من
عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ
رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ
الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين
للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى
التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله
عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ
أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة
النساء(2)
[ الآيات 105- 109 ]
( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105)
وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن
كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ
مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
* * *
ما
أعظمك يا رب؟!! وما أعظم تربيتك للمسلمين، تأمرهم أن ينصفوا أعداءهم وأعداؤهم
يتربصون بهم الدوائر!! ويحيكون لهم المؤامرات ويمكرون بهم، تُعلمُنا أن نعدل بين
الناس، فنحفظ حقوقهم، وهم يريدون لنا الموت الزؤام، ويرسمون الخطط للإيقاع
بالمسلمين، فينشرون الأكاذيب، ويؤلبون المشركين، ويشجعون المنافقين، ويطلقون
الإشاعات حول النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحاولون
تفسيخ المجتمع الإسلامي.
في
ظل هذا المكر الشديد من اليهود نزلت آية تنصف يهودياً اتُّهم ظلماً بسرقة، وتدين
الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة، والأنصار يومئذٍ عُدَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ،
وجُنْدُهُ في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة.
لقد
شرّف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعظّمه
حين فوض إليه الحكم بين المسلمين واليهود..
ثلاثة
إخوة من الأنصار بشر وبشير ومبشر وابن عم لهم يسرقون سلاحاً وطعاماً لرفاعة بن زيد
أحد المسلمين في المدينة، فلما اتهمهم وأثبت ذلك طرح بشيرٌ السلاحَ في بئرٍ لأحد
اليهود، واسمه زيد بن السمين، وأخذت منه (من بئره) وبرّأ الرسول ساحة بشر، والتصقت
التهمة بزيدٍ هذا،
ولكن
الله تعالى أراد أن يعلم رسوله والمسلمين من ورائه،
أن
هذا الدين لا يحابي أحداً من أتباعه على حساب الآخرين، ولو كان من أعدائه.. فالحق
حق، أما القرابة والمصلحة، والمتابعة في الرأي والدين فلا مكان لها أمام الحق
والعدل، وإلَّا كان المسلمون كغيرهم، لا يفترقون عنهم في صغير ولا كبير.
كشف
الله المستور، وعرَّف نبيه ما فعله بشرٌ وأخواه وبرّأ اليهوديَّ، فهرب بشر إلى مكة
ثم إلى خيبر مرتداً ومات كافراً..
وظلت
الآية تُتْلى، وتظلُّ تتلى إلى يوم القيامة دليلاً على إنصاف الإسلام والمسلمين،
ودليلاً على حُبِّهم للحق والعدل مهما كان صاحبه صديقاً أو عدواً، فالعبرة للمبدأ لا
للمصلحة، وللقيم لا للأهواء، والهدى لا للضلالة.
وتُعلِّمنا
الآيات التي نزلت بهذا الخصوص أموراً كثيرة منها.
1-
أن الله شرَّف رسوله بالرسالة والدين
القويم ليحكم بالحق، ويقيم العدل.
2-
أن لا ندافع عن الخائنين مهما كانوا، فالحق أولى أن نتبعه.
3-
أن نستغفر الله، فالإنسان لضعفه قد يتصرف بما لا يلائم ما يحمل من قيم ومبادئ، وقد
يتبع هواه لحظة ثم ينتبه إلى خطئه فيعمل على إصلاحه ويطلب المغفرة من الله، والله
أهل للمغفرة.
4-
أنه كان على هؤلاء الذين أخطأوا أن يعدلوا إلى الحقّ فور إحساسهم بالذنب، وأن لا
يتمادوا في باطلهم، إن كانوا مؤمنين، والمؤمن لا يقنط من رحمة الله بل يلجأ إليه
منيباً تائباً.
5-
أن الخائن ليس من المسلمين وليسوا منه، إذ الغش والإفساد ليس من سمة المسلمين.
6-
أن المؤمن يشعر دائماً بمعية الله فهو يراه ويراقبه فلا يعصيه، وما أجمل وصية
لقمان لابنه: (يا بني اعص الله في مكان لا يراك فيه)، أما الذين يستخفون من الناس
ولا يستخفون من الله فهناك دخل في إيمانهم، ينبغي أن يصفّوا
من هذا الدخل.
7-
أن تكون سريرة المؤمن كعلانيته، فمن أحس بمعصية الله كان مع الناس واضحاً لأنه
يرضي الله بذلك ويرغب في مثوبته.
8-
أن العقاب في الدنيا زائل بزوالها، أما العقاب في الآخرة فإنه كبير ودائم- إن لم
يعف الله تعالى ويغفر- ولا جرم أن المؤمن يرضى بالعقوبة الزائلة عن العقوبة الدائمة.
9-
أن إيذاء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والإِرصاد
له لا يمنعه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالعدل
بينهم لأنه رُبِّيَ على عين الله ورعايته فزكَّاه
الله عقلاً وقلباً وجسماً ومدح خُلُقَهُ فقال : ( وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
(1).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق