الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-05-30

ردٌّ بدليل وعرضٌ على القرآن الكريم» - بقلم: د. محمد عناد سليمان

إنَّ امتلاك الحقيقة المطلقة أمر لا يُمكن إدراكه من قبل البشر؛ لأنَّ عاجزون عن معرفة الغيب الذي فيه من الخير أو الشرّ ما لا يعلمه إلا الله، وإن ادَّعى أحدٌ ذلك، فهو إمَّا واقعٌ في الجهالة، أو غارقٌ في الضَّلالة.

وقد قرأتٌ مقالاً لأحد الأخوة الأفاضل، بعنوان: «إنْ كنتَ مدَّعيًا فالدَّليل، وإن كنتَ ناقلاً فالصِّحَّة»، ولا شكَّ أنَّ العنوان يشير إلى مضمونه، لكنَّ النَّظر فيه نظرة نقديَّةً متفحِّصة، تُظهر وبوضوح أحدَ أمرين:
الأوَّل: أنَّ صاحب المقال لم يلمَّ بجميع وجوه ما ادَّعاه فيه، وهو ما أوقعه في الأمر الثَّاني، وهو ما حذَّر منه ودعا إليه.
الثَّاني: أنَّه ناقض الدَّليل، ولم يعتمد الصحَّة فيما قال.


وحتى نقف على حقيقة دعواه، ننقل قوله في ذلك، ثم نظهر مدى صحَّة ما ذهب إليه، مع التأكيد أنَّ المراد هو تبيان ما عليه كثيرٌ ممَّن يدَّعون أنَّهم من أهل العلم، ويحاولون جاهدين إبعاد الشُّبهات عمَّا وصل إلينا في كثير من الموروث، لكنّهم يبتعدون كثيرًا؛ ويعجزون عن تنفيدها، وردِّها، ولعلَّ السَّبب في ذلك هو دسُّ العيون في التُّراب، ظنَّا ووهمًا أنَّهم يدفنونها، يدفعهم إلى ذلك التعصُّب الأعمى لصحَّة جميع ما ورد، دون عرضه على الأصول، أو العودة إليها، فجعلوا من النَّتائج التي وصلتهم أصولا يعتمدونها، ولم يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث في جذورها، وتبيان صحيحها من سقيمها، اعتمادًا على الأصول ذاتها، لا على النَّتائج نفسها.

يقول الباحث في مقاله: «إن مخاطبة العقول والقلوب فن لا يجيده إلا من يمتلك أدواته رغبة في الوصول إلى الحق ، لذلك كان من الأهمية بمكان إشاعة فن الإقناع والتدريب على أساليبه، وإتقان فنون الحوار والتخلق بأخلاقه، وذلك لنقل المعرفة ورسوخ العلم».

وهي دعوة جميلة من صاحبها، وحقيقة ينبغي ألا يحيد عنها طالب علم، أو باحث معاصر، أو ناقد ممحِّص، ليصل إلى مراده إمَّا ترجيحًا أو يقينًا،  ثم يتابع قوله: «هناك أناس لا يجيدون إلا السباب والهجوم على آخر واتهامه بأشبع الصفات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عجزهم وضعفهم، لذلك لا يتحملون نور الحق الساطع فيسدون أشعته بكلمات جارحة يوجهونها لمن يحاورونهم»، وهو مصيب في ذلك، إذ إنَّ اللجوء إلى الشُّخوص دليل على ضعف من يدَّعي النَّقد، وهو ما نسير عليه في مقالنا هذا، إذ لا نتعرَّض لشخص الكاتب، فلا معرفة لنا به إلا من خلال ما يكتب، ولو أردنا أن نعتمد الحبَّ أو البغض للكاتب لدثرنا ثلاثة أرباع ما وصلنا من تراث دينيّ وأدبي وتاريخيّ.

ولعلَّ أهمَّ ما ورد في مقال الكاتب، وهو ما نجعله مدار البحث والرّد والتَّفنيد قوله: «هجمة شرسة تتعرض لها السنة النبوية من قبل العلمانيين والمتنطعين بالعقلانية ، وأحيانا من مثقفين يتظاهرون بطابع التمسك بما جاء في القرآن الكريم ، وهذا ليس بجديد فقد كانت هناك محاولات منذ القدم ولكنها باءت بالفشل»، وهو يحاول في ذلك أن يكون مدافعًا عن السنَّة النَّبويَّة في وجه ما يعترض لها من طعنات، وهذا ليس بالجديد؛ بل إنَّه منذ القديم، ولا عجب في ذلك فشريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم هي الخاتمة، فلا بدَّ أن ينالها النَّصيب الأكبر من التَّكذيب والدَّخيل والموضوع.

ثم يضرب الكاتب مثالا على ذلك فيقول: «وقبل فترة في العهد القريب ظهرت شخصية تلبس على المسلمين للنيل من السنة، والطعن في أشهر رواتها الصحابي الجليل : أبي هريرة رضي الله عنه، فقيض الله الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله للرد على ذلك المتطاول وأمثاله، فألف كتابه «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي»، والذي أرى لزاما على كل مسلم اقتناءه، والاطلاع عليه وخاصة لما تتعرض له السنة النبوية في هذا الوقت.

وقد فضح الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال هؤلاء المشككين قبل أن يوجدوا إلى قيام الساعة فقد روى الترمذي وابن ماجه عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ».

والظّاهر من كلام الكاتب أنَّ شخصيَّة «أبي هريرة» رضي الله عنه تتعرَّض للطَّعن، وجعل من شخصيِّته «أشهر الرُّواة»، ولعلَ الكاتب يشير إلى أنَّ غالب الأحاديث المرويَّة كانت له.

لكن التَّدقيق فيما يذكره صاحب المقال يُظهر لنا ما ذكرناه في مقدَّمة هذا المقال، فهو لم يقف على جميع وجوه ما ذكره في ذلك، ولم يعد إلى ما قاله القوم في «أبي هريرة»، وأنَّ ما يسمِّيه «طعنًا» ليس بالحديث؛ بل هو قديم قدمَ الحديث النَّبويّ نفسه، لكنَّ الكاتب جارٍ كغيره على قاعدة «التَّنزيه» لكلّ ما ورد من الموروث الدِّينيّ، وما وقع في صحيحي «البخاريِّ» و«مسلم» مما لا يجوز المساس به، أو الاقتراب منه، وإن خالفَ نصَّ القرآن الكريم.

ولنوضِّح ذلك، سنقف على عدد من الأمور:

أوَّلها: شخصيَّة «أبو هريرة» رضي الله عنه، لم تسلم من النَّقد حديثًا وقديمًا، حتى إنَّ «عمر بن الخطَّاب» رضي الله عنه هدَّده بالطَّرد بسبب روايته للحديث، وقام بحبس بعض الصَّحابة كـ«أبي الدَّرداء» وغيره، وحتى لا يكون كلامنا مجرَّد ادِّعاء، فنقع فيما يحذِّر منه صاحب المقال، نورد أدلَّتها بما يلي:

1-التَّهديد بالطَّرد:

أورد «الذَّهبيّ» في «سير أعلام النُّبلاء» ما يوضِّح ذلك، قال: «..سعيد بن عبد العزيز ، عن إسماعيل بن عبيدالله، عن السائب بن يزيد: سمع عمر يقول لأبي هريرة: لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لألحقنَّك بأرض دوس! وقال لكعب: لتتركنَّ الحديث، أو لألحقنَّك بأرض القردة».
       وكذلك الأمر عند «ابن كثير» في «البداية والنِّهاية» حيث يقول: «وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، ثنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولالحقنَّك بأرض دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القرة»، ومثله أيضًا ما ذكره «ابن عساكر» في «تاريخ دمشق» وغيره.

وحتى لا يظنُّ ظانٌّ أنَّ هذه الأخبار قد وردت في كتب «التَّاريخ» فقط، ولا حجَّة فيها، نقول: إنَّ هناك ما يؤيِّدها في كتب الحديث «الصِّحاح» التي يعتقدُ الكاتب أنَّها في «أعلى درجات الصحَّة» مما يلزمه أن يقبل بها، وهو في ذلك متابع لكثير ممّن يذهبون هذا المذهب، فوجب المصير إليه.

روى «البخاريّ» في صحيحه /3568/ ما نصُّه:  «وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو فُلَانٍ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ».

يظهر بوضوح في نصِّ هذا الحديث قول «البخاريّ»: «أبو فلان»، وهو يقصدٌ «أبا هريرة»، لكن جرت عادة «البخاريّ» في التأدُّب مع «الصَّحابة» رضوان الله عليه، على نحو ما فعل مع «ابن مسعود» في موضع آخر، ووصفه بـ«فلان»، علمًا أنَّ «الحديث» يرويه عن شيخه «الحميديّ», و«الحميديّ» في «مسنده» قد نصَّ على اسم «ابن مسعود».

وقد أكَّد الشَّيخ «البُغا» في شرحه وتعليقه على «البخاريّ» أنَّ المقصود «أبو هريرة» رضي الله عنه، بل إنَّ «مسلم» -ومثله «أبو داود»- في صحيحه قد نصَّ صراحة على اسمه فقال: /2493/:  «وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أنَّ عروة بن الزبير حدثه أنَّّ عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدِّث عن النَّبي صلى الله عليه و سلم يسمعني ذلك وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه: إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم».
      
والواجب علينا في النَّقد والبحث أنَّ نعلم الأسباب التي أدَّت إلى عزم «عمر بن الخطَّاب» رضي الله عنه على طرده، وما هو سبب إشراك «كعب الأحبار» في ذلك؟

والذي يظهر ممَّا وقعنا عليه، كثرة مجالسة «أبي هريرة» رضي الله عنه لـ«كعب الأحبار»، والاستماع منه، حتى إنّه كان يحدِّث بالحديث مع «كعب» من «الإسرائيليِّات»، فيجعلها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر «الذَّهبيُّ» في «سيره» فقال: «بكير بن الأشج، عن بسر بن سعيد: قال: اتقوا الله، وتحفظوا من الحديث; فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة،  فيحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم».

وقال «يزيد بن هارون» كما في «ابن عساكر»: «سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس، أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى لله عليه وسلم، ولا يميز هذا من هذا».

وحتى لا نسلِّم بهذه الأقوال، عرضناها على الأصول، فوجدنا أغلب «الأحاديث التي وردت عن الخرافات كذكر «الدجَّال»، ونزول «عيسى عليه السَّلام»، و«خروج المهدي»، و«علامات السَّاعة» هي مرويَّةٌ عن «أبي هريرة»، ولا شكَّ أنَّه أخذها من «الإسرائيليّات» عن »كعب الأحبار» اليهوديّ الأصل، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر في «البخاريّ» /1331/، و/1781/، و/2405/، وغيرها، وفي «مسلم»: /588/، و/1379/، و/2525/، وغيره.

ومنها حديث أنَّ إبراهيم عليه السَّلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات كما في «البخاريّ» برقم /3108/، والله تعالى يقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}مريم41.

ولا نريد الخوض في تفاصيل هذا «الحديث»، وإثبات أنَّه من مقتبس من «التَّوراة»، خاصَّة وأنَّ «أبا هريرة» كان يقرأ «التَّوراة»، كما روى «البخاريُّ» نفسه /3305/ حيث جاء: « حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَارَ إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ فَحَدَّثْتُ كَعْبًا فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لِي مِرَارًا فَقُلْتُ أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ.

2-التَّناقض في رواية الحديث:

قد يجدُ القارئ مثل هذا المر جديدًا، ومردُّ ذلك إلى عدم البحث ومراجعة الأصول، فثمَّة مواضع كثيرة نجد فيها التَّناقض في رواية الأحاديث، من حيث متنها، مما يدفعنا وبقوَّة إلى مراجعة أصولها، وعرضها على «القرآن الكريم»، ومن ذلك فيما يخصُّ «أبا هريرة» نفسه رضي الله عنه، ما رواه «البخاريُّ في صحيحه / 5770/ فقال: « حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الْأَوَّلِ قُلْنَا أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لَا عَدْوَى فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ».

يظهر في هذا «الحديث» ثلاثة أمور لا بدَّ من ذكرها، والوقوف عندها في غير هذا المقام، وهي:

الأوَّل: إنكار «أبي هريرة» رضي الله عنه حديثًا له؛ لأنَّه وقع في التَّناقض، فكان لا بدَّ من اللجوء إلى الإنكار.

الثَّاني: تزكية «أبي سلمة» له، والتَّبرير بالنِّسيان، وهو أمر مقبول، والإنسان معرَّض له، لكن المبالغة في أنَّه ما رآه نسي غيره في غير محلِّها كما تظهره مواضع أخرى.

الثَّالث: الجزم بأنَّ «أبا هريرة »كان «يرطن» أي: «يتحدث» بلغة «الحبشة»، وهو أمر له ما بعده.
أمَّا الأمر الآخر الذي أرى من الضَّرورة الوقوف عنده فيما يذكره صاحب المقال، ما يتعلَّقُ بقضيَّة «الحلال» و«الحرام»، إذ إنَّني أجزم بأنَّ الحكم الأوَّل والأخير هو «كتاب الله»، ولا يجوز أن يُشرك معه شيئًا في التَّحليل والتَّحريم، إذ إنَّ المشرِّع هو الله سبحانه وتعالى، وما كان لبشر حتى وإن كان رسولا أن يحرِّم أو يحلَّ إلا ما أمره الله به، و«القرآن الكريم» قد بيَّن مواضع «الحلال» و«الحرام»، كما بيَّن مهمَّة «الرُّسل»،  و«الأنبياء» في التَّبليغ والتَّبيين، وليس التَّحليل والتَّحريم، ولو كان لهم ذلك، لما عاتب ربُّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}التحريم1.

مع تأكيدنا ضرورة التَّفريق بين لفظي «الرَّسول» و«النَّبي» في «القرآن الكريم»، فلكلٍّ دلالته، ومنها يُعرف الحديث الصَّحيح من السَّقيم، كما نراه والله أعلم.

بل إنَّ عرض «الأحاديث» على «القرآن الكريم» نراه عين الحقيقة والصَّواب على اعتباره الأصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي ذلك يقول «مسلم» في صحيحه قبل أن تعبث به يد السّياسة /1218/ : «... وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ».

ومثل هذا العرض على «القرآن الكريم» وقعنا عليه كثيرًا عند السِّيِّدة «عائشة» رضي الله عنها، من ذلك تكذيبها ورفضها للحديث الذي يرويه «ابن عمر» رضي الله عنه في غير موضوع بأنَّ «الميِّت يُعذَّب ببكاء أهله عليه»، وقد روى «البخاريُّ» عرض «الحديث على «القرآن /1288/ حيث قال: « قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}».

ويظهر في هذا الحديث أمران:

الأوَّل: قول السَّيِّدة «عائشة» رضي الله عنها: «حسبكم القرآن»، في إشارة واضحة إلى صحَّة عرض ما وصلنا من «حديث» على «القرآن الكريم».

الثاني: عدم الرَّضا عمَّا يرويه «عبد الله بن عمر»، وتصحيح ما رواه، ونسبة ذلك إمَّا إلى «النِّسيان»، أو «الخطأ» كما يرويه «النَّسائي» /1833/ حيث جاء: «عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ قَالَتْ عَائِشَةُ يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنْ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّب».

-وحديث «النّسائيّ» في أعلى درجات الصحَّة عندي لتوافقه مع قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}الأنعام 164.

ومن هذه المواضع ما رواه «البخاريّ» /4854/ حيث جاء: «حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْن».
      
       فالسَّيدة «عائشة» رضي الله عنها، تعرض ما سمعته منسوبًا إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على القرآن، وتورد لردِّه آيات تفنِّد ما وصلها؛ بل ترى أنَّ من فعل ذلك فقد كذب في قوله، وجاء بفرية لا أصل لها، علمًا أنَّ الحديث الذي تردُّه مرويٌ عن «ابن عبَّاس» كما في سنن «التّرمذيّ» /3335-3336/ وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى ربَّه سبحانه وتعالى، ولا شكَّ أنَّ نصَّ «القرآن والآيات التي ذكرتها السِّيدة «عائشة» رضي الله عنها تردُّ ذلك، وتدحضه.
        
وبالتالي فلا نتهيَّب من إسقاط عشرات «الأحاديث التي وردت في صحيحي «البخاري» و«مسلم» وغيرهما؛ لمخالفته، ومخالفة نصَّ «القرآن الكريم».

وبالمحصَّلة فنحن لا نطعن في أحد من «الصَّحابة»، ولا بشخصيَّة «أبي هريرة» رضي الله عنه، ولا بغيرها، لكن هذه جوانب ممَّا وصلنا، وكان لا بدَّ من البحث فيها بعد التّجرُّد من التَّبعيَّة، أو التَّعصّب لأحد، فالحقّث أحقُّ بالاتباع. وحسبي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }يونس35.

د. محمد عناد سليمان

29 / 5 / 2014م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق