الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-05-27

تجار الدين – بقلم: محمد حايك

عندما كنت طفلاً صغيراً تعلمت أن دين الله مقدس، وعندما كبرت رأيت الناس تتاجر بالدين حتى تُقدَس.  واجهت ذلك الطفل بالحقيقة، فوجدته لا ينسى ولم يكبر.  عَلمتُ أنه مازال يقطن في برج من القيم مثالي، لم يعد له وقع إلا في الخيالِ.  ينكر الحقيقة وهو يراها تعثو قريبا منه بالوادي.  ولكنه عنيداً لا يتغير ولن يساري.  فاتهم بأنه ارتَكَبَ إحدى الكبر، فازدُجِر من الناس ونُكِر.  ولكنه وقف شامخا وعبس وبسر، واتهمني بحماقة الكـبَر.  ثم صرخ فنادى، أيا هذا ألا تعلم أنني لا أساوم في معتقدي ولو كان على أمي وأبي؟ ألست أنت من علمني مبادئ قرآني؟ وقلت لي ويل لمن بحدود الله يماري، وويل لمن بكلام الله يُشاري.  فلماذا تلومني لتنهاني؟ وهل تريدني أن أكون منافقا مع الجاني؟ ألم تقل بأن لي رباً يراني؟ كم ضاقت بي الأيام؟ ولكنك أمرتني بالصبر وقلت إن لي رباً لن ينساني.  كم شكيت لك؟ ولكنك قلت لي لا تشكوا فإن هناك رباً سيرعاني.  وقلت لي بانني لست بأفضل من يوسف عند خالقي، ولكنه فتن فصبر، فأخرجه ربه إلى منصب عالٍ (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) القصص:5.


توارى ذلك الطفل رويداً رويداً وهو يقول: "دعني من حماقة الكبر، فالطمأنينة تكمن في براءة الصغر".

الا أيـهـا القـلـب هـذا زمان*****يـباع الـكـريـم ولا يشـتـرى
أرى ربعك اليوم قد أنكروك*****ومن عاده الناس أن تنكرا
فإما الشـعـور بما يـشعـرون*****والا فـإيـاك أن تـشــعـــرا [i]

اللهم إني أعوذ بك من غدر الغدارين ومن مكر المكارين ومن خيانة الخائنين ومن إفك الكاذبين، ومن أولئك الذين يقفون على المنصات والمنابر ويتشدقون بما لا يطبقون.  ويقولون ما لا يفعلون، فما أكثرهم هذه الأيام.  يسحرون الأسماع بألحانهم الداهية الواهية، كما تسحر السحرة أعين الناس بألعابهم الخفية.

النفاق عُملة رائجة في تاريخ الإنسانية.  لقد ذكر القرآن المنافقين في آيات كثيرة وعرفهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون.  ومن آيات المنافق أنه إذا حدث كذب.  اللهم إني أعوذ بك من النفاق ومن أهله، لا يستحيون من الله ولا يستحيون من الناس (وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) النساء:108.  لقد قيل لا تصدق كل ما يقال، هل أصدق ما يقولون بأنهم للخير يعملون؟ أم أصدق عيني بأنهم للمنصة يتسابقون؟ تكاد المنصة تخطف أبصارهم، كلما رأوها تنافسوا عليها، وكلما مشوا إليها ازدادوا تكبراً ونفاقاً.  طغاة بلدهم يسفكون دماء الأبرياء من أجل السلطة، فالمنازل تقصف على رؤوس سكانها، ومن بقي فيها حياً يذبح بالسكاكين كما تذبح النعاج، ثم يحرقون حتى لا يبقى لهم أثر يذكر.  أما مهاجرو أهل تلك البلد فإنهم يتاجرون بتلك الدماء من اجل المنصة، بذريعة مساعدة بلدهم المنكوب.  إنها صبابة من فَسد قلبه وعمله ... على من يكذب هؤلاء؟ إنه غرامهم للمنصة، إنهم من أفراد مافيا المنصة، لقد وقعوا في فتنة المنصة.  لقد باعوا سمعتهم ومبادئهم من أجل دقائق على المنصة.  من خان مبادئه، انتحرت قيمه.  يقول توفيق الحكيم: "المصلحة الشخصية هي دائما الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ".  لقد قيل: "إن الفنانون والكتاب والكوميديون يستخدمون الكذبة ليشيروا إلى الحقيقة، ولكن الخداعين والنصابين والمتسلطين والدكتاتورين يقولون الكذبة ليغطوا على الحقيقة".

إن أكثر الناس لا تدرك أبصارهم وعقولهم ما وراء المحسوس، ويتخدرون بالكلام المعسول، (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الأعراف:198، وهكذا يحصل على بغيتهم المنافقون المتشدقون.

لقد دُعيَّ أحدهم لجمع التبرعات لبلده المنكوب، فيرفض وهو يقول بأنه يخشى على أهله وإخوته من حاكم ذلك البلد.  وما أن اتصل به منافسه ولمح له بأن مكانه على المنصة مضمون، فنسى ما قاله عن أهله وإخوته ثم وقف على المنصة متبجحا أمام السامعين، وفي الحديث: {لا إيمان لمن لا أمانة له}.  حاول أن يستهزئ بالآخرين بدهائه ومكره، ولكنه حَقرَ نفسه دون أن يشعر، فكما تدين تدان.  لقد كَذَبَ وراوغ وتاجر بإخوته ودينه وأخلاقه وسمعته  من أجل عشر دقائق على المنصة (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النحل:105.  فالذي يتاجر بأهله وإخوته من أجل منفعة دنيوية بالية، فإنه لن يتوانى لأن يتاجر بدينه وربه وبمن حوله من اجل دنيا يصيبها، وفي الحديث: {يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب}.  إنه رجل قليل الإخلاص في قلبه مرض اسمه النفاق.  فلا أمانة لمن باع ضميره من أجل متاع صغير من متاع الدنيا.  فالذي لا يَصدق مع الناس، لن يصدق مع الله.  ومن لا يخلص مع الناس، لن يخلص مع الله.  فالبعرة تدل على البعير والقدم يدل على المسير.  إنه من تجار الدين، إنه من مجانين المنصة.  لقد جَاب الغيبة لنفسه، وهو المردد لكلام رسول الله: {رحم الله امرأ جب الغيبة عن نفسه}.  يفعل بعكس ما يقول من أجل شهوة في نفسه، وغرض في سريرته.  فالإخلاص أن يكون العمل لله مجرداً عن شهوة النفس، وهذا ما تكرهه النفس.  لقد نادى رجل ما الإيمان، فقال النبي: {الإخلاص}.  والإخلاص صفة تتحلى بها الأنبياء }وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مُوسَىٰٓ إِنَّهُۥ كَانَ مُخْلَصًۭا وَكَانَ رَسُولًۭا نَّبِيًّۭا{ مريم:51.  ومن كان عمله خالصاً لله لا يبتغي فيه إلا إرضاء الله، ولا يهمه من عارضه أو خذله، فقد اقترب من مرتبة الأنبياء.

وداعية يتفنن في الموالد النبوية كل أسبوع أمام مريديه، لقد أخذته حمية الغيرة والحسد عندما التف مريديه إلى داعية في القرية جديد.  ولما علم أن مريديه ذاهبون إلى أحد دروس منافسه الجديد.  فاتصل بهم فردا فردا قبل الموعد، وقال لهم أن الدرس قد ألغي.  وعندما دخل الداعية الجديد المكان المخصص لم يجد أحدا.  فاتصل بالناس، فقيل له أن الداعية فلان اتصل بنا وقال إنك ألغيت الدرس بسبب عذر شخصي.  هكذا يكيد المنافقون المراؤون الذين يسمون أنفسهم بالدعاة، إن كيدهم عظيم (أَلَآ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍۢ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلَآ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَىْءٍۢ مُّحِيطٌۢ) فصلت:54.  من فسدت سريرته، فسد عمله.

لقد استُخدِم الدين من قبل المستبدين والمنافقين والمستفيدين، وانبرت لذلك أقلامهم وألسنتهم، يقول ابن خلدون: فاز المتملقون.  اعلموا يا تجار الأديان إن الله طيبا لا يقبل إلا طيبا }مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ{ فاطر:10.  ومن يتاجر في الدين فإن حسابه عند الله عسير، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ{ النور:55.  ومن أوفى بعهده من الله.

مازالت كلمات الطفل تدندن في أذني، "دعني من حماقة الكبر، فالطمأنينة تكمن في براءة الصغر".

أتلانتا جورجيا
27-أيار-2014





[i]  - للشاعر عبد الرحمن العشماوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق