من النوادر الطريفة أن عبد الملك بن مروان
كان يحتفل يوما في مناسبة من المناسبات فسأل ، مُمالحًا ضيوفه ، عن أغزل بيت عند
العرب ، وعن أهجى بيت ، وأفخره ، فكانت الأبيات المنتقاة كلها للشاعر جرير ،
وعُدَّ بيته :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
الأمدح والأجود .
ولدى النظر في هذا البيت ضمن قصيدته رأيت أنه
يأخذ بمفهوم النقد العربي القديم الذي يفصل البيت عن سياقه العام في القصيدة ، وأن
سبب تفضيله كان لأنه أثنى على عبد الملك بصفتين هما الأفضل في المجتمع العربي :
الشجاعة والكرم ، بأسلوب تقريري
باستخدامه الاستفهام والنفي معا ، إضافة
إلى التفضيل مع الشمول في التعبير بـ " مَن " وذلك كله في بيت واحد.
وبعد دراسة القصيدة ككل، ومعرفة الظروف
السياسية والاجتماعية التي أحاطت بالشاعر تبين لي أن القصيدة لاصدق في مديحها ،
وذلك للأسباب الآتية :
أولا _ بالنسبة إلى ظروف الشاعر
والوضع العام للدولة آنذاك :
كان الشاعر " جرير" زبيري الهوى،
بمعنى أنه كان يعلن ولاءه للخليفـة الشرعي" عبد الله بن الزبير الذي حكم تسع
سنوات ، واعترفت بخلافته الشعوب ، إلا الأمويين ومـن بسطوا سلطانهم عليهم عن طريق
الحروب ، وكان جرير- بعـد استشهـاد الخليفة الشرعي وانتزاع السلطة من الزبيريين،
واستخلاف عبد الملك بن مروان قد أعرض عن
قاتل الخليفة الشرعي ، فعاش في ضنك العيش - كما أشار في القصيدة إبان حديثه عن
زوجته أم حرزة ، وطلبه الإغاثة من عبد الملك - فاضطر تحت ضغط لقمة العيش أن يلجأ
إلى الحجاج ليعينه على العيش ، فرأى هذا مقدمه غنيمة للسلطة الحاكمة ، لأن الشاعر
يمثل آنذاك الوجه الإعلامي للدولة ، وكان
عبد الملك بن مروان يقرب إليه الشاعر الأخطل التغلبي النصراني ، وكان هذا يدخل
عليه والصليب في رقبته ورائحة الخمر تفوح منه ، كما أورد صاحب الأغاني ، وكان هذا يؤلم الخليفة
المسلم ، ويتمنى لو أتيح له مثل جرير ليشيد به وبدولته ، فيتخلى به عن الأخطل الذي
يؤذي مشاعره ، ويعرضه للنقد ،وشاء القدر أن يأتيه طلبه ، إذ اغتنم الحجاج مقدم
"جرير " إليه ليقنعه باللجوء إلى عبد الملك …ولعله
اقتنع ووجد أن الأفضل له وللدولة أن يتقرب من حاكمها ابن مروان .
ويقال إنه لما دخل على عبد الملك أنشده قصيدته
التي تحوي بيت القصيد
" ألستم خير من ركب المطايا … "
وقد استهلها بمطلع غزلي ، وكان
أول كلمة فيها :
أتصحو ، بل فؤادك غير صاح عشية همّ صحبك بالرواح
فلما طرق مسمعي عبد الملك هذا الاستهلال أنكره
بحسه العربي المرهف ، ورمى الشاعر بدواة كانت في يده ، ولكن جريراً تظاهر
باللامبالاة وتابع قوله ، لأنه يعرف الأمر ونتائجه ، والظرف الذي هو فيه ، واستمر
ينشد بنبرته الخطابية الموجهة إلى عبد الملك حتى وصل إلى قوله :
ألستم خير من ركب المطايا …
ثم عرَّض بمناوئيه ، فسري عن عبد الملك وكافأه .
ثانيا : وبناء على هذا ، وبعد
دراسة المعاني والصور التي استخدمها جرير في قصيدته أرى أن عاطفة جرير كانت غير
صادقة لأنه :
1 - أبدى التكلف في المديح منذ أن
قال لعبد الملك " أتصحو " ثم كرر هذا المعنى بقوله " بل فؤادك غير
صاح " ليؤكد معنى الغفلة ، فكأن عبد الملك غفل عن آخرته حينما طمع بالخلافة ،
وقتل الخليفة الشرعي ، ثم قرب منه الشاعر
النصراني .
صحيح أنه أتبع المطلع بما يشير إلى الغزل بقوله :
أتصحو بل فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح
ليشير إلى حزنه لفـراق صاحبته ، وتأثره لرحيل
الظعينة ، لكنها على أي حال الكلمة الأولى
التي سمعها عبد الملك من جرير ، عدوه القادم إليه ، وقد جاءت موجهة إليه مباشرة ، وهذا لايليق بمقام خليفة لأكبر دولة في العالم
آنذاك ، فضلا عن أن المطلع الغزلي هو رمـز ينم عما يعتلج في صدر الشاعر ، فالخائف
يبدي في غزله خوفه ، وذو الهمّ يشير في
مقدمته إلى من سبَّـب له الهمَّ و… ، واقرأ إن شئت مطالع الجاهلييـن في
معلقاتهم أمثال النابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وامرئ القيس تجد مصداق ذلك .
2_ تحدث جرير في مقدمة قصيدته عن
رحيل الظعائن وذكر أن صاحباته قد سلمت عقائدهن وسلوكياتهن من التعميد ، وذلك في قوله :
يكلفنـي فؤادي من هـواه ظعائن يجتزِعْن على رُماح
ظعائن لم يدِنَّ مع النصارى ولا يدرين ما سمَك القَـراح
والتحدث عن العقائد أمر غير مألوف في مقدمة
القصيدة العربية ، وهو أيضاً غير مألوف من شاعر مسلم في دولة إسلامية لا تؤذي
عادة مشاعر النصارى لولا أن صاحبها أراد التعريض بشاعر الخليفة ، الأخطل ، فكأنه
يعرض من طرف خفي بسلوك الخليفة الذي قربه إليه ، أو كأنه يقول له : إذا كانت
النساء المسلمات يرفضن النصرانية وتعميدها فالأولى بك رجلا وخليفة للمسلمين أن
تنكر هذا وتبطله ، وها قد آن الأوان بمجيئي إليك فأنا أعوض عن شاعرك .
3_ ثم قال له بعد ذلك :
فبعض الماء ماء رباب مُزن وبعض الماء من سبخ ملاح
وقد شرح محقق ديوانه ذلك فقال :" إن
البدويات يفضلن الحضريات : كما يفضل الماء العذب الماء المالح " ولكني أرى
رأياً آخر، إذ ما علاقة هذا التفضيل بسياق القصيدة ؟
إن هذا البيت والذي سبقه يشكلان تشبيها
ضمنيا يشير إلى تنديد الشاعر بالأخطل منافسه على القصر ، ولكن من طرف خفي ، فكأن المسلمات "رمز
الشاعر"كالماء الزلال ، وغيرهن " رمز الأخطل " خلاف ذلك لأنهن يعمدن بماء تمجه النفس .
4 - ثم تابع جرير :
سيكفيك العـــــواذل أرحبـيٌّ هِجـــــان اللون كالفَـــــــــرَد
اللَّـياح
يعز على الطريق بمنكبيه كما ابترك الخليع على القداح
وفي تصوير الفرس تلقانا صورتان :
أ - مادية : تمكنه من الوصول إلى الخليفة ، فهو
فرس عربي أصيل ومن خيرة الخيـول العربية ، أبيض اللون ، ضخم الجسم يحسبه الناظر
إليه كجبل أبيض ، وهو يكاد يسد الطريق بمنكبيه العريضين ، وبه يستطيع الذهاب إلى الخليفة
في طريـق طويـل فيتخلص من لوم اللائمين ،وفي مقدمتهم زوجته التي لم تعد تحتمل
الفقر
ب - ومعنوية أو نفسية : يصور فيها حاله كأنه في مقامرة يجلس أمام القداح منفعل النفس ، ولكنه خبير بأعدائه ، وقد تنجح مقامرته ،مقدمه إلى الخليفة ، وقد يخفق فيها ، وإن كانت فرصة النجاح أكبر ، لأنه شاعر ملازم لهذا العمل خبير به ، وخبير بالكلمـة ولسوف يقدمها لعبد الملك ليجمل فيها موقفه الجديد منه .
ب - ومعنوية أو نفسية : يصور فيها حاله كأنه في مقامرة يجلس أمام القداح منفعل النفس ، ولكنه خبير بأعدائه ، وقد تنجح مقامرته ،مقدمه إلى الخليفة ، وقد يخفق فيها ، وإن كانت فرصة النجاح أكبر ، لأنه شاعر ملازم لهذا العمل خبير به ، وخبير بالكلمـة ولسوف يقدمها لعبد الملك ليجمل فيها موقفه الجديد منه .
5 - وينتقل جرير بعد ذلك إلى شرح
حاله التي اضطرته إلى القدوم إلى الخليفة الجديد ، وتغيير خطه السياسي منه ،فهو وتحت ضغط زوجه التي أجهدها ضنك العيش ، وإزاء إحساسه بالفقر الشديد ومعاناة الأسرة ،
لجأ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ، وهنا يلتقط الشاعر صورته من قصة الخليفة عمر
بن الخطاب والمرأة التي كانت توهم أولادها الجياع بأنها تطبخ لهم بوضع الحجارة في
الماء وإيقاد النار عليها …
ويصور أولاده كذلك وقد انكبوا على قدر لاطعام فيه إلا الحجر، في جو بارد
تتصاعد فيه أنفاسهم فتبدو ظاهرة للعيان كبخار يتصاعد ، يقول في ذلك :
تعزّتْ أم حَرْزَةَ ثم قالت رأيت الواردين ذوي امتياح
تعلِّل وهي ساغبـة بنيها بأنفـاس من الشَّبِم القَـراح
سأمتاح البحور فجنِّـبيني أذاة اللوم وانتظري امتياحي
وكأنه يقول لزوجته : كفي عن اللوم لأنني سأرد
البحور لأنال من عطاياها ، وإن كان هذا يؤلمني ، وانتظري ، وسأذهب في المستقبل
القريب ، وهذا يوحي بأنه لايزال في نفسه
شيء ما جعله لا يسرع في الذهاب إليه ، ولا ننسى أنه كان منذ عهد قريب عدوا له ،
وفي كلمة " البحور " إيحاء بأن الممدوح قد يكون الخليفة ، وقد يكون غيره
، فأي امرئ كفاه مؤنة العيش وهمَّ الحياة فهو البحر الذي يغرف منه .
6 -
ثم قال :
أغثني يا فداك أبي وأمي بسَيْب منك إنك ذو ارتياح..
ووسط البحر الوافر ذي الإيقاعات المناسبة
للاضطرابات النفسية ، وروي الحاء الذي يوحي بالتعب حتى البحة ، يطلب الشاعر من
الخليفة عطاء بفعل الأمر " أغثني " وفي هذا تعريض آخر، ولا سيما أنه
صرح بالحاجة ، وكأنه خاف ألا يعطيه الخليفة …ثم
قال له : "إنك ذو ارتياح " ولعمري إنها كلمة لاتقال لكريم إذ يكفي هذا
التلميح لا التصريح ,,,
7 - ثم قال له :
فإني قد رأيت علي حقا زيارتي الخليفة وامتداحي
فالقضية عنده قضية حق وواجب لا قضية إعجاب
بفعال الخليفة ولا مودة بينهما تستدعي الثناء عليه …
8 - ثم
قال :
سأشكر إن رددت علي ريشي وأنبت القوادم في جناحي
وفي رواية " وأثبت القوادم " ، فالشكر إذا معلق بالشرط ، فلا شكر بلا مال
يقدمه الخليفة ، فإن فعل وأغنى الشاعر استحق المديح ، والسين وهي " للاستقبال
" توحي بأن المديح الحق سيكون فيما
بعد ولكن " إن " توحي بالشك فكأنـه يشكك بعطاء الخليفة ، ولهذا فلن يكثر
مـن مديحه له الآن ، وفي هذا تجريح آخر له .
9 - ثم قال بعد المقدمات السالفة :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
وهو البيت الذي طرب له عبد الملك وكافأه من
أجله بعدما قال : "من كان يمدحني فليمدحني بمثل ما مدح به جرير " ولكني
أرى أن الخليفة العربي الفصيح لم يغرب عن باله ماقاله جرير فيما سبق ، وكأنه يقول
له ها أنا جاهز لاستقبالك شاعرا لي ، ولا سيما أن القصيدة حوت بعد ذلك تنديدا
بالمنشقين على عبد الملك ، وإشادة بنسب عبد الملك القرشي الذي أهّـله للخلافة ،
لقد تناسى الخليفة ما سبق إزاء التعريض بمناوئيه وإثبات حقه في الخلافة ، وهذا ما
كان يريده ويسعى إليه ، وهذا ما كان الأخطل يفعله ، وها هو الآن يرى أمامه من هو
يفوقه شاعرية فليغتنم الفرصة وليجعله شاعره الخاص، ولهذا رضي من جرير الاعتراف ولو
المبدئي به ، ولسوف ينسل من نفسه الضغينة بما سيقدمه له، ولا سيما أن منافسه ابن
الزبير قد واراه الثرى .
هذه ملاحظات رأيتها وأنا أقرأ هذه القصيدة
، وهي التي دعتني إلى القول بأن جريرا لم يكن يحس بصدق المشاعر وهو يمدح عبد الملك
، وإن كان قد قيل إنه صاحب أشهر بيت في المديح.
وما الأدب إلا ترجمان صادق لأحاسيس قائله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق