إن اختلاف الرؤى والتوجهات من سُنّة الله تعالى في البشر. قال تعالى: (ولا
يزالون مختلفين). الآية 118 من سورة هود.
وأمام الاختلاف يجد المرء نفسَه
حائراً. فأيَّ رؤية يختار؟ وأيَّ توجُّه يتبع؟.
والإسلام لا يدَعَ المؤمن في حيرة، بل يجعل له على الطريق صُوَى تهديه سواء
السبيل:
* فالقرآن الكريم يبيّن لنا طريقتين، تعزّز إحداهما الأخرى، للتعامل الحصيف
مع الاختلاف:
- الأولى: أن تكون مرجعية المسلم إلى حكم الله، حين يظهر هذا الحكم
في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّهِ﴾ الآية 10 من سورة الشورى.
وقال سبحانه: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ الآية 65 من سورة النساء.
فالاحتكام إلى الله ورسوله شرط لصحة الإيمان. ورفض هذا الاحتكام دليل على
انتفاء الإيمان. لكن هذا الاحتكام يعني الرجوع إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله
صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله حمّال أوجه، بمعنى أن الفهوم تختلف في دلالاته،
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وهنا ينبغي للمسلمين أن يوسّعوا صدورهم
للخلاف، ولا يجعلوه سبباً لخصومة، وقد حصل أن اختلف الصحابة، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم بين أظهرهم، فعلّمهم كيف يستوعبُ بعضهم بعضاً، فحين اختلفوا في أسرى
بدر: أيفادونهم أم يقتلونهم؟ أثنى صلى الله عليه وسلم على الرأيين ورجّح أحدهما،
وحين وجّه أصحابه إلى غزوة بني قريظة وقال لهم: "لا تصلّوا العصر إلا في بني
قريظة"، واختلفوا في تفسير كلامه أقرّ هؤلاء وهؤلاء.
والثانية: أن نأخذ بالشورى، حين
يكون الخلاف حول اختيار بديل من بين بدائل متاحة مباحة، تتباين العقول في ترجيح
أحدها على الآخر. فيقول سبحانه: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ الآية 38
من سورة الشورى.
كما حذّر القرآن الكريم من طريق آخر، وهو اتباع الرأي الذي يرضي الكافرين.
فالكافرون، مهما اختلفت مشاربهم لا يريدون بنا خيراً، ولن يُشيروا علينا بخير،
والخير في الحذر من آرائهم. والآيات الكريمة في هذا كثيرة. منها:
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم). {سورة البقرة: 120}.
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتابَ يردّوكم بعد
إيمانكم كافرين). {سورة آل عمران: 100}.
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا
خاسرين). {سورة آل عمران: 149}.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً. ودّوا
ما عنتّم. قد بدت البغضاءُ من أفواههم. وما تُخفي صدورهم أكبر). {سورة آل عمران: 118}.
فموافقة الكافرين مظنّة شرّ وبيل، ومخالفتهم مظنة خير جزيل.
* والرسول صلى الله عليه وسلم يُرشدنا إلى ما يُجنّبنا الخلاف فيقول:
"... فإنه مَنْ يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسُنَّتي وسنّة
الخلفاء الراشدين المهديّين. عَضُّوا عليها بالنواجذ". رواه أبو داود
والترمذي، وقال: حسن صحيح.
فهو - عليه الصلاة والسلام- يحدِّد لنا العلامة الأولى لاختيار الطريق.
إنها التزام سنَّته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. فمن كان على منهج أهل السنة
والجماعة، محبّاً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، فهو على خير ورشاد.
وهؤلاء هم الذين أجمعت الأمة على أنهم الخلفاء الراشدون. ومن تنكَّب هذا الطريق
فهو على ضلالة وعمى!.
* والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب صاحبه حذيفة بن اليمان، حين سأله عما
يفعل إذا تولّى أمْرَ المسلمين "دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها
قذفوهم إليها" فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تلزَمُ جماعة المسلمين
وإمامهم" [وهو جزء من حديث طويل، رواه الإمام البخاري].
و"جماعة المسلمين" تعني - فيما تعني - مجموع المسلمين الذين
يبايعون الخليفة أمير المؤمنين. فإذا لم يكن هذا الخليفة قائماً، فهذه الجماعة هي
ما عليه رجال العلم المشهودُ لهم بالاستقامة، بخلاف الجهّال والعوام، وبخلاف علماء
السلطان الذين يبيعون دينهم بعَرَض من الدنيا.
* * *
وكثيراً ما يكون وراء الخلاف نزغٌ للشيطان، وحظٌّ للنفس، رغبةً في
الغَلَبة، وانتصارِ الذات.. كما حصل لفريق من أهل الكتاب، عَرَفوا النبي صلى الله
عليه وسلم ودينَه، وأبَوا أن يذعنوا للحق: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ الآية 89 من سورة
البقرة.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ الآية 19 من سورة آل عمران.
وإذا كان كل فريق يزعم لنفسه أنه يدعو إلى الحقّ، ويتمسك به، ويبرّئ نفسه
من الظلم والبغي والمنافسة على الدنيا... فالله يبيِّن للفرقاء جميعاً الأدب الذي
عليهم أن يتحلَّوا به ليتغلَّبوا على نَزْغِ الشيطان: ﴿وقل لِعِبَادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ للإنسان عَدُوّاً مُبِيناً﴾. الآية 53 من سورة الإسراء.
فالكلمة الطيبة تفعل في القلوب ما لا تفعله حوارات وجدالات يقصد فيها كل
فريق من الفرقاء الانتصار لنفسه، لا الانتصار للحق!.
وحتى يكون للكلمة الطيبة أثرها، يجب أن تترافق مع سلوك يلائمها، فأما الذي
ينطق لسانه بكلمة الصلح والوفاق والتقارب.. ويغرز خنجره في ظهر صاحبه... فلن يكون
لكلمته - مهما حسُنت - أثرها الإيجابي، بل إنها تنزع الثقة بالكلام المعسول كله.
وقد قال الله تعالى لفريقٍ من المؤمنين، خالفت أقوالُهم مواقِفَهم العملية: ﴿يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ﴾. الآية 2 من سورة
الصف.
نعم، إذا صدَق إيمانُ العبد، وأخلص لله نيّته، وطهَّر طويّته، ورضي بكتاب
الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حَكَماً، واستهدى بهدي الخلفاء
الراشدين، وبأئمة المسلمين المرْضيين من بعدهم، ووطّن نفسه على تحرّي الحق، والبحث
عنه، وسلوك سبيله.. وقَبِلَ بما تُسفر عنه الشورى بين أهل الحل والعقد من المؤمنين
الأخيار، وانتقى أطايب الكلام، في حواره مع إخوانه، وخفض لهم جناحه، فكان سلوكه
موافقاً لدعواه في إرادة الخير، وإشاعة الوئام.. فقد سار على بصيرة، وهو يرجو من
الله الهداية والتوفيق.
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
الآية 108 من سورة يوسف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق