء بحواريَّة أجروها بين النِّساء
وبين الرَّسول للاستيضاح الذي يتناسب مع الدَّسِّ والإدراج».
أمَّا
زيد بن أسلم» كما يذكر «النَّحَّاس» نفسه فهو
مولى «عمر بن الخطَّاب» رضي الله عنه، وكان يفسِّر «القرآن» برأيه، ويكثر من
ذلك، ولا يشكِّلُ ذلك جرحًا، وإنَّما الجرح أن يخلطه بـ«الإسرائيليَّات»، ممِّا
جعل «الطَّبري» يعتمد على «الإسرائيليَّات» في تفسيره، ولزياد أساتذة كثر ومنهم «عطاء بن يسار»، راوي «الإسرائيليَّات» المعروف
ومروِّجها، وكذلك تلامذة كثر، ومنهم «معمر بن
راشد» أحد الأبناء الوافدين من «اليمن».
ثم
يبيِّن «النَّحَّاس» أنَّ البحث
في هذه الأحاديث تظهر التّشويه والتّغاير بينها وبين الحديث الأمّ الذي ينسجم مع «الفطرة والفكر الإسلاميّ السَّليم، وقد انتشر الحديث
الثًّاني المدرج المشوَّه في كل من الكتب التَّالية: البخاري /293/، و/1369/، و/1815/،
و/2464/، ومسلم /114/، وأبو داود /4059/، وابن حبَّان /13/54/، وسنن البيهقي
الكبرى 1/308، 3/297، 4/178، 4/235».
وفي
ذلك يقول «النَّحَّاس»: «وهكذا نلمس
تهافت الرُّواة وجنوحهم لتداول المعلومة الغريبة، كما نلمس رغبة مروج الأحدوثة
الفاسدة في قيامهم بإذاعتها ونشرها إلى أكبر ساحة ممكنة، كما نلمس
استعداد هؤلاء الرُّواة الذين كنَّا نظنُّهم من الأخيار بإيجاد أسناد أخرى لنفس
النَّص المشوّه، يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق
عبد الله بن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما».
وعلَّل
الباحث سبب اعتماد الفقهاء والمحدِّثين لأحاديث «زيد بن أسلم» بقوله: «لأنَّه راوٍ من رواة الجامع الصَّحيح للبخاريّ المعترف بأنّه
غير منزّه عن
الخطأ. ويعود تنزيه صحيح
البخاريَ إلى عصور التَّراجع العلمي حيث أدخل ابن الصّلاح الشّهرزوري قواعد تخرب
علم
الحديث الذي أسسه الأوائل!
ومنها الإلغاء العملي لتأثير السّند، على المتن!!وهكذا نجد
تطابق الحديثين من حيث الحادثة وتحرّر الحديث الأوّل من فضل الرّجال على النّساء,
بـتـصـدقهنّ تصدقاً أكثر من الرّجال .... ومن ثم جعلهنّ
الحديث الثّاني ناقصات عقل، وذلك عندما تغير الراوي الذي كان داود بن
قيس، في الحديث الأوّل ؛ فصار زيد بن أسلم في الحديث الثّاني».
يظهر من ذلك
أنَّ بعض «الأحاديث» التي وضعها القوم إنَّما أدرجوها بناء على أصل ثابت، لا شبهة
فيه، ولا بطلان، وإنَّما الشُّبهات دخلت من فعل بعض «الرُّواة»، إمَّا لسوء حفظ،
وإمَّا لجهل، وإمَّا لأسباب أخرى قد تكون سياسيَّة كما أشرنا في مواضع أخرى، ولا
نتهيَّب من رفض هذه «الأحاديث»، ولا نبالي بورودها في كتبٍ قد رأى بعض أهل العلم
فيها نزاهةً، أو تقديسًا، فكلُّ كلام قابل للأخذ والردِّ إلا «كلام الله» سبحانه
وتعالى.
وهذه «الأحاديث»
وغيرها جعلتهم يبتعدون في تأويل «القرآن الكريم»، ويجتهدون في إخضاعه لهذه «الشُّبهات»
التي عرضت لها، مما جعلهم يسهبون في الاستدلال بجزء من الآية، وغضِّ الطَّرف عن
جزء آخر منها، يدفعهم إلى ذلك ثبات قدَمٍ لـ«لحديث» في أذهانهم، وقريب منه تفسيرهم
لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً النساء34. فأثبتوا أنَّ «النُّشوز» لا يكون إلا من «المرأة»
في حين أنَّ «القرآن الكريم» نفسه يثبت أنَّه قد يصدر من «الرَّجل» أيضًا في قوله
تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ
جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا}النساء128.
د. محمد عناد
سليمان
2 / 5 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق