الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-06-01

حُدودُك يا «إسْرائِيل» منَ «الفُراتِ» إلى «النِّيلِ» - بقلم: د. محمد عناد سليمان

قد يظهرُ من عنوان المقال أنَّه ذو بُعْدٍ سياسيّ، وأنَّنا نخوض في قضيَّة من قضاياه؛ لكن الأمر على خلاف ذلك، وإن كانت السِّياسة حاضرة في جميع مناحي الحياة، ولا تنفصل عنها في أدقِّ تفاصيلها، لا سيَّما الجانب الدِّينيّ منها، وهو ما سنبحث فيه بشيء من الاختصار.

إنَّ الشِّعار الذي يردِّده الكبار والصِّغار في «إسرائيل»: «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النِّيل» مستمدٌّ من شريعتهم الواردة في «التَّوراة»، والتي يعتقدونها اعتقادًا جازمًا، ويحاولون جاهدين في جميع المستويات أن يصلوا إلى تحقيق ذلك الاعتقاد، وإن أفنوا العباد، أو أحرقوا البلاد، وسياستهم المعاصرة التي ينتهجونها لخَيرُ دليل على ذلك.



تنصُّ التَّعاليم «اليهوديَّة» كما في «التَّوراة» على ضرورة إقامة دولة «يهوديَّة» تمتدُّ حدودها كما هو واضح في عنوان المقال من «مصر» إلى «العراق» حاليًا، وهذه التَّعاليم قد وردت كما يزعمون في كتابهم «المقدَّس»، كما في سفر «التَّكوين» 15/18 حيث جاء: «في ذلك اليوم قطع الرَّبُّ مع إبرام ميثاقًا قائلا لنسلكَ أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النَّهر الكبير، نهر الفرات».

ومثله أيضًا ما ورد في سفر «الَّثنية» 11/24 حيث جاء: «تحوَّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريِّين، وكلّ ما يليه من العربة والجبل والسَّهل والجنوب، وساحل البحر، أرض الكنعانيّ ولبنان إلى النَّهر الكبير نهر الفرات». وفيه أيضًا: «كل مكان تدوسُه بطون أقدامكم يكون لكم من البريَّة من النَّهر؛ نهر الفرات إلى البحر الغربيِّ». وفي سفر «يوشع» 1/7: «من البريَّة ولبنان هذا إلى النَّهر الكبير، نهر الفرات، جميع أرض الحثيّين، وإلى البحر الكبير».

وثمَّة مواضع كثيرة قد ورد فيها ذكر نهر «النِّيل» في كتابهم، كما في «تك: 13/10»،
 و«تث:
13/10»، و«إش 19: 1 10»، و«زك: 10/ 11»، وغيرها من المواضع؛ بل إنَّ تعاليمهم تشير إلى أنَّ هذه الأنهار هي من أنهار «الجنَّة» كما في سفر «تك 2: 10 -14» حيث جاء: «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنَّة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس، اسم الواحد فيشون..واسم النَّهر الثَّاني جيجون، واسم النَّهر الثّالث حداقل، والنَّهر الرَّابع الفرات».

ولا شكَّ أنَّ كثيرًا ممَّن يدَّعون أنَّهم من أهل العلم يسارعون إلى القول: إنَّ كتب «اليهود» و«النَّصارى» محرَّفة، وقد دخلها التَّغيير والتَّبديل، ولا يجوز قبولها أو النَّظر إليها، وهم في ذلك إنَّما يدسُّون أنوفهم في التُّراب؛ ظنًّا منهم أنَّ المسألة تكون بذلك قد انتهت، ودحضوا حجَّة القوم، وردُّوا عليهم أجمل ردٍّ.

لكنَّهم في حقيقة الأمر يقعون في أمر هو أشدُّ خطورة، وأعظم افتراء مَّما اجترحته أيدي «اليهود» و«النَّصارى» أنفسهم من التَّبديل والتَّغيير، أي أنَّهم يقعون فيما حذَّروا منه، على جهلٍ منهم، وغالب الظَّن على استخفاف بعقولهم، التي وضعوا سياجًا حولها، ومنعوها من التَّحرُّر من قيود التَّبعيَّة، والتَّعصُّب الأهوج، والانقياد الأعمى لكلِّ ما ورد من تراث «السَّلف» الصَّالح.

إنَّ هؤلاء ممَّن يدَّعون أنَّهم من أهل العلم يكادون يثبتون حقَّ «اليهود» في «فلسطين»؛ بل حقَّهم في أبعد منها، حتى تصل إلى «الفرات»، وإنَّهم بجهلهم وتعطيل عقولهم يجزمون بأنَّ ما ورد في كتب القوم أصل، لا تحريف فيه، فعباراتهم عن صحيح «البخاريّ» أنَّه من أصحِّ ما ورد عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأمر في صحيح «مسلم»؛ بل إنَّ بعضهم قد يبالغ في جعل ما ورد فيهما من «أعلى درجات الصحَّة»، وتراه يتحولَّ إلى ثورٍ هائج، إذا ما أسمعته عبارة: «إنَّ فيها من الإسرائيليَّات»!! بل إنَّ بعضهم قد يفتي باتِّهام القائل بذلك ، بالفسق حينًا، وبالزَّندقة حينًا آخر، وبالتَّكفير حينًا ثالثة، متناسين أنَّهم قد اعتمدوا النَّتائج التي وصلت إليهم، دون العودة إلى أصولها، لمعرفة صحَّتها من عدمها، وهم يظنُّون أنَّهم يحسنون صنعًا في خدمةِ شريعة «محمَّد» صلى الله عليه وسلم، وخدمة «القرآن الكريم»، ولا أظنُّهم إلا أنَّهم وقعوا في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }الكهف: 103 -104. عباراتهم هذه وأمثالها تشير إلى ما وصفناهم به.

ولنثبتَ ما ذكرناه آنفًا، فإنَّ ما يراه القوم من «اليهود»، و«النَّصارى» من أنَّ نهري «الفرات»، و«النِّيل» هما من أنهار «الجنَّة»، واتِّهام بعض من يدَّعي من أهل العلم أنَّهم حرُّفوا كتبهم، نورد حديثًا من صحيح «البخاريّ» /3887/،  و«مسلم» /263/ ممِّن يراه الآخرون قد بلغ من الصِّحَّة ذروتها، وهو قوله فيما يرويه «قتادة» عن «أنس» رضي الله عنهما  أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السّماء السّابعة نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران، ونهران باطنان، قلت: يا جبريل: ما هذا؟ قال: أمَّا الباطنان ففي الجنّة، وأمَّا الظّاهران فالنّيل والفرات».

يظهر من خلال هذا «الحديث» الصَّحيح، أنَّ نهري «النِّيل» و«الفرات» هما من أنهار «الجنَّة»، وهما النَّهران الظَّاهران اللذان رآهما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها ليلة عروجه فيمن ذهب إلى حدوثه، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك براء لقوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}الإسراء93؛ بل إنَّ القاضي «عياض» رحمه الله أكَّد ذلك فقال: «هذا الحديث يدلُّ على أنَّ أصل سدرة المنتهى في الأرض؛ لخروج النّيل والفرات من أصلها».

وليت القاضي وغيره قالوا: إنَّ هذا الحديث وأمثاله مدسوس، وأنَّه من ميراث «الإسرائيليَّات» التي وصلتنا، ودخلت شريعتنا، لأنَّ تتبِّع أصل هذا القول وأمثاله إنَّما جاءنا من «كعب الأحبار» اليهوديّ الأصل. لكن أنَّى لهم أن يقولوا ذلك، وقد رأوا فيما وصلهم الحقيقة المطلقة، والغاية المرادة؟!!

ولم يتوقَّف الأمر عند واقع «الحديث النَّبويّ» فقط؛ة بل نكاد نجده في معظم كتب «التَّفسير» ابتداء من «جامع البيان» لـ«لطَّبري»، وليس انتهاء بـ«الدرُّ المنثور» لـ«لسّيوطيّ»، حيث تضمَّنت كثيرًا من «الإسرائيليَّات» التي يدَّعي القوم أنَّها قد تحرَّفت وبدَّلها أهلها، فإن كان الأمر كذلك، فلمَ توردونها في كتبكم، وتلزمون النَّاس بإثباتها؟!

من ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ، قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}المائدة: 20 -23.

فقد أورد المفسِّرون اختلاف السَّابقين في المراد بالأرض المقدَّسة، على أقوال، فمنهم من يرى أنَّها «الطُّور» وما حوله، وهو قول «ابن عبَّاس»، ومنهم من يرى أنَّها «إيليا»، و«بيت المقدس»، وهو مرويٌّ عن «الضَّحَّاك»، بينما يرى «عكرمة» و «السدِّي» وقول آخر عن «ابن عبَّاس» أنَّها «أريحاء»، و«الكلبيّ» يراها «دمشق»، و«فلسطين»، وبعض «الأردن»، بينما تكون «الشَّام» كلّها عند «قتادة».

بل إنَّ «الطَّبريَّ» في تفسيره يؤكِّد أنَّها ما بين «النِّيل» و«الفرات»، ويرى أنَّه القول الأوْلى بالصَّواب، حيث يقول: «وأولى الأقوال في ذلك بالصَّواب أن يقال: هي الأرض المقدَّسة، كما قال نبيُّ الله موسى صلى الله عليه؛ لأنَّ القول في ذلك بأنَّها أرض دون أرض، لا تدرك حقيقة صحَّته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنَّها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التَّأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك» .

ولنتأمَّل قول «الطَّبريّ» السَّابق، بما فيه من الأمور التي يجب على الباحث أن يقف منها موقف النَّاقد الممحِّص، لا أن يأخذها على عواهنها، لمجرِّد ورودها في تفسيره، ألا يُثبتُ «الطَّبريُّ» بقوله هذا ما ذكرناه آنفًا من الحديث عن نهري «النِّيل» و«الفرات»؟ ألا يدلُّ بوضوح على صحَّة زعم «اليهود» في دعواهم؟ أم أنَّه يجب علينا أن نتجرأ ونقول: إنَّها من «الدّسائس» التي اخترقت ثنايا الكتب، , وأثبتَها بعض من يريد تشويه الدِّين، وإبعاده عن حقيقته وجوهره؟!

لماذا نتهيِّب أن نحكم على قول «كعب الأحبار» الوارد في تفسير هذه الآية وسواها وهي قوله: «وَجَدْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ الشَّام كَنْزُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ  وَبِهَا أَكْثَرُ عِبَادِه»، في ردِّه على «عمر بن الخطَّاب» كما يذكره «ابن عساكر» في «تاريخ دمشق» حيث جاء /222/: «عَنْ قَتَادَةَ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِكَعْبٍ: أَلا تَتَحَوَّلُ إِلَى الْمَدِينَةِ فِيهَا مُهَاجِرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرُهُ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: إِنِّي وَجَدْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَنْزِلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَبِهَا كَنْزُهُ مِنْ عِبَادِهِ». وأورد «البغويُّ» في تفسيره، و«معمر بن راشد» في جامعه /20459/، و«السِّيوطيّ» في «جامع الأحاديث» /28754/.

لماذا نتهيَّب أن نحكم عليه بالدسِّ؟ لماذا لم نسأل أنفسنا: ما هو الكتاب المنزل الذي يعنيه «كعب» نفسه في قوله هذا؟ ألا يشير هذا إلى أنَّ «كعبًا» يريد إثبات حقّ قومه «اليهود» في أرض «الشَّام»؟! ألا يتوافق قوله مع ما جاء في كتاب الصابئة في كنز ربا: «صغيراً أنا بين الملائكة الأثريين طفلاً أنا بين النُّورانيِّيِن ولكني أصبحت عظيماً لأنِّي شربت من ثغر الفرات».

ألا يتطابق ذلك مع «الأحاديث» التي يوردها ويدافع عنها من يدَّعون أنَّهم من أهل العلم؟! منها ما يورده «البخاريُّ» نفسه في صحيحه /7119/، و«مسلم» /2894/،  و«أبو داود» في «سننه» /4313/: «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: يُوشِكُ الفُراتُ أن يَحْسِرَ، عن كنزٍ من ذهبٍ، فمن حضَرَه، فلا يأخُذ منه شيئاً». ومثله في صحيح «ابن حبَّان» /6693/.

وفي «مسلم» وسنن «ابن ماجه» /4046/ وغيرهما نجدُ الرِّواية تتطوَّر ليصبح خروج «الكنز» من علامات «السَّاعة» التي لا يعلمها إلا الله، حيث جاء فيه: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسُرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ تِسْعَةٌ»؛ بل إنَّ «مسلم» يجعل من يُقتل منهم من كلِّ مئة تسعةً وتسعين!

لماذا لا نجزم بالقول أنَّها مدسوسة، وإن كانت برواية «أبي هريرة» رضي الله عنه؟ لماذا نتجاهل وعن عمْدٍ صلة «أبي هريرة» بـ«كعب الأحبار»؟! ألا تدلُّ هذه «الأحاديث» وسواها على صحَّة ما ندعو إليه؟! أم على قلوب أقفالها؟!

لماذا يصرُّ بعض من يدَّعي أنَّه من أهل العلم أنَّ كل ما وصل إلينا صحيح؟ ألم يبيِّن «الطَّبريُّ» نفسه منهجه في الجمع، فجزمَ أنَّه جمع الغثَّ والسَّمين، وترك للباحث والنَّاقد أن يميِّز الصَّحيح من السَّقيم؟! لماذا يحتكر هؤلاء القوم العلم على أنَّه الحقيقة المطلقة التي لا يأيتها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ ألا يعلمون أنَّهم بفعلهم هذا يحرِّفون الدِّين، ويغلقون أبواب البحث والعلم؟ أمَّ أنَّه لا علم إلا علمهم، ولا عقل إلا عقلهم؟!

د. محمد عناد سليمان
31 / 5 / 2014م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق