من
عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ
رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ
الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين
للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى
التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله
عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ
أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة
آل عمران(1)
الآيات 23- 25
( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ
إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
* * *
قال ابن عباس: نزلت الآية الأولى بسبب أن النبي
صلى الله عليه وسلم دخل بيتاً فيه جماعة من
يهود، فدعاهم إلى الله، وهكذا يفعل الدعاة في كل مكان ينزلونه لأنهم هداة إلى الله
يدفعون الناس إلى طاعته في الدنيا، وجنته في الآخرة،
فقال
له أحدهم: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "إنّي على ملة إبراهيم " فقال اليهودي مجادلاً: إن
إبراهيم كان يهودياً..
ونسي أو تناسى أن دين اليهود على ملة موسى
وشرع موسى، وبينه وبين إبراهيم عليهما السلام مئات القرون؟! إن هذا افتئات وادعاءٌ
لا لبس فيه، علمه رسول الله فرمى الكرة في هدفهم إذ قال عليه الصلاة والسلام:
"فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم "، لكنهم لجهالتهم وسوء طويتهم-
وأقصد الجالسين جميعاً- أبَوا أن يعودوا إلى التوراة.. ألا ترون الأمر عجيباً أنه-
صلى الله عليه وسلم- لم يدْعُهم إلى القرآن ابتداءً،
فهم كافرون به لا يحتكمون إليه، فاختصر رسول الله صلى
الله عليه وسلم الموقف ودعاهم إلى توراتهم، ففيها أن إبراهيم لم يكن يهودياً،
وأنهم يرون في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد جادلوا حُبَّاً في الجدال، وأنكروا
رغبة في الإِنكار، لم يكن البحث عن الحقيقة رائدَهم ولا التماسُ الحق هدفَهم، فهم
يعرفون الحق ولا يريدونه.
(أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ.. ) سؤال
التعجيب والتشهير من الموقف المتناقض الغريب، موقفِ الذين أُوتوا الكتاب الذي أُنْزِلَ
على موسى، وهو نصيب من الكتاب، باعتبار كتاب الله هو كلَّ ما أنزَلَ على رُسُله،
وقرَّر فيه وحدة ألوهيته وربوبيته، فهو كتابٌ واحد في حقيقته، أُوتِيَ اليهود نصيباً
منه والنصارى نصيباً منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعاً لأصول
دين الله الواحد.
تعجبٌ من الذين لا يحتكمون إلى شريعتهم ويدّعون
أنهم ينتمون إليها!! يُعرضون عنها بأفعالهم على الرغم من تخرصاتهم بأنهم يؤمنون
بها.
وهنا لا بد لنا أن نتعجب أكثر من الذين يدَّعون
الإسلام ثم يُخْرِجونَ شريعة الله من حياتهم ويَظلون يزعمون أنهم مسلمون.
فهذا المثل الذي ضربه الله في اليهود وتعجب
منهم ووبخهم فيه، ينطبق تمام الانطباق على مسلمي القول، كافري الفعل، فالنورُ بل
الضياء في كتابهم، وقرآنهم مَلَكَ القلوب وملأ الآفاق، فالعجبُ منهم أشدُّ من
العجب من اليهود.
"وذلك
بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلَّا اياماً معدودات ".
ويزداد
العجب من يهود، أنهم يُصرُّون على عدم الاحتكام إلى شريعة موسى، وأن الله حين
يعذبهم يكتفي أن يدخلهم النارَ أياماً معدودات ثم يعفو عنهم ويدخلهم جنته ونتساءل
هنا:
1 -
هل أخذوا عهداً من الله أن لا يعذبهم إلَّا أياماً قليلة أم إنه افتراء !!؟
2- وهل يصبر هؤلاء على عذاب هذه المدة، بل على
ساعةٍ من عذابٍ بلهَ على لحظةٍ من عذاب النار؟! بلهَ على الاقتراب منها وهي تغلي
وتفور، وتأكل مَن فيها وتقول: هل من مزيد؟ بل على النظر إليها دون أن يذوبوا كمداً
وحسرةً ويحترقوا بشواظها قبل الوصول إليها؟!! كفرعجيب.
3- ولماذا لا يحتكمون إلى الله إن كانوا موقنين بعدله
حقاً؟!!
4 - ولماذا ينحرفون أصلاً عن حقيقة الدين؟ وما يفعل
ذلك إلا الذين ملكَتْهم شهواتُهم وأضاعوا عقلهم وعاشوا كالأنعام، بل كانوا أضل
سبيلاً..
إنهم
ما يقولون هذا إلا افتراءً وضلالاً، فهم غير جادين في إيمانهم، يدَّعونه.
والقولُ
نفسه نقوله للمسلمين الذين يدَّعون الإسلام ويزعمون أنهم مسلمون.
"
وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون..".
قاعدة
عظيمة يسوقها القرآن الكريم: لا يجتمع في قلب واحد[ الخوفُ من الآخرة والحياءُ من
الله] ، و [ الإعراضُ عن شرع الله والتبجحُ والوقاحة]، (
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ
فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) (1) وأعتقد أن هذا التهديد وإن كان يُقصد به هؤلاء
المفترون الجاحدون إلا أنه تقريرٌ لحالهم وبيانٌ لنهايتهم، فهو سواء هُددوا أم لم يُهدّدوا
لن يؤثر في مجرى حياتهم، فقد طُبِع على قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يشعرون. وهو
تهديد وتنبيه للعاقلين أن لا يزلوا في مستنقع تحكيم الشهوات وإيثار الهوى.
سورة آل عمران(2)
[ الآيات 59-
61]
المباهلة:
الملاعنة، والاجتهاد في الدعاء :
( إِنَّ مَثَلَ
عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
(61)
قد ينساق الإنسان وراء فكرة فتملك عليه
لبه، وينافح عنها ويتخذها عقيدة.. وإلى هنا لا يوجد ضررٌ كبيرٌ من ذلك، إلَّا إذا
كانت عقيدة، ينتج عنها مواقف تمسُّ الدين والمبدأ، وتخالف المألوف، وتعاكس المنطق
والعقل.. إذ ذاك يجب توضيح الأمر، وبسط القول فيه، ليعود الإنسان
إلى صوابه، فإن توضح له الحق وعرف أنه كان على
خطأ وجب عليه العودة إليه، والفَيْءُ إلى جادة الصواب، فإنْ فعل، عفا الله عمّا
مضى وبدأت صفحة جديدة مضيئة تجُبُّ ما قبلها.. وانْ ركب الإنسان رأسه بعدما ظهر الحق، فهنا الطامة
الكبرى.
فحين
زار رفد نصارى نجران مدينةَ النبي صلى الله عليه وسلم،
قابلوه عليه الصلاة والسلام، وحادثوه، وحين قال في حق عيسى عليه السلام: " إن
عيسى عبد الله وكلمته، أنكروا عليه ذلك، فعيسى لا أب له، وهو بذلك، على حد زعمهم،
ليس كالبشر وانْ خرج من بطن امرأة وما دام عيسى كلمةَ الله، فهو- حاشاه- ابنه، وحسبوا
أنهم على حق وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
غَمَطَ أخاه عيسى حقه، فبدؤوه قائلين: أرنا عبداً خلق من غير أب؟!. . سبحان الله..
وهو
القادر على كل شيء.. كان سؤالهم هذا محرجاً.. نعم محرجاً لهم، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أجابهم بسؤال أشد وقعاً على
نفوسهم من النبال.. قال لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "آدم من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى لا أب له؟! فآدم ليس له أب
ولا أم".
إنَّ على عقولهم القاصرة التي اعتقدت أن
عيسى ابن الله لكونه لا أب له، أن يجعلوا من آدم عليه السلام إلهاً - والعياذ
بالله- فلا أب له ولا أم.. ولم يهتدوا إلى أن الله إذا أراد شيئاً قال له كن،
فيكون.
وذلك
قوله تعالى: "ولا يأتونك بمثل- أي عيسى- إلا جئناك بالحق- أي آدم- وأحسن
تفسيراً".
بُهِتَ
القوم فما حاروا جواباً.. وأنَّى لدعاة الباطل أن ينطقوا إذا تجلى صوتُ الحق..
وهذه طريقة "الذكر الحكيم " في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري البسيط في
أعقد القضايا.. هكذا وبسرعة وبساطة تتجلى حقيقة عيسى وحقيقة آدم.. كيف ثار الجدل
حول عيسى؟ وهو جَارٍ وفق السنةِ
الكبرى
في يسرٍ ووضوحٍ؟! سنة الخلق والنشأة جميعاً؟!!
إنها النفخة الإلهية، والروح الإلهي، والأمر
الإلهي لكلا النبيَّيْن سلام الله عليهما، فلا شبهات، ولا تلبيس، ولا ضلالات..
وحين دعاهم صلوات الله وسلامه عليه إلى
الإسلام قالوا متبجحين: قد كنا قبلك مسلمين.. أيُّ صفاقة هذه؟ أليس في إنجيلكم صفة
النبي صلى الله عليه وسلم وكنتم- معشر
يهود- تنتظرونه لتؤمنوا به؟ ها هو قد جاء، وعرفه سيدكم وكبيركم - العاقب-.
فما
كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن
جابههم مؤكداً ضلالهم:
"
كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث:
ا-
قولكم اتخذَ اللهُ ولداً.
2-
وأَكْلَكُمُ الخنزيرَ.
3-
وسُجُودُكم للصليب".
ومن
الافتراء على الله أن يولد له ولدٌ، وأن يقتله اليهود، وأن يرضى بما فعلوه دون أن
يدافع عن ولده.. حاشاه فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وتعجبني
هذه الأبياتُ :
عجباً
للمسيحِ بينَ النصارى
والى اللهِ
والداً نسبوهُ
أسْلَموه
إلى اليهودِ وقالوا
إنَّهم
بعد قَتْلِهِ صلبُوهُ
فإذا
كانَ ما يقولون حقاً
فسلوهم وأين
كان أبوهُ؟
فإذا
كان راضياً بقضاهم
فاشكروهم لأجلِ
ما صنعوهُ
وإذا
كان ساخطاً بقضاهم
فاعبدوهم لأنَّهم
غَلبُوهُ
وما زال الناس حتى يومنا هذا يجادلون في
الخنزير، وهو بذاته مُنَفِّر للطبع القويم، وقد حرَّمه الله تعالى قبل أن يكشف
العلم الحديث أن في دمه ولحمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة (الدودة الشريطية)، وأنه
يأكل القاذوراتِ والفضلات الآدميةَ، وأنه دُيوث، إن أراد مواقعةَ أُنْثَاهُ دَعَا
كلَّ
الخنازير إليها فإن فرغت منها أتاها.
وقد أثبت الطبُّ أن الإنسان يتأثر بلحم ما
يأكله سلباً وإيجاباً.
وهذا الصليب يعلق على صدور النصارى ويُتبارك
به وهو علم على كنائسهم وشعار لأعلامهم، وكأن الرائي يحسب أنهم فرحون بصلبه، وهو
لم يصلب وسيكسر الصليب، ويُقاتل أهله، ويحكم بشريعة الإسلام آخر الزمان.
ولعلم
الله تعالى أن النصارى مُجادلون مُمارون، طلب إلى رسوله صلى
الله عليه وسلم أن يتجنب المماراة، وما كان صلى
الله عليه وسلم ممترياً ولا شاكاً فيما يتلوه عن ربه في لحظة من لحظات حياته،
وإنما هو التثبيت على الحق للرسول ولأمته من بعده.
ولكي ينهي القرآن الكريم الجدلَ والمناظرةَ حول هذه
القضية، أمر اللهُ فيه الرسول الكريم أن يدعو النصارى إلى المباهلة، فيجمعَ
الطرفان أبناءهم ونساءهم، ويقفا متقابلَيْن.. جمع النصارى أمام آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، إن كان النصارى موقنين بصدق
دعواهم وهم ليسوا كذلك.. فيجأر الجميع بالدعوة إلى الله أن يحفظ الفريق الصادق، ويبيد
الكاذبين.. فريق المشركين الضالين الذين أساءوا إلى الذات الإلهية، فوصفوها بالضعف
حيث أحاجوها إلى ولدٍ يعضد أباه ويساعده.وفريق المؤمنين الذين يعرفون حق المعرفة
ربَّهم بأسمائه الحسنى وصفاته العظمى. وحين أَزِفَ موعد المباهلة ورأى المشركون
أنهم قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، وأن الوادي سيضطرم عليهم ناراً، فمحمدٌ
نبي
مرسل، هكذا اعترف أحبارهم، وأنه قد جاء بالفصل في أمر عيسى تركوا المباهلة، ورضوا
أن يَسلموا في الدنيا، ويسلمَ لأحبارهم جاهُهم وسلطانهم، ولو كانوا في الآخرة حطبَ
جهنم.. رضوا بالسلامة في الدنيا على أن يدفعوا لرسول الله الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وهذا دأب المشركين،
فهم حين يحاربون المسلمين ينفسون عليهم إيمانهم لأنه نور يهدي إلى الدرب القويم، وينفسون
عليهم طمأنينتهم وهدوءهم لأنها نتاج التسليم إلى الله.. وهم حين يحاربون المسلمين
يدافعون عن سلطانهم ومصالحهم الدنيوية ومطامعهم وأهوائهم.
· · ·
سورة
آل عمران (3)
[ الآية 72 ]
( وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
إنَّ الحربَ غيرَ المعلنة أشد وقعاً من الحرب المعلنة،
والكيد العملي غير المصادم أشد إيذاءً من المجابهة الصدامية.
لقد لجأ اليهود الذين رأوا ازدياد عدد
المسلمين وشدة تمسكهم بدينهم وحبهم لله ورسوله إلى طريقة ماكرة لئيمة، فأمروا
سفلتهم بإظهار الإيمان ثم الرجوع عنه.. مما يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول، وغير المتثبتين
من حقيقة دينهم وطبيعته في بلبلة واضطراب، وبخاصة العرب الأميين الذين يظنون أن
أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب، فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدَّون حسبوا
أن ارتدادهم بسبب اطلاعهم على خبيئةٍ ونقصٍ في هذا الدين، فتأرجحوا ودخل الشك في
قلوبهم، فلم يخلصوا لهذا الدين، وكانوا منه على حَرْفٍ، وهؤلاء يعتبرون عبئاً على
الدين فلا هم أعداؤه ولا هم منه.
يقول
سيد، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، في الظلال، الجزء الأول، ص 415-416:
"ما
تزال هذه الخدعة تُتَّخَذُ حتى اليوم في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات
والناس في كل جيل، ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت
القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.
أن
لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشاً جراراً من العملاء، في صور
أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين، وأحياناً كتاباً وشعراء وفنانين وصحفيين، يحملون
أسماء المسلمين لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة، وبعضهم من "علماء"
المسلمين.
هذا
الجيش من العملاء مُوجَّه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث
وعلم وأدب وفنٍّ وصحافة، وتوهين قواعدها من الأساس، والتهوين من شأن العقيدة
والشريعة سواء، وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتواصل على"رجعيتها،
وتطُّرفها وتزمتها" والدعوة إلى التفلت منها، وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقاً
عليها من الحياة أو إشفاقاً على الحياة منها، وابتداع تصورات ومُثل وقواعد للشعور
والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها، وتزيينِ تلك التصورات المبتدعة بقدر
تشويه التصورات والمثل الإيمانية وإطلاق الشهوات من عقالها، وسحق القاعدة الخُلقية
التي تستوي على العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً: ويشوّهون
التاريخ كُلَّه ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟!
وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار وبهذه المحاولات المجرمة
يكفرون آخره..
ويؤدون
بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم، لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور
القديم.
وكأن
أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض، تظاهروا بالإسلام أول النهار، واكفروا آخره لعل
المسلمين يرجعون عن دينهم، وليكن هذا سراً بينكم لا تبدونه، ولا تأتمنون عليه إلا
أهل دينكم.. ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق