بسم الله الرحمن الرحيم
في 01/10/2011 نشرت على النت أول مقالاتي
عن الثورة السورية بعنوان "ما يجري في
سورية: إلى أين؟" وبعد أسبوعين نشرت المقال الثاني بعنوان " ما لنا غيرك
يا الله" ثم جمعتهما في كتيب PDF بعنوان "ثورة لكل السوريين" وعملت على
إيصاله لأكبر عدد من السوريين عبر الفيسبوك ومن خلال مواقع سورية كبيرة تحمست له. في
هذين المقالين نبهت إلى أن ثورتي مصر وتونس نجحتا بسهولة لأن القوى التي تحكم البلدين
من خلال قادة جيوشهما أسرعتا بإسقاط الرئيسين المكروهين لتحولا دون انتشار الثورة في
الجيشين فيشارك فيها صغار ضباط الجيشين مما
يعني إن نجحت الثورة خروج تونس ومصر من قبضة فرنسا والولايات المتحدة. وبينت أن ثورتنا
ليست ثورة دينية سنية ضد الطائفة العلوية، وأن مشكلتنا مع هذه الطائفة ليست دينية،
إنما هو صراع معيشي، وهو صراع مع نظام استأثر بخيرات البلاد، واستخدم العلويين أجناداً
في الجيش والمخابرات، لأنه لا يثق بغيرهم، لا لأنهم طائفة دينية توحدها معتقداتها،
بل لأنهم بالدرجة الأولى عشائر وأهل منطقة واحدة تجعلهم يدافعون عن نظام انتشلهم من
الفقر المدقع إلى الفقر غير المدقع، وحرص على بقائهم قليلي العلم، حتى لا يكون أمام
أكثر شبابهم خير من التطوع في الجيش أو المخابرات.
يومها بيّنت أن طوق النجاة للنظام هو تحوّل الثورة إلى جهادية مسلحة وطائفية، لأنه يستطيع وقتها أن يضمن أن لا تتخلى عنه الطائفة العلوية، بل يصبح دفاعها عنه دفاعاً عن وجودها وبقائها، كما يكسبه حياد بل تأييد الطوائف الأخرى، وقد أكسبه أيضاً كما تبين بعد ذلك تأييد شيعة العالم كلهم. كنت أريدها ثورة لكل السوريين، وطنية، ليس لها صبغة طائفية، ولا حتى دينية، وأريدها سلمية مما يجعل جرائم النظام غير مبررة في نظر الملايين التي تتابع ما يحدث، ويفقده بالتأكيد الكثير من شعبيته، ويسرِّع سقوطه الجزئي على يد ضباط كبار من الطائفة العلوية، وبذلك تنتقل سورية من حال سيئة إلى حال أقل سوءاً، ويكون ذلك خطوة رائعة ونقلة كبيرة نحو بناء دولة تكون لكل السوريين.
وحذرت في المقالين كثيراً من تحول الثورة إلى مسلحة وطائفية لأن ذلك يعني حرباً أهلية طويلة يصبح تقسيم سورية بعد دمارها هو الأمل والمخرج الوحيد، وحذرت أن إسرائيل لديها هدف استراتيجي واحد هو تقسيم بلاد الشام والعراق إلى دويلات طائفية متناحرة مما يجعل الدولة اليهودية قطعة غير متنافرة بين بقية قطع اللوحة الفسيفسائية التي ستتكون من الدويلات الطائفية. أما الولايات المتحدة فهي دائماً مسخرة لتلبية رغبات إسرائيل وبالتالي هي تابعة لها في الحرص على تقسيم المنطقة وبينت أن مصلحة الأمة هي في بقاء الثورة وطنية وسلمية.
يومها بيّنت أن طوق النجاة للنظام هو تحوّل الثورة إلى جهادية مسلحة وطائفية، لأنه يستطيع وقتها أن يضمن أن لا تتخلى عنه الطائفة العلوية، بل يصبح دفاعها عنه دفاعاً عن وجودها وبقائها، كما يكسبه حياد بل تأييد الطوائف الأخرى، وقد أكسبه أيضاً كما تبين بعد ذلك تأييد شيعة العالم كلهم. كنت أريدها ثورة لكل السوريين، وطنية، ليس لها صبغة طائفية، ولا حتى دينية، وأريدها سلمية مما يجعل جرائم النظام غير مبررة في نظر الملايين التي تتابع ما يحدث، ويفقده بالتأكيد الكثير من شعبيته، ويسرِّع سقوطه الجزئي على يد ضباط كبار من الطائفة العلوية، وبذلك تنتقل سورية من حال سيئة إلى حال أقل سوءاً، ويكون ذلك خطوة رائعة ونقلة كبيرة نحو بناء دولة تكون لكل السوريين.
وحذرت في المقالين كثيراً من تحول الثورة إلى مسلحة وطائفية لأن ذلك يعني حرباً أهلية طويلة يصبح تقسيم سورية بعد دمارها هو الأمل والمخرج الوحيد، وحذرت أن إسرائيل لديها هدف استراتيجي واحد هو تقسيم بلاد الشام والعراق إلى دويلات طائفية متناحرة مما يجعل الدولة اليهودية قطعة غير متنافرة بين بقية قطع اللوحة الفسيفسائية التي ستتكون من الدويلات الطائفية. أما الولايات المتحدة فهي دائماً مسخرة لتلبية رغبات إسرائيل وبالتالي هي تابعة لها في الحرص على تقسيم المنطقة وبينت أن مصلحة الأمة هي في بقاء الثورة وطنية وسلمية.
للأسف قامت قوى اقليمية ودولية باستغلال
السوريين وثورتهم من أجل التصدي للخطر الإيراني ونفوذ إيران الممتد على شكل هلال شيعي
من إيران إلى العراق فسورية فلبنان، وحرصت هذه القوى السنية ومعها الولايات المتحدة
على تسليح الثورة، وعلى إثارة الحميّة الطائفية لاستنفار السوريين السنّة كلهم إن أمكن،
مما يعني ضربة قوية لإيران ونفوذها في المنطقة. وقد ساعد ذلك في تحقيق هدف النظام الاستراتيجي
وهو تحول الثورة إلى مسلحة وجهادية وطائفية، مما أعطاه الأمل في البقاء، وربما في سحق
الثورة. لا لوم على القوى السنية في المنطقة التي اغتنمت الثورة السورية لتحجم النفوذ
الإيراني ولتبعد خطره عنها، ولا لوم على السوريين الذي تحملوا القتل لكن لم يتحملوا
المذلة وبخاصة الاغتصاب المنظم لنسائهم، فحملوا السلاح للدفاع، ثم انزلقوا إلى المبادرة
والهجوم، وبذلك فقدت الثورة سلميتها بالكامل. نجحت الثورة المسلحة في السيطرة على نصف
سورية الشرقي وكله سني تقريباً، وتم فيه القضاء على النظام والقضاء معه على الدولة
والبنية التحتية كلها تقريباً، وكان الأمل كبيراً أن سقوط النظام سيكون خلال أسابيع
قليلة. وفي 22/10/2012 نشرت مقالي السادس عن الثورة بعنوان "ثورة سلمية محمية"،
وفيه دعوت إلى قطف ثمار الانتصار والرضى بالقليل المضمون، ونبهت إلى أن سقوط النظام
كلياً ليس في مصلحة إسرائيل ولا أمريكا، لأن بديلاً مضمون الولاء لهما غير متوفر، ولأن
سقوطه يعني بقاء سورية موحدة، وإسرائيل لا تريد لها أن تعود موحدة أبداً، ونبهت إلى
أنهم سيتحكمون بالثورة بحيث تدوم دون أن تنتصر، مما يهيء لتقسيم الأراضي المحررة ربما
لدويلات أربعة. وفيه قلت إنه سيأتي يوم تتوقف
فيه الانتصارات ويصبح الحفاظ على ما في أيدينا هو النصر الوحيد وثمنه استنزاف الثورة،
وقتل ودمار يوميان، لا نعرف متى ينتهيان. أصدقائي الذين قرؤوا ماكتبت استغربوه واعتبروه
ضعفاً وانهزاماً لا مبرر له، فقلت لهم: "أدعو الله من كل قلبي أن أكون غلطاناً
وأن لا تصدق توقعاتي".. لكنها للأسف صدقت.
منذ تلك الفترة والثورة والنظام في
كرٍّ وفرٍّ ولا يستطيع أي منهما أن يحسم الحرب
لصالحه.. ثم ذات ليلة ارتكب النظام غلطته الكبرى عندما استعمل الكيماوي على نطاق واسع
جداً لم يستطع إخفاءه، وهددت الولايات المتحدة بضرب البنية التحتية العسكرية للمناطق
المتبقية مع النظام، مما يجعله ضعيفاً أمام الثوار، ويعرضه بشدة لخطر السقوط. سقوط
النظام وتحول سورية كلها إلى دولة سنية تقف في وجه النفوذ والتمدد الإيراني خسارة كبرى
لإيران بكل معنى الكلمة، لذا سارعت إيران إلى افتداء النظام بتخليها مؤقتاً عن حلمها
النووي العسكري، وسلم النظام سلاحه الكيماوي، وهما مطلبان استراتيجيان لإسرائل، حصلت
عليهما دون أن تطلق هي أو الولايات المتحدة طلقة واحدة، وعندي حدس لا دليل لدي عليه
حتى الآن أن الصفقة شملت التنازل غير المعلن عن الجولان..
اختلف الموقف بعدها وشعر النظام بالانتصار
وبالأمان من جهة المعسكر الغربي وإسرائيل، فازداد شراسة، وانتزع من الثوار أراض حساسة
بالتأكيد كانت ضمن الصفقة، لأن القوى الداعمة للثورة المسلحة امتنعت عن تقديم الدعم
للثوار في تلك المناطق كما حدث في القصير، حتى تمكن النظام من استرجاعها. ومن يومها
صار رفض الغرب لتسليح الثوار بأسلحة فتاكة تحسم المعركة أو على الأقل تحيّد سلاح الطيران
السوري معلناً يصرحون به كل يوم، ومع ذلك استمر الوهم لدى الثوار المسلحين بحتمية الانتصار
وتحرير باقي سورية، ودخلت المعارضة السياسية، أي الائتلاف وغيره، في وهم آخر، وهو أن
النظام سيقبل بحكومة انتقالية وبانتقال تدريجي وسلمي للسلطة من النظام إلى قوى سورية
وطنية منتخبة.. سيطر هذا الوهم مع أنه كان واضحاً ومازال أن النظام ليس مضطراً للقبول
بذلك. لم يكن النظام يستشعر القدرة على الاستخفاف بمطالب المعارضة السياسية فحسب بل
سيطر عليه ومايزال الغرور والوهم أنه سيسحق الثورة وسيستعيد كل المناطق المحررة.
الحرب مستمرة والأوهام مسيطرة على
الأطراف كلها، الثورة المسلحة والمعارضة السياسية، والنظام، بينما يسقط كل يوم أعداد
كبيرة بين قتيل وجريح ومشرد، وتطول حياة السوريين المُذلّة في المخيمات في دول الجوار،
وتطول معاناة ملايين النازحين داخل سورية هرباً من براميل النظام المتفجرة، ثم ظهرت
داعش لتضيف لمعاناة السوريين ما لم يكونوا يتوقعونه، ولتجعل الكثيرين منهم يجدون البقاء
تحت حكم النظام أقل سوءاً من أن يحكمهم جهاديون، يقلدون الماضي الإسلامي تقليداً كاريكاتورياً،
فينفرون الناس من الشريعة، ويخدمون النظام خدمة ربما لم يكن يحلم بها. الفصائل في الداخل
متناحرة والمعارضة في الخارج تحت ضغوط دولية لترضى بالجلوس مع النظام على مائدة المفاوضات
مهما كانت هذه المفاوضات عبثية وغير مجدية، وملايين السوريين يعانون وينتظرون الفرج.
ومن جنيف واحد إلى جنيف اثنين، وجنيف ثلاثة على الطريق، ولا نهاية للقتل والدمار والموت
جوعاً ومن فقد الدواء، وسيطرت الفوضى في المناطق المحررة، والجريمة المنظمة في مناطق
النظام، وكلنا أمل أن نوقف الانتخابات الرئاسية التي سيفوز فيها الأسد حتى لو لم تزوّر
نتائجها، والأمل أن يخضع النظام للمطالب، وتُشَكّل حكومة انتقالية لتنتقل السلطة في
سورية كلها إلى حكومة وطنية منتخبة.
القوى المعادية لإيران لن تسمح باستعادة
النظام للنصف الشرقي السنّي من سورية، ولن يتخلوا عن الانتصار الجزئي الذي حققوه على
إيران بانتزاعهم مناطق منها تقوم فيها دولة سنية تقسم الهلال الشيعي وتنهي تواصله الجغرافي،
وتكون دولة موالية للقوى السنّية في المنطقة، تركيا وغيرها، وصديقة للولايات المتحدة،
وبعد ذلك متصالحة مع إسرائيل. هذا هدف استراتيجي لهم، ولن يتخلوا عنه بعد أن حصلوا
عليه، وبالمقابل لن تسمح إيران والقوى الشيعية ومن ورائهما الشرق والغرب أن يسقط النظام
الذي بالتأكيد بعد هزيمته سيتحول من نظام ممانع إلى نظام مطاوع، بحكم ضعفه واحتياجه
لمهادنة إسرائيل والقوى الغربية، من أجل البقاء ولو على نصف سورية. أنا متأكد أن النظام
بغروره الأحمق وبنزعته القومية التي تفوقت عليها الآن نزعة شيعية مستجدة لا يغذيها
الإيمان الديني بل المصالح السياسية، سيحارب بشراسة من أجل استعادة المناطق المحررة
أو على الأقل تدميرها. إنني لا أرى مخرجاً للسوريين على جانبي الصراع إلى أن نتخلص
من الأوهام ونهبط إلى أرض الواقع، فندرك أنه لا أمل للثورة في حسم المعركة واسقاط النظام،
وأنه من البلاهة الاعتقاد أن النظام سيستجيب للضغوط الكلامية التي يطلقها الغرب، فيرضى
بتسليم السلطة لحكومة انتقالية ذات سلطة فعلية، ومن جهة أخرى أن يفهم النظام أنه لن
يستعيد سورية موحدة تحت سلطته أبداً، بل ستبقى المناطق المحررة خارج سلطته، وستبقى
المعارك كرّاً وفرّاً، وعملياً سيبقى الطرفان يراوحان كل في مكانه، والخاسر الوحيد
هو ملايين السوريين الذين سيعانون أقسى أنواع المعاناة لكن دون نتيجة وبلا ثمرة. لو
كان استمرار المعارك سنة أو سنتين أخريين سيؤدي في نهايته إلى سقوط النظام لرضينا أن
تستمر التضحيات والمعاناة، لكن مع فهمنا للواقع وعلمنا أن "الكَثْرة تغلب الشجاعة"،
ومع اعترافنا أننا لم نبلغ المستوى الذي ينصرنا فيه الله رغم ضعفنا، فإن الحكمة والمصلحة
تقتضيان إعلان المناطق المحررة دولة مستقلة، تنال الاعتراف الأممي والحق في أن يحميها
المجتمع الدولي من النظام واعتداءته اليومية، وربما بإرسال قوات مراقبة أو فصل دولية،
تساهم في منع استمرار النظام في إمطار المناطق المحررة بالبراميل المتفجرة، وبما تبقى
لديه من أسلحة كيماوية، كما عندها ستزود أمريكا هذه الدولة بما يُسقط طائرات النظام،
لأن إعلان الدولة يعني أنها ستبقى ضمن حدودها دون أن تسعى إلى التمدد على حساب النظام
وتعريضه لخطر السقوط. وتبدأ هذه الدولة الجديدة عملية بناء البنية التحتية التي دُمّرت
كلها، سواء على مستوى الأشياء التي تقوم على الأرض، أو على مستوى المؤسسات الحكومية
التي فقدت نهائياً.. كما يمكن لهذه الدولة أن تنتزع وتبطل أية شرعية تدعيها داعش وغيرها
ممن يفرضون أنفسهم ولاة وقَيّمين على الشعب السوري في المناطق المحررة، ويمكنها أن
تطرد داعش ومن والاها خارج أرضها، ليعود الحد الأدنى من الأمان للسوريين. ومن ناحية
أخرى فإن التفاوض مع النظام ونحن دولة معترف بها وذات مؤسسات على الأرض خير ألف مرة
من التفاوض معه كمعارضة يعترف بها أو لا يعترف وتمثل الداخل أولا تمثله.. إنه حتى الآن
تعتبر الأمم المتحدة الأراضي المحررة تحت سيادة الدولة السورية التي يحكمها النظام
ولا تدخل المعونات الإنسانية إليها إلا إن أذن النظام لها ، بينما لو كنا دولة لتوقفوا
عن انتظار موافقة النظام على دخول المساعدات. إن الوضع القانوني لدولة معلنة ومعترف
بها لا يقارن بوضع معارضة مفرقة لا يأتمر فيها المقاتل بأمر السياسي، وليس السياسي
موضع ثقة المقاتل، ولا خطة موحدة لعمل الفريقين.
ستقولون هذا تنازل ورضىً بالتقسيم
الذي هو خط أحمر بالنسبة لجميع السوريين، وستستنكرون دعوتي هذه ومنكم من سيتهمني بالخيانة،
ولذلك بدأت بالمقدمة الطويلة عما سبقت فيه الجميع، من دق ناقوس الخطر، والتحذير من
أن يأتي يوم يصبح التقسيم مطلباً لنا، والمحزن أن هذا اليوم قد جاء..
سورية مقسمة الآن، ولكنه تقسيم غير
معلن، وغير معترف به، وكثيرون يظنون أنه مادام غير معلنٍ وغير معترفٍ به، فإنه غير
قائم ولا موجود. هذا الإنكار هو من وسائل النفس البشرية عندما تواجه ما يفوق احتمالها
من المصائب، لكنه مجرد تخدير للمشاعر ودفن للرؤوس في الرمال، ولن يغني عنا شيئاً، ولن
يساعد على عودة سورية موحدة تحت سلطة الثورة أو تحت سلطة النظام. إن المكابرة وإنكار
الواقع لن تأتيان إلا بالمزيد من القتل والدمار والتشرد وتعطُّل حياة ملايين السوريين،
وسيؤدي استمرار الاحتراب ليس إلى ترسيخ انفصال المناطق المحررة فحسب، بل وهذا ما أخشاه
كثيراً، إلى تفتيت هذه المناطق وقيام دويلات عديدة فيها. إن الواقعية يمكن أن تحول
دون بلوغنا هذه المرحلة، وستحافظ على المحرّر من سورية دولة واحدة، يمكنها أن تتحد
مع سورية المتبقية في قبضة النظام، وذلك حين تتغلب أمتنا على جهلها، وتصبح وحدة العرب
عموماً حتمية، وبالأولى وحدة السوريين. التقسيم الذي وصلنا إليه مطلب إسرائيلي، وبالتالي
هو ما تريده أمريكا وغيرها من القوى الكبرى، ولا أمل في عودة عقارب الساعة إلى الوراء.
لقد وقعت المصيبة، والحكمة هي في إيقافها عند الحد الذي بلغته، والحيلولة دون تحولها
إلى مصيبة أكبر بكثير. المقاتلون يريدون استمرار القتال لأنهم يريدون إحدى الحسنيين،
إما النصر وإما الشهادة، وحتى لو بدا النصر بعيداً جداً فإن الشهادة صارت لهم غاية
بحد ذاتها، وهم بذلك يفرضون على ملايين السوريين استمرار المعاناة التي لا طائل من
ورائها. ملايين السوريين هؤلاء لا يريدون الوصول إلى الجنة من طريق الموت والاستشهاد،
والصالحون منهم يسعون إلى الجنة لكن بطرقها الأخرى، وليس من حق القلة المقاتلة أن تفرض
رؤيتها عليهم، ما دمنا نسعى إلى الديمقراطية، وإلى أن تقرر الأمة مصيرها بنفسها، لا
أن يتحكم بها من يفرض نفسه عليها ولياً لأمرها، كما لو كانت أمة من الأطفال الذين لم
يبلغوا رشدهم وقد يقررون ما يضرهم ولا ينفعهم. وعلينا أن ندرك الخطر العظيم لاستمرار
الاحتراب والنزوح والتشرد وتعطل فعاليات الحياة والفقر والجوع على أخلاق الملايين وقيمهم.
اسألوا علماء الاجتماع وسيخبرونكم كيف تتبدل القيم بسرعة عند الأزمات الطويلة والطاحنة.
لابد من التوقف حيث نحن لنحمي أخلاق الملايين من السوريين، ونحمي إيمانهم بقيمهم الأصيلة،
وإلا سيكون الفساد وانكسار الحواجز الأخلاقية، وسيكون معه ما ينتج عنه، مما يجعل الخسارة
والمصيبة مضاعفة.
ولكن هل ستوافق القوى الدولية والاقليمية
على تكريس التقسيم القائم الآن، وهل سيوافق النظام على ذلك، وهل ستقوم في المناطق المحررة
دولة قادرة على البقاء؟ أسئلة سمعتها من بعض الأحرار الذين ناقشت معهم رؤيتي هذه للخروج
من الأزمة. أولاً لا تقلقوا فالقوى السنية في المنطقة ستدعم قيام هذه الدولة لأنها
ستقسم الهلال الشيعي، وإسرائيل والغرب سيدعمان قيامها، لأن ترسيخ التقسيم مطلب ومصلحة
كبرى لإسرائيل، وبخاصة بعد الربيع العربي، الذي أعلن عن استيقاظ الأمة من سباتها ومن
عطالتها.. ثم إن الباقي تحت النظام من سورية، سيكون دولة طوائف، كما هو لبنان دولة
طوائف، لأن عدداً كبيراً من السنة السوريين سيخرجون من الحسبة، وسينخفض نسبة السنة
وترتفع نسب الطوائف الأخرى بعد أن ينسلخ الجزء المحرر بسكانه الذين هم في غالبهم سنة،
وستبقى الطوائف الأخرى كلها بما فيها الباقون من السنة في سورية الباقية بيد النظام،
وهذا يُشْعر الطوائف بالأمان، وبخاصة بعد مسلسل الترهيب الذي نجح النظام فيه، وأعانته
عليه داعش ومن والاها من القوى الجهادية التكفيرية، وسيبدو الأمر وكأنه انجاز للقوى
الدولية، إذ هي ضمنت بذلك أن لا يتعرض غير السنة في سورية للاضطهاد، وألا يُصنَّف المسيحيون
السوريون كذميين يؤدون الجزية ولا يتمتعون بالمواطنة الكاملة. الشيء الوحيد الذي يجب
أن تحرص عليه الدولة الناشئة هو أن يكون لها منفذ على البحر، وعليها بذل ما تستطيع
للحصول عليه، ولن تمانع القوى العظمى في ذلك، لأن ذلك لا يعني سقوط الساحل كله بيد
المعارضة ولا سقوط النظام. أما الذين يخافون أن يكون ذلك مقدمة لقيام الدويلة العلوية
فعليهم أن يعلموا أن دمشق أكثر أهمية لهم وهم أحرص على البقاء فيها من القرداحة ذاتها،
لقد عمروا وتاجروا وتعودوا على الحياة في دمشق، بينما مناطقهم مهملة مثل كل سورية،
وليس لهم فيها آفاق العيش التي في دمشق.. كما لن تسمح لهم إيران أن ينكفئوا إلى دويلة
علوية لتقوم في دمشق دويلة لا تكون موالية لإيران. لا داعي لأن يقيم العلويون دويلتهم
طالما أن ما تبقى من سورية مع النظام سيكون بمثابة دولة علوية موسعة، وهذا من جهة أخرى
سيساعد على بقاء العلويين الذين يدافعون عن النظام لأنه قومي عروبي وحدوي وممانع مخدوعين،
لأن دولة تضم الطوائف السورية كلها مقابل، دولة سنية انفصلت وقامت بدعم من قوى خارجية
غير سورية، ستكون أكبر برهان على صدق النظام في كل ما ادعاه من أكاذيب استخفت بالعقول.
في لقاء جمعني مع الشيخ أسامة الرفاعي
في بيت ابنته في جدة قبل ثلاثة أسابيع سألته عن رؤيته، فوجدته متفائلاً بانتصار الثورة
المسلحة إن هم أطاعوه وتوحدوا صفاً واحداً تحت قيادة موحدة. سألته إن كان لديه أمل
حقيقي، وهو المتفرغ لمحاولة توحيد الفصائل المقاتلة، فأجابني أن هنالك عائقاً كبيراً
أمام ذلك، وهو النفوس وما فيها من أهواء مستحكمة، فأضفت أنا أن الكثير من الفصائل معتمدة
مالياً، وبالتالي في طعامها وسلاحها ودوائها على قوىً خارجية، ومن هذه القوى من لا
يريد للفصائل أن تتوحد، وهذا يجعل التوحيد الذي يتمناه الشيخ أسامة أقرب إلى المستحيل.
بعدها أخبرته بمخاوفي من أن تستمر الحرب عشرات السنين دون حسم، وبإيماني أن الأوان
قد آن لنوقف الصراع، ونتجه نحو البناء، والعودة إلى الحياة الطبيعية، ولو كان ذلك يعني
إعلان تقسيم سورية إلى دولتين، وهو تقسيم قائم على الأرض، ولا ينكره إلا مكابر أو حالم. فأجابني أن هذه الرؤية قد تكون موجودة عند السياسيين
في المعارضة السورية، لكن لن يجرؤ أي منهم على البوح بها، لأن ذلك سيعني احتراق ورقته،
وسقوطه سياسياً، وتصنيفه على أنه خائن وعميل. شيخنا حفظه الله على صواب في ذلك، لذا،
وبما أنني لست سياسياً على الإطلاق، ولا أحلم أبداً أن أقوم بدور سياسي مهما صغر، بل
سأبقى إن شاء الله في مهنتي طبيباً نفسياً ومفكراً إسلامياً، فإنني استخرت الله سبع
مرات على كسر هذا الحاجز، كما أفعل عادة عند كل أمر هام في حياتي، فانشرح صدري لأكون
أول من يعلن هذا التصور لحل أزمة السوريين وحقن دمائهم وحفظ ما تبقى من بيوتهم وأموالهم.
إن مقالاتي عن الثورة السورية ما تزال كما هي يوم نشرتها بالاسم المستعار "الدكتور
محمد ناصح عبد الله" موجودة على النت، وقد جمعتها في كتاب أسميته "مقالاتي:
بصائر سياسية إسلامية للثورة السورية".. لم أغير شيئاً في المقالات الأولى، اللهم
إلا أنني حذفت عبارات قليلة كنت أعتبر فيها الدفاع عن النفس خروجاً محرماً، لكن الله
أنار بصيرتي ووصلت لما أرانيه صواباً وضمنته في كتابي "الميزان: تجديد نظرية الإسلام
السياسية" أي جواز الدفاع عن النفس في وجه أي معتدٍ..
أي باختصار، من أراد أن يخوّنني ويحمّلني
مسؤولية التقسيم، فإن رصيدي الذي سبقت به الجميع، يدحض أية اتهامات، ويرد على أية ادعاءات.
ليس مقالي هذا تعبيراً عن حماستي لتقسيم
سورية لأنني لست متحمساً لذلك على الإطلاق، لكنني واقعي، وأعترف بالواقع القائم على
الأرض، وأدعو إلى استراتيجية جديدة لا مكان فيها للتنازلات، إنما هدفها الحفاظ على
المكتسبات، والحفاظ على طاقاتنا أن تذهب هدراً، حتى لو كانت استشهاداً، لأن الشهادة
في سبيل الله ليست هدفاً بحد ذاتها، إنما هي إحدى الحسنيين عندما لا ننتصر وقد بذلنا
جهدنا ولا ننجو سالمين، أي نقدم ولا ندبر إلا متحرفين لقتال أومتحيزين لفئة، أما إن
أمكننا أن لا نموت وأن ننسحب متحيزين لفئة المستقبل، فإننا نغيظ أعداءنا أكثر بكثير
مما لو قُتلنا ونلنا الشهادة.. إن الحرص على الشهادة كيفما كان، أي بتوريط أنفسنا وأمتنا
في معارك لا أمل في الفوز فيها، إنما هو انتحار يفرح به عدونا، ولا يُضيره أن يكون
قتلانا شهداء وأحياء عند ربهم يرزقون، طالما أنهم انزاحوا من طريقه وأخلوا له الجو.
فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها
العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: "أيها الناس لا تَمَنّوا لقاء
العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف،
ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم".
أليس صاحب هذا الكلام هو من يبين لنا ما أنزل إلينا ويعلمنا الفهم الصحيح لرسالة ربنا
إلينا؟
إنني لا أدعو في هذا المقال للاستسلام للنظام ورفع
الراية البيضاء مقابل أن يقف القتل والتدمير، بل لابد من استمرار القتال لتحقيق المزيد
من المكتسبات التي نفاوض النظام عليها عندما نفاوضه دولة لدولة، وإنه حتى مجرد الحفاظ
على ما بيأيدينا والإسراع في تأسيس دولتنا عليه هو ترسيخ للنصر الجزئي الذي حققته الثورة
المسلحة.
مقالي هذا ليس لتوهين العزائم وبث
اليأس وإضعاف المعنويات، لكنه دعوة إلى معنويات مرتفعة قائمة على إدراك الواقع وليس
على الأحلام والأمنيات. ومثلما يحتاج السوريون إلى ما يرفع معنوياتهم فإنهم أحوج إلى
تقييم الواقع وإدراكه إدراكاً سليماً كما هو على الأرض لا كما يتمنونه.
نحن في حاجة ماسة إلى استراتيجية واقعية
مؤسسة على الحقائق لا على الأمنيات، وإلا لن تنتصر ثورتنا ولن تحقق شيئاً. صحيح أننا
بالواقعية سنحصل على أقل بكثير مما قاتلنا من أجله، لكننا إن ربحنا القليل وحقنّا دماءنا
لهو خير ألف مرة من الموت دون طائل، ومن استمرار القتل والتدمير والجوع والتشرد والنزوح،
بينما الأمل بالحسم ضئيل. ليس علاج الموقف بنفخ الأمل والحماسة في نفوسنا كي نستمر
في القتال، بل بتبين الحقائق وبعث الأمل في نفوسنا بما يتناسب مع حقائق الواقع. إن
التحميس مطلوب ولو بضرب الطبول عندما يكون القرار بدخول المعركة قرارنا نحن وبناء على
مصالحنا التي نرجو تحقيقها، أما تحميس الناس على الدخول في المعركة بغض النظر عن نتائجها
المتوقعة فإنه نوع من قيادة الأمة كما يقاد القطيع إلى مرعاه وربما إلى مذبحه. علينا
الحذر من أن نبني استراتيجيتنا وفق موضوعات إنشاء حماسية، فيها تطويع لنصوص الإسلام
وتاريخه وتاريخ الأمم الأخرى، لنقنع أنفسنا أنه لا سبيل أمامنا ولا خيار لنا إلا الاستمرار
فيما نحن عليه الآن. نحن أصحاب القضية ويجب أن نتحكم بما يجري كي نوجهه لصالحنا. صحيح
أننا قد لا نكسب شيئاً جديداً لكن الحيلولة دون الخسارة هي ربح مؤكد.
بعضنا يقول إنه لا أمل في قيام الدولة
الجديدة لأنه ليست هنالك قيادة موحدة وليست هنالك إرادة دولية لقيامها ويؤكدون أن قيام
دولة سنية خط أحمر للقوى الدولية لن تسمح به، وأن غايتهم الأولى والأخيرة هي استمرار
النزاع المسلح مما يعني المزيد من الدمار ومن إضعاف بلادنا، لأن قيام الدولة الجديدة
سيضع حداً للاقتتال الذي لا طائل وراءه.
الذي يحرص على استمرار القتل والتدمير
هي إسرائيل فقط، أما القوى الدولية فإنها لا يهمها كم يُقتل منا وكم يدمر من منازلنا
لكنها لن تقف في وجه إعلان الدولة الجديدة. يستطيع سياسيو المعارضة أن يجسوا نبض المجتمع
الدولي، هذا إن لم يكن واضحاً لهم حتى الآن أن إبقاء الأراضي المحررة خارج نفوذ إيران
هدف للمجتمع الدولي، ولن يكون ذلك ما لم تتحول هذه المناطق إلى دولة.
لا أدعو إلى إعلان دولة كما أعلنت
داعش دولتها الإسلامية، فداعش فئة قليلة العلم الشرعي وقليلة الفهم للعصر الذي نعيش
فيه وهي جزء من القاعدة الملاحقة من الجميع، سيكون الأمر مختلفاً إن أنشأنا دولة مدنية
في الأرض المحررة، وسيدعمنا كثيرون. إن سورية تختلف عن الصومال، ومع ذلك هنالك دولة
في شمال الصومال اسمها جمهورية أرض الصومال قامت منذ أطيح بسياد بري وحكمه العسكري
عام 1991، فنجت من الحرب الأهلية التي دمرت كل شيء في باقي الصومال ونَعِم الناس فيها
بالأمان وبأساسيات الحياة، فلا يمكن مقارنة الحياة فيها بحياة الصوماليين في مقديشو
وما حولها.. ولم يقف في وجه قيام دولة شمال الصومال أحد.
إن انتظرنا حتى تتكون قيادة موحدة
للمعارضة السياسية وللمعارضة المسلحة، أو حتى تأتي الفكرة من المجتمع الدولي، سواء
كان ذلك لإنقاذ النظام إن بدا أنه سيسقط، أو لم يكن، فسيطول انتظارنا، ويشتد بلاؤنا،
وفي الغالب لن نحقق أي مزيد ذا قيمة. إنه حتى الدول القائمة ليس لها قيادة موحدة، بل
صناديق الاقتراع تخرج قيادة جديدة كل حين. والذي عنده أمل أن يأتي يوم تتوحد فيه جميع
الفصائل المسلحة تحت قيادة واحدة فإنه واهم، ويعيش في عالم الأمنيات لا في الواقع المحزن
الذي نحن فيه، ألم يقل ربنا: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"؟ وهل تغير ما بأنفسنا من أفكار ومشاعر التغير
اللازم والكافي لتحقيق النصر الحاسم؟
لا يمكن تبرير استمرار القتال مع أن
احتمال الحسم ضئيل جداً بأن أمتنا متعودة على المعاناة تحت الاستعمار من أجيال عديدة،
بل أمتنا كأي أمة أخرى تنشد الأمان والرفاهية والعزة والكرامة ولا تفرح بكثرة الشهداء.
سورية ليست فييتنام حتى تصمد على حساب
الملايين من أبنائها لتضطر أمريكا في النهاية أن تتركها بحالها. فالحرب في سورية ليست
حرب تحرير بكل معنى الكلمة، بل هي حرب تحرير مجازاً، لأنها حرب ضد سوريين آخرين، وإن
هم استعانوا بالغرباء الإيرانيين وغيرهم، هي حرب ضد نظام ظالم ومستبد، لكنه مكون من
سوريين وليس من أجانب، لذا لا يصح أن نقيس حالة سورية على حالة فييتنام أو أفغانستان
أيام الاحتلال الروسي لها. وحتى لو كانت سورية مستعمرة من عدو خارجي، وقد حررنا نصفها،
فما الغلط في إنشاء دولتنا عليه لنتمكن من الإعداد لتحرير الباقي بشكل أفضل؟ وهل يعقل
أن نترك ما حررناه بلا دولة ليصبح مسرحاً للفوضى ومرتعاً لداعش وأمثالها ولتبقى حياة
الناس فيه بدائية؟
ليس إنشاء دولة في القسم المحرر إقراراً
بالهزيمة ورضىً بالذل والمهانة بعد أن ثار الناس وضحوا بأنفسهم من أجل الكرامة، بل
هو تجسيد للانتصار في بنيان ملموس يحمي نفسه ولا يترك للنظام أملاً في استعادته. ولا
داعِ للخشية أنه إن توقفت الثورة عند ما وصلت إليه وحققته حتى الآن، فقد لا تقوم ثورة
أخرى تحرر ما تبقى من سورية من الظلم والاستبداد، إن الثورة الحقيقية هي الانفجار بعد
تحمل الضغط الشديد المستمر، وإلا فلن تكون نابعة من الناس، إنما ستكون مفروضة عليهم،
وهم لم يتغيروا إلى حد التمرد على الترهيب والتهميش والإذلال.
وليس إنشاء دولة في القسم المحرر خيانة
وتخلٍّ عن القسم غير المحرر، لأنه لو أراد أن يتحرر فعليه أن يثور بنفسه، وواضح انه
رغم الكره الشديد للنظام عند أغلب من في هذا القسم، ومن جميع الطوائف، إلا أنه لا أحد
منهم يتمنى أن تتحرر بلدته بعد أن تُدَمّر ويهجرها سكانها. هذه الملايين التي في القسم
غير المحرر لها الحق أن تقول كلمتها، وأن تختار لنفسها، حتى لو كان خيارها هو البقاء
رازحة تحت الظلم والاستبداد. أليست ثورتنا ثورة حرية؟
ليس إقامة دولة في القسم المحرر تنازلاً
عن كرامتنا ودماء شهدائنا، بل هو بمثابة إعلان انتصار مع أنه لم يكن هدفاً لأحد من
السوريين الذي ثاروا يريدون الكرامة والحرية، إنه انتصار على النظام لكنه انتصار غير
كامل، وسيبقى لدى النظام أمل وسيستمر في المحاولة ليعيد القسم المحرر إلى سيطرته ونفوذه
إلا إن قامت فيه دولة مستقلة وذات سيادة ومعترف بها، ووقتها لا تكون اعتداءاته محاولات
مشروعة لإعادة أجزاء من البلاد تمردت على حكومتها بل ستصبح عدواناً على أمة أخرى.
من يكره أن يرى سورية دولتين، عليه
أن يذكر أن ذلك أفضل مئة مرة من أن يرى القسم المحرر أربع دول أو أكثر. إن الاعتراف
بالتقسيم القائم والموجود بالأصل، يحمي سورية، وخاصة القسم المحرر منها من التفتيت.
ومن يرى التقسيم مطلباً للنظام وللمجتمع الدولي لذلك علينا أن لا نقدمه لهم على طبق
من ذهب، فعليه أن يذكر أن هذا السبب لا يستحق أن يقتل كل يوم المزيد ويصاب ويهجر الكثير
ونحن ننتظر حتى يعلن النظام أو المجتمع الدولي رغبتهم في إعلان التقسيم. في بداية تحوّل
الثورة إلى مسلحة قال الكثيرون إن النظام يحمل مسؤولية ما سينتج عن ذلك من خراب وقتل
وتدخل أجنبي. نعم هو المسؤول، لكن هل يقدم ذلك أو يؤخر؟، وإن كانت مصلحتنا في إعلان
دولتنا، أي جعل التقسيم قانونياً، فهل نضحي بمصلحتنا حتى لا يتمكن النظام من تحميلنا
مسؤولية تقسيم سورية؟ هذه اعتبارات لا قيمة لها أمام المنفعة المرجوة من إقامة الدولة.
والحمد لله رب العالمين
محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في
مستشفى الصحة النفسية بنجران،
المملكة العربية السعودية
نجران الثلاثاء 27/05/2014 ميلادي
الموافق 28/07/1435 هجري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق