أخيراً وصل التقرير من المركز الطبي
في ألمانيا فقطع الشك باليقين، وأشار إلى أن النتائج المخبرية والصور الشعاعية المرفقة
تؤكد وجود ورم في الدماغ قريباً من المراكز العصبية المسؤولة عن الذاكرة، ويوصي التقرير
بضرورة إجراء العمل الجراحي عاجلاً لأن الورم من النوع الخبيث سريع الانتشار، لكن التقرير ينبه إلى أن الجراحة يمكن أن تؤدي إلى فقدان ذاكرة
المريض!
قرأ الجرّاح التقرير بعناية، ثم عرض
خلاصته على المهندس "حسين" وأخبره أنهم وضعوا اسمه على قائمة العمليات بعد
غد بناء على توصية التقرير بضرورة التعجيل بالعملية، وقدّم ورقة وقلماً إلى حسين ونصحه
بالتوقيع للموافقة على الجراحة حرصاً على حياته، فأمسك حسين بالقلم والورقة ووقف متردداً،
ولم يوقع، بل طلب مهلة إلى الغد، فظنّ الجراح أنه يخشى مخاطر الجراحة، فطمأنه أن العملية
بسيطة وسوف تقضي على الورم نهائياً، ونصحه بعدم التردد، وتركه وانصرف متمنياً له الشفاء،
لكنه لم يطمئن فقد أحسّ أن فقدان ذاكرته يعادل وفاته، فقد فكر : ممخكيف ستكون حياته
إذا فقد ذاكرته ولم يعد يتعرف على والديه وزوجته وأولاده وأحبابه ؟!! وكيف يفرط بحفظه
للقرآن الكريم الذي استغرق من عمره خمس سنوات ؟!! وما الذي يتبقى لديه من الهندسة التي
يحمل شهادة الماجستير فيها ؟!
لكنه عند المساء حين خلا بنفسه وراحت
صور حياته تتدفق في ذاكرته بدأ يقتنع بإجراء العملية ولْتذهب الذاكرة وما ترسب فيها
من آلام وأحزان غير مأسوف عليها، فقد اكتشف في هدأة الليل وهو يقلب دفاتر ذاكرته أن
حياته لم تكن سوى سلسلة من المعاناة والمآسي والمطاردة والتشرد، وتذكر كيف بدأت مشاكله
مع النظام الدكتاتوري الذي أجبره وأجبر كل زملائه في المدرسة الثانوية على الانتساب
إلى "حزب البعث" وتذكر كيف أنه بالرغم من قبوله عضواً في الحزب لم يسلم من
المضايقات والملاحقات، فقد ظلت أفكاره موضع رفض واستنكار من قبل مسؤولي شعبة الحزب،
وظلت دعوته إلى حرية الرأي وشجاعته بطرح أفكاره تواجه بردود أفعال غاضبة، وعلى الرغم
من أن "الحرية" تشكل ركناً أساسياً من شعار الحزب ( وحدة- حرية- اشتراكية)
ومع أنه كان يعرف أن هذه الكلمات ليست سوى شعارات للاستهلاك الإعلامي ، فإنه ظل يدعو
إلى الحرية، ويدفع عنه تهمة التحريض ضد النظام بأن الحرية هي شعار الحزب، لكن دفاعه
واستناده إلى شعار الحزب لم يشفع له ولم يوقف التقارير السرية التي راحت ترفع ضده إلى
قيادة الحزب في دمشق، ما أوقعه في دوامة تحقيقات مرهقة ساقته إلى السجن مرات ومرات،
وأورثته ارتفاعاً مزمناً في ضغط الدم، ومع تذكره تلك الملاحقات والتحقيقات والتعذب
الذي تعرض له مراراً أصبح على قناعة بأن ذلك كله هو الذي سبب الورم في دماغه!!
وطال عليه الليل، وتمنى لو يظفر بشيء
من النوم لكن شريط الذكريات ظل يتدفق في رأسه ويطرد عنه النوم، فساقته الذكريات إلى
حدث ترك في نفسه جرحاً غائراً لم يندمل برغم السنين، ذاك الحدث الذي غيَّر مسار حياته
تغييراً جذرياً وحطم حلماً من أكبر أحلام حياته ، فبعد أن صدر قرار رسمي من رئيس الجامعة
بترشيحه لمنحة دراسية في فرنسا للحصول على الدكتوراه باعتباره المعيد الحاصل على أعلى
الدرجات، تواطأ عميد الكلية ورئيس فرع الحزب في الجامعة ضد ترشيحه، وحوّلا المنحة إلى
طالب آخر ينتمي إلى طائفة العميد الذي ينتمي بدوره إلى طائفة الدكتاتور"حافظ الأسد"
بعد أن أصبحت هذه التصرفات شائعة في سياق التوجه الطائفي الذي أسسه الدكتاتور ضارباً
بذلك كل الأعراف الأكاديمية، بل ضارباً المجتمع السوري الذي عرف عبر تاريخه العريق
بالسلم الأهلي والتعايش الأخوي بين السوريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم
وأعراقهم!!
وطال الليل حتى بدا بلا آخر، واستمرت
الذكريات تجرفه في تيارها بلا رحمة حتى وصلت به إلى سنوات حبسه الطويل في " سجن
تدمر" الرهيب، وما قاساه هناك من تعذيب ومهانة بتهمة انتمائه إلى جماعة إسلامية
متطرفة، وهي تهمة درج النظام على توجيهها إلى معارضيه للتخلص منهم وإسكات أصواتهم،
لهذا اتهموه بالتطرف لإسكات صوته ووقف سلسلة المقالات التي بدأ ينشرها في الصحف المحلية
وينتقد فيها الدكتاتورية ويطالب بالديمقراطية، ويدعو إلى الشفافية في الشأن العام
!!
ومع ذكريات السجن .. توقفت به الذاكرة
طويلاً عند صور الإعدامات الأسبوعية التي كانت تعقد هناك، فتذكر وجوه أصدقائه المساجين
الذين رآهم معلقين على المشانق دون ذنب اقترفوه سوى رفضهم للاستبداد وانتقاد"الدكتاتور"
الذي صبغ صورة سوريا بالطائفية وأحدث في المجتمع السوري جرحاً عميقاً بدأ يمزقه من الداخل !!
وأمام هذه السلسلة من الذكريات السوداء
التي راحت تتدفق في رأسه بلا رحمة، وجد نفسه يتخذ القرار الذي تردد فيه صباحاً أمام
الطبيب، فقرر الموافقة على العملية رجاءَ أن تمحو من ذاكرته هذه الصور التي نغّصت عليه
حياته، وتريح عقله من الرغبة بالانتقام ممن ظلموه ، وعلى الفور تناول الورق والقلم
ووقع على الإقرار بالعملية، وهو يردد :
- فلترحل الذاكرة إلى الجحيم !
وفي الصباح قدم الإقرار إلى الطبيب
الذي بدا عليه الارتياح، وهنأه على قراره الشجاع وعاد يطمئنه بنجاح العملية، وأعاد
عليه التأكيد أن عمليته ستكون غداً صباحاً، فطلب من الطبيب إذناً لمدة ساعة أو ساعتين
ليذهب إلى والديه فيطمئن عليهما ويخبرهما بالعملية، لأنهما شيخان كبيران لا يستطيعان
المجيء إلى المستشفى، لكن الطبيب تردد في السماح له بذلك خوفاً على حياته، مذكّراً
إياه بالانتفاضة الشعبية التي عمّت البلاد مطالبة برحيل "بشار الأسد" الدكتاتور
ابن الدكتاتور على حد تعبير الطبيب الذي حذره
مراراً من عناصر الأمن والقناصة الذين أصبحوا يطلقون الرصاص على الناس عشوائياً
دون تمييز، لكنه أصر على الذهاب برّاً بوالديه، فوافق الطبيب بعد تردد وأوصاه بأخذ
الحيطة والحذر، فهز رأسه وشكر الطبيب، واستقل أول تاكسي وتوجّه إلى بيته في غوطة دمشق،
فلما وصل مدخل بلدته أوقفه حاجز أمن ، وأقبل عليه ضابط برتبة نقيب فطلب منه هويته،
فقدمها له، فنظر فيها الضابط نظرة عجلى ثم دفعها في غضب إلى مساعده، وعاد يحدق في وجه
حسين فلاحظ شحوبه والإرهاق على ملامحه فاتهمه بالمشاركة في المظاهرات ضد النظام، وأمر
عساكره بالقبض عليه، فسارعوا إليه، لكنه تمكن من إخراج صورة التقرير الطبي من جيبه
قبل أن يقيدوه، وقدمه إلى الضابط الذي حدّق في التقرير، ثم أعاده إلى حسين وصرخ فيه
مستنكراً :
- ما هذا ؟!!
أجاب :
- عفواً ... إنه تقرير طبي باللغة
الإنكليزية عن حالتي المرضية ( وسكت برهة، ثم استدرك) غداً موعد عمليتي الجراحية .
هزّ الضابط رأسه متبرماً، وتمتم بكلمات
غير مفهومة، ثم أشار بيده إلى العساكر أن يطلقوه ليمضي، فأطلقوه، فشكر الضابط ومضى
وهو يتلفت خلفه مخافة أن يطلقوا عليه الرصاص، لكنه سمع الضابط يأمرهم :
- عودوا إلى مواقعكم !!!
فاطمأن وتابع طريقه حتى وصل إلى الحي
الذي يقطن فيه والداه، وإذا بالحي قد أمسى خراباً من جراء غارة جوية يبدو أنها وقعت
قبل قليل ، فالنيران مازالت تشتعل ببعض الأبنية، والدخان يرتفع إلى عنان السماء، ووصل
إلى بيته فإذا جزء من طرفه مدمر، ورآه أحد الجيران، فأخبره أن أهله بخير وأنهم نجوا
من الغارة، فحمد الله، وأخبره الجار أنهم ذهبوا إلى "العمة أم صالح" في حيّ
"ركن الدين" فانطلق الى بيت العمة، فلما وصل إلى الدار وجد أخاه "حسن"
خارجاً من الباب، فسأله عن وجهته فأخبره أنه ذاهب إلى المستوصف القريب لإعادة الوالدين
اللذين ذهبا هناك لإحضار بعض الأدوية، فتوجها معاً إلى المستوصف، لكنهما فوجئا بدورية
أمن تعترضهما، وأقبل عليهما ضابط برتبة ملازم
أمرهما بالعودة الى البيت ، فانقلبا راجعين حتى دخلا البيت، وقبل أن يغلقا الباب، مدّ
الضابط قدمه فدفع الباب وأمر جنوده بالدخول، فلما أصبحوا في باحة الدار سارع بعضهم
إلى الأخوين وأمروهما بالانبطاح أرضاً، وصوبوا فوهات البنادق إلى رأسيهما، فحاول حسين
أن يشرح للضابط حالته المرضية، فسارع أحدهم لإسكاته بوضع بسطاره العسكري على صدره وأمره
بالهدوء والتزام الصمت، ولاحظ الضابط محاولة حسين إخراج شيء من جيبه، فانحنى عليه وسأله
بنبرة غاضبة :
- ما لك ؟!! ماذا تريد؟!!
فلم يستطع الجواب لشدة الضغط على صدره،
فأشار الضابط إلى العسكري أن يخفف عنه ، وعاد إلى حسين يسأله بنبرة حادة :
- ما اسمك ؟!!
فأجاب بلسان متهدّج :
- أنا حسين ، وهذا أخي حسن
ومدّ حسين يده إلى جيبه فأخرج صورة
التقرير الطبي وقدمه إلى الضابط لعله يخفف عنه، فنظر الضابط في التقرير وزمّ بين عينيه
وقلب كفيه مشيراً أنه لم يفهم منه شيئاً، فأخبره حسين بمضمون التقرير وأنه ينتظر عملية
جراحية غداً، فأشار الضابط إلى العسكري ليرفع عنه قدمه !!
وبين دهشة الجميع، انحنى الضابط على
حسين فأجلسه باهتمام، وربت على ظهره بحنان يطمئنه، وعندها لاحظ حسين شارة " حزب
الله" على كتف الضابط فأدرك ما دار في رأسه عندما سمع اسم الأخوين، فقد ظنهما
شيعيان مثله فبدأ يتعاطف معهما، وقد تأكد هذا الظن لحسين عندما سمع الضابط يقول له
:
- آسفين أخي حسين، لم نعرف أنكم منا
فاعذرونا !!
فتدخل حسن مستنكراً :
- لسنا منكم، ولستم منا، نحن مسلمون، وأنتم ....
فأسكته حسين بكفه على فمه، بينما انتفض
الضابط غاضباً وصرخ بجنوده أن يفتشوا البيت ، فانطلقوا يكسرون كل ما يصادفون في طريقهم
إلى الداخل، وما هي إلا لحظات انطلقت من الداخل صرخة امرأة لم تلبث أن خرج بها أحدهم
وهو يسحبها من شعرها بعنف، فإذا هي زوجة حسن، حتى إذا أصبحت بين يدي الضابط صوب فوهة مسدسه إلى رأسها آمراً
إياها بالهدوء وإلا قتلها، فهدأت وهي ترتجف، بينما بدأ يتحرش بها ويغازلها بألفاظ فاضحة،
فصرخ فيه حسن أن يتركها واصفاً إياه بالندل، فعاجله أحدهم بضربة عنيفة بعقب البندقية
على رأسه فخرّ على وجهه وبدأ الدم ينفر من رأسه ، وكان الإنهاك قد بلغ من حسين مبلغه
فلما رأى ما أصاب أخاه انهار إلى قربه وراح ينشج بالبكاءوأظلمت الدنيا في عينيه، فلما
أفاق وجد باحة الدار خالية وقد غادرها المسلحون، والتفت فوجد أخاه جثة هامدة إلى جانبه،
وكان غارقاً في بركة من الدماء، فتدفقت في ذاكرته مشاهد من عام ٢٠٠٦ عندما تعرض حزب
الله لهجوم غادر من قبل الصهاينة، وتذكر كيف استقبلت الشام المشردين من أفراد حزب الله
وأهلهم من الشيعة الفارين من طائرات العدو ، وكيف قدم أهل الشام لهم الضيافة والحماية،
ففاضت عيناه وهو يرى اليوم كيف يردّ حزب الله جميل أهل الشام، وكيف يقف الحزب مع الدكتاتور
الذي راح ينكّل بأهل الشام ويدمر المدن بوحشية لا مثيل لها في التاريخ، وفي حمأة الغضب
من فعل الحزب بأخيه وبالبلد وجد نفسه يرفع يديه إلى السماء ويشهد الله على الانتقام
من الغادرين الحاقدين الذين يدفعهم حقدهم الطائفي الى هذا الغدر وهذه الجرائم !!
وفي المساء عاد إلى المستشفى، فقضى
الليل وحيداً يفكر بغدر هؤلاء الحاقدين وقتلهم أخاه واختطاف زوجته، فأجهش يبكي أخاه
الذي أرسل جثته مع الجيران ليواروه، قبل أن
يعود الوالدان فيشهدا الابن القتيل، ثم راح يفكر بالعملية الجراحية التي يحين موعدها
في الصباح ، وتذكر أنه وافق على إجرائها لعلها تخلصه من ذكرياته المؤلمة، وتمسح الحقد
من قلبه على الذين ظلموه، لكنه تذكر ما لاقاه اليوم من أحداث ، وصورة بيته المدمر،
ومشهد أخيه الذي قتل على أيدي ميليشيا حزب الله ، ومشهد زوجة أخيه وهم يتحرشون بها
ثم أخذوهارهينة، وتخيّل ما سوف تتعرض له من تعذيب واغتصاب ومعاناة ففار الدم في عروقه
وراح يكرر قسمه على الانتقام، ووجد نفسه يتراجع عن العملية فلم يعد يريد نسيان كل الذكريات
التي تعرض لها في حياته، ولم يعد راغباً بمعالجة الأحقاد القديمة والأحقاد المتجددة
ضد الذين ظلموه ومازالوا مصرين على ظلمه !!
وفي الصباح صارح طبيبه بتراجعه عن
العملية، فاستنكر الطبيب موقفه، وحاول مجدداً إقناعه بضرورة الجراحة، وهوّن عليه موضوع
الذاكرة التي قد يفقدها، فصارحه حسين أن خوفه من فقدان الذاكرة هو الذي جعله يتراجع
عن العملية، لأن هناك حساباً يريد أن يصفيه مع الذين شوهوا ذكرياته، وصبغوا حياته وحياة
الشام بالسواد، وما زالوا يزيدون سوادها!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق