عندما تستعر المعركة بين المؤمنين المدافعين عن الحق،
المجاهدين لإعلاء كلمة الحق وتحرير المستضعفين... وبين الطغاة الذين يستذلون
الناس، وينتهكون حرماتهم، ويسرقون ثرواتهم... ثم تجد أناساً يقفون صامتين، وهم
قادرون على أن يقولوا كلمة الحق، بل تجد أناساً ينافقون للطاغية المجرم، وينفون
عنه كل ظلم، ويضفون عليه صفات القدسية، ويصفون المجاهدين بأنهم دعاة فتنة!... نعجب
لموقف القاعدين الصامتين، فضلاً عن موقف المنافقين المداهنين، ولا نجد الجواب
الشافي لفهم هذه المواقف، فهل لنا أن نتعمق في فهم هذه الظاهرة المقيتة؟.
كثيراً ما تشغلنا المظاهر والأشكال عن اللباب والحقائق،
مع أن دلالة المظاهر قاصرة عن فهم الأمور وتحليلها. وقد وصف القرآن الكريم أقواماً
بالجهل لأنهم يقفون عند الظواهر، فقال سبحانه: ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من
الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون(. سورة الروم-الآيتان 6و7.
ولدى تحليل أسباب الإخفاق والهزيمة عند الفرد أو الأمة،
فأول ما يتبادر إلى أذهاننا أن نستعرض العَدَد والعُدَد... وهي شيء مهم. وقد نتعمق
أكثر فنسأل عن التدريب والتخطيط والتنظيم... وهي أمور أكثر أهمية، لكننا نغفُل في
أكثر الأحيان عن البحث في النفوس ومشاعرها واستعداداتها.
ونسارع فنؤكد أن ما في النفوس هو سر النجاح أو الإخفاق،
وهو سر الانتصار أو الانهزام. ألم يقل الله تعالى: ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( ؟ فإذا غيّر الناس ما بأنفسهم من عقائد وتصورات، ومن
مفاهيم وقيم، ومن مشاعر وأشواق، غيّر الله واقعهم بما يناسب ذلك التغيير الذي أحدثوه
في نفوسهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.
ومن ثم فقد تحدث عدد من كبار المفكرين عن هذه الحقيقة،
وكثيراً ما قرأنا للشهيد سيد قطب رحمه الله عن "المهزومين روحياً أمام ضغط
الجاهلية الغربية" حيث يعتبر هؤلاء المهزومين غير أهل لحمل العقيدة والجهاد
في سبيلها، وكيف يكونون أهلاً وهم يشعرون بالخزي والصغار من هذا الدين وأحكامه؟ وكيف
يواجهون أعداء الإسلام وهم يُعجَبون بهؤلاء الأعداء، ويعدّونهم مثلاً أعلى في
الحياة؟ حتى إذا أراد هؤلاء المهزومون أن يعرضوا دينهم أمام الناس عرضوه بما يوافق
أهواء الناس ويتملق شهواتهم ومفاهيمهم الخاطئة، وتدسسوا إليهم بالدين تدسُّساً،
وكأنهم يقولون: إن الدين الذي ندعوكم إليه إنما هو إضفاء الشرعية على أوضاعكم التي
أنتم عليها... وإذن فلن نكلفكم تغيير هذا الواقع، إنما نطالبكم فقط أن ترفعوا
لافتة الإسلام على أوضاعكم وأن تقولوا: نحن مسلمون. فإذا قلتموها فقد انتهت
المسألة بيننا...
هذا الشعور، شعور الانهزام، أو شعور ضعف الثقة، يحكم على
صاحبه أن يكون في ذيل القافلة، أو أن يكون ذليلاً مهيناً، لا تفارق القيود معصميه،
ولا يملك أن يقف مستقلاً على قدميه.
ولهذا فإن المفكر المعروف مالك بن نبي رحمه الله، يصف
هؤلاء الناس بصفة "القابلية للاستعمار"، فيَعُدُّ أن ثمة صفاتٍ وسماتٍ
إذا وجدت في أمة كانت هذه الأمة مهيأة لأن تُستعمر حكماً. فإذا لم يُهيأ لها من
يستعمرها بحثت عمن يستعمرها! وقد يبدو هذا الكلام مبالغاً فيه، بعيداً عن الواقع.
ولكن أليست أوضاع كثير من الأفراد والشعوب ترجمة لهذا المعنى؟.
فالذين يملكون عقيدة وفكراً ثم هم يُعرِضون عن ذلك
ويستوردون العقيدة والفكر، والذين يرون الأخطاء في مجتمعهم فيتهيبون إنكارها،
ويرون الظلم من قادتهم فلا يجرؤون على مقاومته... أليسوا في وضع يدعو الآخرين لأن
يستعمروهم فكرياً وحضارياً، وأن يستمروا في الطريق الخاطئ، ويتمادوا في الظلم
والطغيان؟
إن من أهم شروط الأمة المجاهدة أن تعيش حالة الكرامة في
نفسها، وأن تعتز بتاريخها، وتحس بأهمية وجودها وقيمتها في الساحة العالمية، وفي
مسيرة التاريخ. فهذه المشاعر تعطي زخماً مهماً في طريق الجهاد والتضحية، وتدعو إلى
مزيد من المواقف المبدئية الصلبة. والأمة التي تُحِسُّ بالمهانة والدونية في
انتمائها الحضاري والتاريخي، وفي مكانة الفكر والقيم والمناهج التي تتبناها.. لا
يمكن أن ترفع راية الجهاد، وأن تحقق لنفسها العزة. بل إن أقصى جهادها أن تنقد
الظلم والظالمين نقداً هامساً، وأن تتجرع كؤوس الألم والإيذاء. ولربما تتبرم
بالمجاهدين الثائرين لأنهم كانوا سبباً في زيادة البلاء. فقد يشعر المهزوم
الذليل أن إذعانه للظالمين وتعايشه معهم وتصنعه الابتسامة في وجوههم، أهون عليه من
الثورة عليهم وتلقي مزيد من أذاهم. لقد تبرم بنو إسرائيل بموسى عليه السلام
فقالوا: ) أُوذينا من
قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا (. وغني عن البيان أنّ من كان في طور إعداد واستعداد، وتهيئة
جادة للجهاد لا يكون في عداد الساكتين عن الظلم، فإن عزمه الصادق على الجهاد ينفي
عنه صفة الهزيمة الروحية التي تلحق بالقاعدين، بل إن سكوت هذا أشبه بالسكون الذي
يسبق العاصفة.
إن قعود القاعدين، وخنوع الضعفاء، يزيد الظالمين ظلماً
وعلوّاً. وإن الاعتراض بالكلمة حيث تجدي الكلمة، وبأنواع المقاومة المجدية الأخرى،
فيه تضحية ببعض الأموال والنفوس، لكن فيه أخيراً العزة والمتعة في الدنيا، ورضوان
الله وجنته في الآخرة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "إذا
رأيتَ أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم فقد تُوُدّع منهم" رواه
الإمام أحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق