يتميز الدين الإسلامي وشريعته وقيمه ومبادئه عن
باقي الأديان السماوية والقيم الدنيوية بكونه دين حركي يتفاعل مع كل متطلبات
الحياة حتى تتكامل مع حاجات الإنسان وضروراته لاستكمال مهمتي البناء والإستخلاف
وفق صيغة ربانية يتحرك خلالها الإنسان في حركة بنّاءة تتّسم بالإيجابية والخيرية
التي تُشكّل مجتمعاً صلبا تجاه أي انحراف أو انصراف عن مراد الله تعالى فتصل بذلك
لمنزلة الشهود الحضاري وتحقّق وظيفة الإستخلاف في الأرض . إذن فدين الإسلام دين
حركة لا دين جمود كما أشاع الغرب عن مفهوم الدين والتدين, فهو دين يسعى للتمكّن
والتمكين (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف
الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ..), وهو دين ينهض بالسلوك
البشري ويُصفّي النفوس ويرفع الهمم وينشر العدل والحق والرحمة والخير والإحسان
والجمال, وبهذا تنتقل الأمة من عالم الجمود لعالم الشهود. ويلاحظ كل مراقب أن
أمّتنا اليوم هي أمّة موجودة لكنّها ليست حاضرة وفق تعبير الشيخ الدكتور عصام
البشير, فالشيخ يُفرّق بين أن تكون موجودا وبين أن تكون حاضراً, فالحضور يعني الفاعلية
والمبادرة والأخذ بزمام الأمور وأن لا تكون في منطقة الضغط المنخفض وفي القاع
الحضاري.
إنّ الأمة الإسلامية لن تستطيع أن تستأنف مشروع الإستخلاف والشهود الحضاري سوى بالحركية التي تشهد به على نفسها أولا بهذه القيم الحضارية. ومن أهم تلك القيم الحضارية والتي شابها الكثير من اللبس (الجهاد), وأول ما يتبادر للذهن عند سماع هذه الكلمة –الجهاد- هو مناظر السيوف والدماء والقتل والحروب, ولكنّك إن جلست تُحللّه وتُفكّكه على حقيقته وتعود لأصله الأصيل في الدين الإسلامي فإنّك ستجد نفسك أمام مبدأ راقٍ من مبادئ الإسلام العظيم ومظهر مُشرق من مظاهر الحركة في الإسلام والذي بدوره يصوغ المسلم المعطاء والمُنتج والذي يجعل حياته في خدمة الآخرين.
إنّ بين مفهوم الحركية والتفاعلية في الإسلام وبين
شهر الخيرية والعطاء شهر رمضان مُشتركات كثيرة تجعل من هذا الشهر الفضيل من كل عام
مدرسة الحركة والتفاعل ومنبراً مهماً لممارسة الإحسان والتضحية فيصير المسلم بعده
قادراً على حمل الامانة بقوة, وليس أدّل على هذا الإرتباط الوثيق من المعاني
التالية:
1-
الجهاد
الداخلي: فالمسلم مأمور بمجابهة مظاهر الضعف والنقص ومراقبة نفسه على الدوام وتأمل
حاله ومعاينة تصرفاته, فهو في حركة للحراسة الداخلية الشخصية لا تتوقف,
وهو ما أراد الله تعالى بيانه في ختام سورة العنكبوت: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا وإن الله لمع المحسنين), ويأتي رمضان لإذكاء هذه الروح وبثّها في نفوس
الصائمين فتجد المسلم أقرب لهذا المعنى من أي شهر آخر, فتراه دائم التفكر والمراقبة,
يُحيط نفسه بحبل ربّاني لا ينفك عنه بحال, يتوب إلى الله تعالى مرّات ومرأت وذلك
حتى يبقى كما أراد الله له أن يكون نموذجا رسالياً فعّالاً يدور مع الحق حيث دار, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
ألا إن رحى الإسلام دائرة ، فدوروا مع الإسلام حيث دار...).
2-
جهاد الدنيا والحياة: والمسلم يتحرّك أيضاً في ميدان
الإنتاج لتوفير سبل حياة كريمة وفق نظام عملي يسعى لرخاء المجتمع والأمة من خلال
عمليات كثيرة, أهمها عملية التكافل الإجتماعي بحيث تكون الأمة كلّها جامعة لكل فرد
من أفرادها في نطاق الأخوة والتضامن, فيأتي رمضان كي يُرسّخ هذه المعاني التكافلية
لتوفير بيئة تتحرك وفق ما يستدعيه الواقع من تطورات, فترى الأمة تتسارع لكفالة
يتيم و إفطار صائم ودعم مشروع تنموي وإغاثة ملهوف وبذل المال في سبيل الله,
فالمسلمون حينذاك في حركة خيرية لا تتوقف. بل إنّ مفهوم التكافل يتعدّى الناحية
المادية ليكون تكافلاً إيمانياً يدعوا للبر وينهى عن المنكر ويتناصح مع عامة
المسلمين. هذا التضافر والتكافل والتعاون
في مسيرة واحدة يرسم خط الإسلام في تعبيد الناس لله الواحد. إن مدرسة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليست مدرسة فكرية أو فلسفية فقط ولا هي مدرسة تعتزل الناس في
زاوية من الزوايا أو ركن من أركان المساجد, ولا هي نصوص جامدة أو قيم متحجّرة, بل
هي مدرسة الحركة والتفاعل, تدرك ما يجري حولها, وتعيش هموم الناس وتعمل ليل نهار
للتغيير والإصلاح. أو لم يغضب سول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين جيء برجل أتى جبلاً
يتعبد فيه ، وقال له : ( لا تفعل أنت ولا أحد منكم ، لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام
خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عامًا ) ؟
3-
الجهاد العسكري: وهو ثابت بالضرورة الإنسانية والشرعية,
فالإسلام دين القوة كما هو دين الرحمة, ودين الحركة والعنفوان كما هو دين الأخلاق
وكرامة الإنسان, يرفض رفضاً تاماً أن يستسلم المسلم لغير الله تعالى, فيقف في وجه
الظلم والفساد والطغيان والإنحرافات. فكل ما يُعرّض حرية الإنسان وكرامته للإنحطاط
يُقاوم بالجهاد الحق, بالنفس والمال والكلمة والفكرة, وذلك من خلال مجموعة مؤمنة
تُضحّي بملذّات الدنيا من أجل ثواب الدنيا والآخرة معاً, ولا يكون ذلك إلا من خلال
التنظيم, فكم من طاقات تهدر وتضيع في غياب التنظيم والترتيب والإعداد, وهذا
التنظيم يحتاج إلى قيادة ومنهج وجندية, وذلك كلّه بحاجة لحركة دؤوبة ورص للصفوف
وإيمان وثيق كالجبال, يقول الله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا
كأنهم بنيان مرصوص) فهم في حركة وإيمان وفق منهج (في سبيله). ثم يأتي رمضان – شهر
الجهاد - مرة في كل عام ليؤكد لنا هذه
القيمة الإسلامية الرصينة, ويذكّرنا بأعظم معركتين في حياة الرسول صلى الله عليه
وسلم: بدر وفتح مكة, وكذلك الحال عند سلف الأمة الذين فتحوا البلاد وأزالوا
الظلمات وتحرّروا من لهيب الطغيان والإستبداد, فيجمع الناس في رمضان بين الإنعتاق
من الشهوات الدنيوية والإنعتاق من الظلم والظالمين. إنّ صيام المسلم وامتناعه عن
المباحات في نهار رمضان ومراقبته لنفسه على الدوام ومحاولة اتّصاله بالله من غير
انقطاع يزرع في العقلية المسلمة مفهوم الجهاد والمجاهدة ويُساهم في صياغة الروح
التي تتحرك وفق مبتغى الشريعة. وعندما يُعايش المسلم الصائم مع إخوانه ساعات السحر
وصلوات القيام وأوقات الإفطار يشعر حينها بالتبعية لهذه الأمة وجنديته في الجماعة
الكبرى وانتظامه في صف الزمرة المؤمنة, فيتحرك معهم كأنّهم موجٌ هائل يقذف بالحق على
الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
رمضان مدرسة الحركة والحركيين
بدون منازع, والجهاد في سبيل الله منهاج هذه المدرسة الذي يضمن الحياة الكريمة
السعيدة القوية, يقول تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لله ورسوله إذا دعاكم لما
يحييكم), وما أحوج الأمة اليوم لهذا الإحياء الذي سيُجدّد في نفوس المسلمين روح
العزة والكرامة, إنّ هذا الأحياء عليه أن يُوازن بين النظرية والحركية, والإنتقال
من المفهوم والفكرة إلى التفعيل والحركة, يقول الاستاذ سيد قطب:"لا يصح نمو حركي
اكبر من النظري ولا نظري اكبر من الحركي ولابد للمسارين من التلازم", وإنّني
على ثقة كبيرة بأنّ شهر التمحيص والتغيير لمن أخلص فيه التوجه إلى الله لأكبر معين
على إدراك مفهوم الحركية في الإسلام.
فداء الدين السيد عيسى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق