الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-05-17

حرية الترهيب! – بقلم: فادي شامية

ليست حريةً أن تُرهبَ الناس أو تعرض حياتهم للخطر، وليست صحافة أن تنشرَ أسماءً سرية لشهود في قضية قد تجعلهم يدفعون حياتهم ثمنها. لكل حرية ضوابط، وإلا لصار الذي يضر بالآخرين حراً فيما يفعل، ومن باب أولى يصبح الذي يضر بنفسه حراً فيما يقوم به، لكن القوانين جرمت ذلك، فعاقبت الذي يتعدى على حقوق الآخرين وسمته مجرماً، بل عاقبت الذي يقوم بأعمال من شأنها الإضرار بالنفس وألزمته بصيانة نفسه.

في أكثر الدول التي يدعمها دعاة الحرية المزيفون لا حرية أبداً؛ ليس للصحافة، فهذه لا وجود فعلياً لها من الأساس، وإنما لا حرية لشيء يخالف النظام الحاكم. لا بأس رُب قائل نحن في لبنان بلد الحريات، وهو يسير على خطى الغرب في تقديس حرية الإعلام... فهل تقبل الأنظمة – بل المجتمعات الغربية- أن يتحول القلم أو المذياع أداةً للقتل؟!


عندما نشرت "الأخبار" قبل انطلاق المحاكمات أسماء وصور وإفادات "عينة من الذين سيستعرض فريق الادّعاء عضلاته بإفاداتهم في سبيل إدانة حزب الله باغتيال الحريري وآخرين"، لم تمارس في هذا الأمر حرية صحافة، وإنما قامت بترهيب مقصود لدفع هؤلاء إلى طلب سحب شهاداتهم، أو معاكستها، أو الفرار من لبنان، أو رفضهم المثول أمام المحكمة، أو طلب ضمهم إلى برنامج حماية الشهود... وقد حصل ذلك كله.
ردُّ المحكمة لم يأت جنائياً وإنما جاء وعظياً (كشفُ أسماء الشهود يخيفهم ويعرضهم للخطر)، وكان منتـَقداً حينها، لأنه فرط بمبدأ حماية الشهود. رئيس مكتب الدفاع (عن المتهمين) فرانسوا رو اعتبر أن: "نشر أسماء الشهود ومعلومات عنهم لا يدخل في إطار حرية الرأي لأنه يشكل تهديداً للشهود...البيان صدر باسم الأقسام الأربعة المكونة للمحكمة... فوفقاً لأحد الاجتهادات الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، في الدعوة المتكونة بين صحيفة صاندي تايمز والمملكة المتحدة، فإن حرية الصحافة تتضمن؛ ليس نشر الأفكار التي تحظى بالقبول فحسب، بل نشر الأفكار التي قد تشكل صدمة أو قلقاً للرأي العام، ولكن يبقى الحديث عن أفكار لا عن تهديد فعلي للأشخاص".
سيكون من لزوم ما لا يلزم التذكير بأن نشر أسماء الشهود جزء من الحرب التي أعلنها المتهمون على المحكمة. المتهمون أقوياء، ومسلحون، وقادرون على تكرار جرائمهم. الضحايا صاروا في ذمة الله، وذويهم لا يرجون إلا عدالة بطيئة، وربما هم على استعداد للمسامحة "من أجل لبنان"، أما الشهود فمقتولون نفسياً مرتين؛ مرة لأنهم عجزوا عن منع ما حدث أو مواصلته، ومرة لأنهم قد يلحقون بالضحايا إذا ما أراد القاتل الانتقام.
ولما كان المتهمون يعلمون ذلك؛ فقد توسلوا تسريب إفادات الشهود مرة عبر تلفزيون "الجديد"، ومرة عبر جريدة "الأخبار"، ومرة عبر موقع إنترنت أنشئ لهذه الغاية. القناة الرسمية التابعة للمصدر الفعلي للتسريبات "المنار" كانت تنقل –ببراءة مهنية- هذه التسريبات المسماة معلومات صحفية!
في قوانين دول العالم ما يدين انتقاد المحاكم أو أحكامهما، وفي أنظمة قانونية أكثر تساهلاً؛ لا إدانة لذلك (وهو الأولى انسجاماً مع وجوب إطلاق حرية الصحافة)، لكن عرقلة سير العدالة وتعريض حياة الشهود للخطر محل إدانة في قوانين العالم كلها، لأن المنطق السليم هو الذي يفرض ذلك. تماماً كما يعتبر إفشاء أسرار الدفاع أو الدولة خيانة، ولو وردت عبر صحيفة أو تلفاز، وتماماً كما تعتبر الدعوة إلى القتل والفتنة تحريضاً يعاقب عليه القانون.
وعلى أي حال ما فعلته المحكمة – بعد تأخر - ليس سابقة في مجال المحاكم الدولية، فقد سبق أن غرمت محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغسلافيا السابقة، في العام 2009، فلورانس هارتمان، الناطقة السابقة باسم المدعية العامة السابقة، كارلا ديل بونتي، بسبعة آلاف يورو، بعد اتهامها بازدراء القضاء الدولي، بسبب كتاب "السلام والجزاء" وقد تضمن نشراً لوثائق؛ اعتبرت الكاتبة أن المحكمة أهملتها بهدف تبرئة صربيا من جرائم الإبادة في البوسنة. يومها اعتبرت المحكمة كتاب هارتمان يمكن أن يشجع على عدم التعاون مع القضاء الدولي في قضايا جرائم الحرب... فعاقبتها.
أما ما فعله دعاة الحرية الإعلامية في بلادنا؛ فأكبر من ذلك بكثير، لأن الهجوم على المحكمة وتحقيرها و"بلوها واشربوا ميتها" وكل ما قد قيل فيها شيء، وتوجيه قلم أو مذياع قاتل للشهود، لثنيهم عن التمسك بشهاداتهم شيء آخر...
ثم يطالبون الناس أن يتضامنوا معهم من أجل حرية الإعلام، وهم الذين ما عرفوا حرية إعلامية بعيداً عن الالتصاق بالأجهزة الأمنية، ولو كانت هذه الأجهزة تلاحق الإعلاميين على أفكارهم حتى الموت (سمير قصير نموذجاً)، وهم الذي مارسوا أو باركوا حرق أو تخريب وسائل إعلامية منافسة (جريدة وتلفزيون المستقبل في العام 2008 نموذجاً)، وهم الذي رقصوا فوق جثث شهداء أو نبشوا لهم ملفات لا يقدرون أن يدافعوا عن أنفسهم إزاءها بعدما غيبهم الموت ( اللواء وسام الحسن نموذجاً)، وهم الذين توسلوا الإعلام لتهديد الناس بـ "تحسس رقابهم"، أو ترقب "الموت في أسرتهم"... فضلاً عن كون غيرتهم على السيادة لم تتحرك عندما قام النظام السوري باستدعاء إعلاميين وسياسيين وقانونيين من العيار الثقيل في لبنان إلى قضائه المسيس!
وإذا كان غريباً دعوة "الأخبار" للتضامن معها؛ بعدما أوحى ناشرها أنه لا يخشى لا رئيساً ولا محكمة (تدينه بتحقير رئيس الجمهورية)، أي أنه من باب أولى لا يجب أن يخشى محكمة أعلن داعموه أنها "ساقطة" و"صهيونية"، فإن العجيب أكثر هو صمت وزراء لا يقولون بكلام حاسم إن الفرق بين حرية الصحافة وعرقلة سير العدالة كالفرق بين النهار والليل، وإن نظام المحكمة هو خليط من النظام القضائي اللبناني والدولي وقد وافق عليه لبنان فصار قانون المحكمة قانوناً سارياً في لبنان في نطاق عملها...

أما الأكثر عجباً فهو جمود أولئك الذين طالبوا ودعموا المحكمة الدولية؛ كيف لا يتحركون دفاعاً عن ذواتهم وعن محكمة كلفتهم وكلفت البلد الكثير، كيف لا يملأون الدنيا لافتات تقول: نعم لحرية الصحافة. لا للتهديد وعرقلة سير العدالة باسم الصحافة... كيف لا يملأون الشوارع بالناس التي تقول كفى إساءة إلى الصحافة. كفى إساءة إلى الحرية... ما كانت الحرية يوماً ترهيب الآخرين ولا قتلهم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق