ومن
عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ
رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ
الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين
للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى
التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله
عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ
أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة
البقرة(1)
ٍِ[الآيات 104- 108]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا
تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا
رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(108).
تذكر الروايات أن السبب في نهي الله تعالى
المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم
"راعنا"، أن اليهود كانوا يُميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ وهم يوجهونه
للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى يؤدي معنى
آخر مشتقاً من الرعونة والطيش، فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة فيحتالون في سبه- صلوات
الله عليه وسلامه- عن هذا الطريق الملتوي الذي لا يسلكه إلاّ صغار السفهاء، ومن ثم
جاء النهيُ للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهودُ ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به
مرادفه في المعنى" انظرنا"، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته فيفوّتون
على اليهود غرضهم الدنيء، الذي يدل على مدى غيظهم وحقدهم ويشي بسوء أدبهم وخِسّة
وسيلتهم وانحطاط سلوكهم.
والنهيُ
الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله تعالى لنبيه وللجماعة المسلمة ودفاعه-
سبحانه- عن أوليائه من كل كيد وقصدٍ شرّير من أعدائهم الماكرين، فقد اختص الله
تعالى المسلمين بفضل عظيم هو الإيمان به والعمل في سبيله ونشر شريعته فامتلأتْ
صدورُ اليهود بالحقد عليهم والعداء لهم، فليحذروا أعداءهم وليتمسكوا بما يحسدهم
عليه هؤلاء الأعداء من الإيمان وليشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه.
ويجمع القرآنُ بين أهل الكتاب والمشركين في
الكفر، وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة، فهما على قَدَمٍ سواء من هذه الناحية، وكلاهُما
يُضمر للمؤمنين الحقد والضغينة ولا يود لهم الخير، وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو
هذا الدين وأن يختارهم الله لهذا الخير، وينزل عليهم هذا القرآن، ويَحْبُوهم بهذه النعمة،
ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض، وهي الأمانة الكبرى في الوجود، ونرى اليهود لخبثهم
ودهائهم يشكِّكون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ويشكِّكون بقبول الله تعالى لصلاتهم
وعبادتهم قائلين: هذا نبيكم فرض عليكم الصلاة
إلى المسجد الأقصى سنةً ونصف السنة أو أكثر ثم رأى أن تتجهوا إلى مكة حيث البيت الحرام،
فلعل صلاتكم السابقة إلى القدس غيرُ مقبولة. وقد رأى محمدٌ - متردداً- أن يحصرها أخيراً
في المسجد الحرام فها أنتم معشر المسلمين ضيّعتم زمناً من عمركم في صلاتكم إلى المسجد
الأقصى.
ويبدو أن هذه الحملة الخبيثة آتتْ ثمرتها الكريهة
في نفوس بعض المسلمين، فأخذوا يسالون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلق وزعزعة،
ويطلبون الأدلة والبراهين، الأمر الذي لا يتفق مع الطمأنينة المطلقة إلى القيادة، والثقة
المطلقة
بمصدر
العقيدة، فنزل القرآن يبين لهم أن نسخ بعض الأوامر والآيات يتبع حكمة الله الذي يختار
الأحسن لعباده، ويعلم ما يصح لهم في كل موقف، ويبين لهم أن هدف المرجفين من اليهود
ردّهم عن دينهم إن استطاعوا .
ويحرك
الله تعالى نفوس المؤمنين وقلوبهم للاتجاه في الطريق الصحيح الذي يُرضي الله تعالى وهو الإذعان لأوامر الله وعدم إزعاج
رسوله الكريم بكثرة الأسئلة التي اتسم اليهود بالإكثار منها لرسول الله موسى : "أم
تريدون أن تسألوا رسولكم كما سنل موسى من قبل " ؟
فهو
استنكارٌ لتشبّه بعض المؤمنين بقوم مرسى في تعنتهم، وطلبهم للبراهين والخوارق، وإعناتِهم
لرسولهم كلما أمرهم بأمر أو كلفهم بتكليف،
على نحو ما حكى القرآن عنهم في مواقفَ كثيرة.
فكثرةُ
القيل والقال والإلحافُ بالسؤال يبدل الإيمان كفراً وهو الضلال البعيد "ومن يتبدل
الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ". وما أشده من تحذيرٍ، وما أسوأ الضلال
من نهاية، هده النهاية التي صار إلها بنو إسرائيل، نسال الله تعالى الهدى والعافية
سورة
البقرة(2)
[ الآيات 146- 147]
( الَّذِينَ
آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
معرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة، وهي مثل
يُضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه .
وروي
أن عمرَ رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمداً صلى الله عليه وسلم
كما تعرف ابنك؟ قال: نعم، وأكثر .
بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنَعْته،
فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه.
فإذا
كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكذبونه؟!
ولم يكتمون الحق الذي جاء به
وهم
يعلمون صِدقه وصدق ما جاء به، فلئن أمرهم أن يجعلوا قبلتهم الأولى القدسَ لقد صدق فيما
أمره به ربُّه ولئن أعادهم إلى القِبلة الثانية لقد صدق فيما أمره به ربه، بقي على
المسلمين أن يعرفوا الحكمة من ذلك : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ) (1)
.
فالتوجه إلى القبلة الأولى- المسجد الأقصى- كان
اختباراً لإيمان المسلمين من العرب! الذين لا يرضَون عن المسجد الحرام بديلاً إلَّاّ
إذا أخلصوا دينهم لله، فإنْ فعلوا ذلك نجحوا في الاختبار وصاروا أهلاً لحمل دينه ونشره
في بقاع الأرض، واللهُ تعالى يعرف إخلاصهم قبل أن يختبرهم فهو يعلم السر وأخفى، ولكنه
تعالى يريد أن يظهر المكنون من الناس حتى يحاسبهم عليه ويأخذهم به . فهو - لرحمته
بهم- لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم بلْ على ما يصدر منهم بالفعل.
ولن
يستطع الانسلاخ من الرواسب الشعورية إلاّ المخلصُ في عبوديته لله، المنصهر في دعوته..
وقد نجح المسلمون في هذا الاختبار فأعيدوا إلى قبلتهم الأولى ليس لأنها الأولى،
إنما لأنها الرمز الجديد والقبلة الجديدة لهذا الدين العظيم.
إذاً
فالحق من الله . والمؤمن لا يمتري ولا يجادل فيما يأمره الله به، والنهي عن
الامتراء للمؤمنين يدنيهم من الرضا والسكينة، وقد خوطبوا في شخص نبيهم العظيم، وحاشا
لرسول الله أن يمتري أو يشك يوماً، فحين قال له ربه في آية أخرى :
)فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ
جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) (1) .
قال لا أشك ولا أسأل.
فلا ينبغي لمسلم أن يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم
وليس له أن يأخذ من هؤلاء الذين يستيقنون الحق، ثم يكتمونه شيئاً من أمر دينهم
الذي يأتيهم به الصادق الأمين.
إنّ اليهود خاصة وأهل الكتاب عامة يدسّون
السموم في دراستهم لقرآننا وسيرة نبينا وشريعة ديننا.
فكيف
نتلقى عنهم تاريخنا الذي شوهوه، ونأمنهم على القول في تراثنا وسيرة أوائلنا، ونرسل
إليهم طلابنا يدرسون على أيديهم علم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم تم يعودون إلينا
مدخولي العقل والضمير .
إنّ القرآن يحذرنا منهم ومن تخرصاتهم، ويصرفنا
عن الاستماع إليهم والثقة بهم، فلنا طريقنا ولهم طريقهم .
يقول
سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن، المجلد الثاني، ص 1061 :
إنّ
أهل الكتاب يعلمون جيداً الحقيقة في هذا الدين، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم -جيلاً
بعد جيل- يدرسون هذا الدين دراسة عميقة، ويُنقِّبون عن أسرار قوته، وعن مداخله إلى
النفوس ومساربه فيها، ويبحثون بجدٍ كيف يستطيعون أن يفسدوا القوةَ الموجِّهة في
هذا الدين ؟ كيف يُلقونَ بالريب والشكوك في قلوب أهله ؟ كيف يحرِّفون الكلم فيه عن
مواضعه؟ كيف يصدُّون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركةٍ دافعةٍ ،
تحطم الباطل والجاهلية، وتسترِدُّ سلطانَ الله في الأرض، وتطارد المعتدين على هذا
السلطان، وتجعل الدين كله لله، إلى حركة ثقافية باردة، والى بحوث نظرية مّيتةٍ، وإلى
جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ ؟ كيف يفرِّغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة
وتصورات غريبة عنه، مدمِّرة له، مع إيهام أهله أنَّ عقيدتهم محترمة مصونة؟
كيف،
في النهاية، يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى
ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى ليُجْهِزُوا على الجذورِ العاطفية الباقية في
العقيدة الباهتة؟
إن أهل هذا الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة
عميقة فاحصة، ليس لأنهم يبحثون عن الحقيقة، كما يتوهم السُذَّجُ من أهل الدين! ولا
ليُنْصِفُوا هذا الدين وأهلَه، كما يتصور بعضُ المخدوعين حين يرون اعترافاً من باحث
أو مستشرق بجانبٍ طيب من هذا الدين: كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة
العميقة الفاحصة لأنهم ييحثون عن مقتلٍ لهذا الدين ! لانهم يبحثون عن منافذه
ومساربه إلى الفطرة ليسدُّوها، أو يُميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه
منها !! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره
التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها !
وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم!
ومن واجبنا
نحن أن نعرف ذلك .. وأدن نعرف معه أننا نحن الأوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف
أبناءنا!!
سورة
البقرة(3)
[ الآيات 217- 218]
( يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ
مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218(.
-
"حصاة يجعلُ منها أعداءُ الله قُبّةٌ ".
-
"وقَشّةٌ – على ظنهم – قَصَمَتْ ظَهْرَ البَعيرِ ".
أوليس الذي فعل هذا بعضُ المسلمين على حسن نيّةٍ؟!
فليضعها المشركون تحت المجهر وليكبروها ما شاء لهم أن يكبروا، وليجعلوها سَمَرَ
الناس وأحاديثهم لينالوا من المسلمين ونبيهم.. وحين نزل القرآن ذهبت هذه الحملة
الظالمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أدراج الرياح، فالشمس حين تَسْطعُ
تختفي الدياجير، والنور إذ ينبثق تأوي الخفافيش إلى جحورها.
هذا دأب الباطل يزهو منتفشاً فإذا ظهر الحق
ذاب الباطل.. كأن شيئاً لم يكن.
.. وإليك القصة..
جاء في روايات متعددة أنّ سريةٌ لعبد الله
بن جحش رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه في ثمانية من المهاجرين،
ليس فيهم أحد من الأنصار باتجاه مكة، ومعه كتاب مغلق، وكلّفَهُ أن لا يفتحه حتى
يمضي ليلتين.. لماذا لا يفتح الكتاب إلاّ بعد ليلتين؟!.. تدريبٌ على الانضباط والجندية، فلما فتحه وجد فيه: إذا نظرتَ كتابي
هذا فامض حتى تنزل ببطن نخلة، بين مكة والطائف، ترصد قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم
ولا تُكرهَنَّ أحداً على المسير معك من أصحابك ".
فالرصد
ومتابعة أخبار العدو يجعل الجيش المسلم أقربَ إلى تقدير الموقف الصحيح لقوة
الأعداء ويبث الثقة في الجندي المسلم، كما أن الأمر لا يُؤتي أُكُلَه إلاّ إذا كان
القائم عليه مختاراً له طائعاً من نفسه لايُكْرَهُ عليه، فالإنسان إذا أكرهَ على
أمرٍ لم يحسنه، وتفلّت منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لما
نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة.. والمسلم إذا أتاه أمرٌ من الله
ورسوله قال سمعتُ وأطعت، هذا هو الإيمان الحق، ولا يكون مسلماً إلا بهذا التسليم
وهذه الطاعة، ثم قال لأصحابه قد أمرني رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصُد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر،
وقد نهى أن أستكره أحداً منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره
ذلك فليرجع، فانا ماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
تخيير..
فالأمر يتطلب تحمل المسؤولية والشعور بعظمة تحمل التباعات، والجهادُ أمانة لا
يحملها إلاّ القادر الراغب.. أما الذي يساق دون رغبة منه فلا يمكنه تحمَّل تلك
المسؤولية.. ومع التخيير تحريك للعواطف وشحذ للهمم.
إنها- والله- للشهادة التي تطلبون، ولقاء الله
الذي ترغبون، وإليه تسعون.. وقال الجميع: نحن لها فقد آتت هذه القيادة الحكيمة أُكُلَها..
لم يتخلف أحدٌ منهم.. حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرَّت عيرٌ لقريش تحمل تجارة،
فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عَمْراً بن الحضرمي، وأسرت
اثنين، وفَرّ الرابع، وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة،
فإذا هي في اليوم الأول من رجب- الشهر الحرام- الذي تعظِّمه العرب وبقيةَ الأشهر
الحرم، وقد عظمها الإسلام وأقرّ حرمتها.
فلما قدمت السرِيَّة بالعير والأسيرين على رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أمرتكم
بقتال في الشهر الحرام " فوقف العيرَ والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً،
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط
في أيدي القوم وظنوا أنهم هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين.
أما أبواق الكفر فإنها بدأت تعزف لحن
التشهير برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين..
قد استحل محمدٌ وأصحابُه الشهر الحرام.. سفكوا دماء الآمنين.. أسروا الرجال المسالمين..
سلبوا الأموال.. فعلوا عكس ما ادّعوا من حرمة الأشهر الحرم.. إنهم يدْعون إلى
السلام ويشنُّون الغارات..
أما اليهود فرقصت طرباً، وشهّرَتْ بالمسلمين، وتفاءلت
بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم فقالت: قتل
الحضرميَّ عبد الله بن واقد: وقدت الحرب.
وعَمروٌ:
عمرت الحرب- والحضرمي: حضرت الحرب.
وتسارعت الدعاية المضللة تُروِّج للحادثة
في البيئة العربية، وتُظهر محمداً وأصحابَه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب
وينكر مقدساته هو عند ظهور المصلحة!! ونسي هؤلاء المشركون أنهم بدأوا المسلمين العداء،
وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل.. وصدق قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيهم: " يرى أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في
عين نفسه ".
نسوا
أنهم عذّبوا المسلمين، وآذَوهم، وقتلوا كثيراً ممن آمن منهم ! وألجأوهم إلى
الهجرة، وحجزوا دورهم وأموالهم، ومنعوا الضعفاء من السفر، وأذاقوهم الهوان ألواناً..
نسوا أنهم كذَّبوا نبيهم، وألَّبُوا العرب عليه، ووصفوه بشتى الصفات القبيحة .. شانهم
شأن أعداء الله في كل مكان وكل زمان، فهم نسخة تتكرر على مر العصور،وكَرِّ الدهور،
لا يَرْعَوُنَ إلَّاً ولا ذمة.
ونزلت
الآية الكريمة تشد أَزْرَ المسلمين وتُقرَّر أن القتال في الشهر الحرام كبيرة،
نعم! لا شك في ذلك.. لكنَّ صدَّ المشركين المسلمين عن البيت الحرام ،والصدُّ عن
سبيل الله والكفرُ به وإخراجُ المسلمين من مكة.. أكبرُ عند الله، وما فعله
المشركون فتنة كله.. والفتنة أشد من القتل.
إن
المشركين بغاة، انتهكوا المقدسات، واعتدوا على حرمات الله، وآذَوا أولياءه فهم
المعتدون ابتداءً، وكان على المسلمين قتالهم، أنَّى ثقفوهم.
وكان
على المسلمين ألا يَدَعوهم يحتمون بستار زائف من الحُرمات التي لا احترام لها في
نفوسهم ولا قداسة!!.
لقد
كانت كلمة المشركين التي شددت النكير على المسلمين في قتل الحضرمي وأَسْرِ رفيقه
كلمةَ حقٍ أُريد بها باطل- وكان التلويحُ بحرمة الشهر الحرام مجردَ ستارٍ يحتمون
خلفه لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.
"إن التاريخ يعيد نفسه فاليوم يشن
أعداء الإسلام حملة شعواء على الملتزمين بدينهم، الداعين إلى تحكيم شرع ربهم،
المنافحين عن عقيدتهم، الباذلين دماءهم وأموالَهم وراحتهم لدين الله، ويَصِموُنهم
بأقذعِ الكلمات، ويَصفونهم بأسوأ الصفات، ويتناسون أنهم هم قد انحرفوا عن دين
الله، وباعوا أنفسهم للشيطان والمشركين من أهل الكتاب.
والقرآن يقرر أن أعداء الله، مجتمعين، مصممون على
قتال المسلمين، وإيذائهم، ليردُّوهم عن دينهم.. إن استطاعوا.. ولكن هيهات أن يعود
من ذاق حلاوة الإيمان، وامتزج بنور اليقين، وعرف سعادة التقوى، هيهات أن يعود
المبصرُ أعمى، والسميعُ أصمَّ، والسليمُ سقيماً، فلن تستطيع قوة الأرض مجتمعة أن
تنال من عقيدة المؤمن أو تزحزحه عنها.
أما ضعاف الإيمان والمتعلقون بأوهام الدنيا،
وأوضار المادة، إن سقطوا في حمأة الكفر، فإن مصيرهم نارٌ تلظى لا يصلاها إلَّا
الأشقى.
إن المؤمنين الذين هجروا الدنيا وملذاتها،
وتشوقوا للجنة ونعيمها، وجاهدوا في الله حق جهاده يضعون نصب أعينهم رضا الله
ورحمته، فيسلَّمون أمرهم إليه، ويتوكلون عليه، وهو الرحيم بهم، الغفور لسيئاتهم،
البَرُّ بهم.. وما أعظمَ أن يلجأَ الإنسان في مسيرته إلى الله.. أن يلجأ .. إلى
الله..
ولم يقصر عبد الله بن جحش، رضي الله عنه،
في توبيخ أعداء الله فيرد عليهم رداً استقاه من القرآن الكريم فأدى وأحسن:
تعُدُّون
قتلاً في الحرام عظيمةٌ
وأعظمُ
منه لو يرى الرشدَ راشدُ
صدُودُكمُ
عما يقول محمدٌ
وكفرٌ
به، والله راءٍ وشاهدُ
وإخراجُكم
من مسجدِ اللهِ أهلَهُ
لئلا
يُرى لله في البيت ساجدُ
فإنَّا
وإنْ عيرتمونا بقتله
وأرْجف
بالإسلامِ باغٍ وحاسدُ
سقَيْنَا
من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلةَ
لما أوقد الحربَ "واقد"
دماً
وابنُ عبد الله عثمانُ بيننا
ينازعه
غُلٌ من القِدِّ عاندُ (1)
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق