ما كنت لأكرر حديثي عن اللغـة العربيـة،
وإنها لمـلء القلب والجوانح، لولا أن جرحا أمضَّني في صميم الصميم، وجعلني أفوه
بما يقلقني حول مستقبل العربية في موطنها الأصلي .
جاءتني طالبة عربية تقدم اعتذارها عن حضور حصة
دراسية لمساق في اللغة العربية، وقد سطرت اعتذارها باللغة الإنجليزية، ووقعت تحته
باللغة نفسها !!…
نظرت إلى الطالبة مليـَّا … ألهذا الحد تتغرب أجيالنا التي يرجى منها
نهضتنا ؟ وهل كانت الإنجليزية أعذب بيانا
من فصحانا ؟ أم أن عقدة النقص جعلتها تعلن انتماءها لغير وطنها ؟
إن لغتنا وعاء فكرنا وحضارتنا، وإنها لفخرنا
وعزتنا. ألا
يكفي أن نزل بها خير كتاب للبشرية قاطبة وهو لها على مدى عصورها كلها ؟ ولكن
الضغوط اشتدت عليها حتى من أبنائها بشكل أو بآخر، وكانت أولى بوادره في القرن
التاسع عشر يوم دعا "محمد عثمان جلال " وهو" كاتب مصري درس في
فرنسا " إلى الأخذ باللهجة العامية، ودعا آخرون في مصر أيضا إلى الأخذ
بالأحرف اللاتينية على غرار ما حصل في تركيا العلمانية في عهد "مصطفى كمال
أتاتورك "، ولكن هذه الدعوات لاقت غيورين في بلادنا العربية فأوقف نشاطها
بتصديهم لها، ومر على ذلك زمان طويل أكل الدهر عليها وشرب، ولكنها عادت اليوم مع
أفكار العولمة والدعوة إلى التغيير الاجتماعي والثقافي، وتسربت الدعوة إلى
الجامعات فغدا في مكتباتها كتب ودواوين باللهجة العامية، وباتت طالباتها يتكلمن
لغة هجينا فهذه تقول " أوكيه، وأخرى تلفظ أوفيس، وثالثة تنطق كلاس
" وما شابه ذلك من مفردات وعبارات أجنبية، مع هجوم بعضهن على العربية، ولا سيما " نحوها " حتى في حصص اللغة
العربية !!…
لقد غدا أبناؤنا يتخلون عن بيانهم الساطع،
ويدافعون عن اللهجات العامية، ويدعون إلى تنسيب الأولاد بالمدارس الأجنبية منذ
نعومة أظفارهم، بحجة التراث، أو مواكبة العصر أو لأن البلاد تحوي جاليات لايجمع
بينها إلا الإنجليزية، أو بحجة أن الحفاظ على الفصحى بات صعبا وسط هذا الضجيج
والحضارة المصنوعة بأيد أجنبية … ولكني أسأل أصحاب هؤلاء الدعوات المنحرفة :
أيمكن أن يتخلى ابن البلد الأصلي عن لغته من أجل أبناء الجاليات الأخرى ؟
لقد جاء هؤلاء ليعيشوا في هذه البلاد مدة من الزمن قد تطول أو تقصر ثم
سيعودون إلى بلادهم فهل نستـنيم لمطالبهم ونترك لغتنا - نحن الأمة العريقة في التاريخ - من أجل رغباتهم
وأهوائهم ؟
أما من يدعو إلى العامية بحجة أنها لغة آبائه
وأجداده، فإني أقول له إن لغته "الأم " هي اللغة التي انطلقت من أرضه،
من الجزيرة العربية إلى العالم كله، وحملت
علوم السابقين، وترجمت بها كتب الأولين فما باله يتخلى عنها إلى لغة هجين تداخلت
فيها الفصحى مع الفارسية والتركية والكردية وهلم جرا …
وأما
قولهم بأن الفصحى ماتت ففرية يكررونها علها ترسخ في العقول غير الرشيدة، وإن تعاون
الجامعات والمجامع الثقافية على ترجمة
الكتب الأجنبية
العلمية وإيجاد المصطلحات للعلوم المعاصرة لخير رد على هؤلاء، وحبذا لو قامت جامعة
الشارقة بأقسامها العربية والأجنبية، في الدراسات الإنسانية والعلمية بهذا المشروع
الضخم، إذا لقدمت للأجيال
إرثا لاينسى قبل أن تضيع اللغة في موطنها الأصلي، وقبل أن يتحقق لعدونا مراده ، لا
حققه الله ، ولنا في أمتنا والأمم الأخرى قديما وحديثا خير مشجع على ذلك فقد ترجم
الفيتناميون العلوم كلها إلى لغتهم خلال سنة واحدة بعد تحررهم لينشئوا أبناءهم على
لغتهم، وكذلك فعل اليابانيون، بل في أمريكا مقاطعة تدرس علومها بالفرنسية لأن
أبناءها يتكلمون الفرنسية، ومن درس بلغة أمه أتقن علمه بشكل أقوى، ونحن الآن نضطر
إلى تخفيف المناهج ليتعلم أبناؤنا العلوم بالإنجليزية، ولو استمر الحال على ما نحن
عليه
لتخرج من أيدينا أناس ولاؤهم لشكسبير لا إلى خالد بن الوليد والرشيد والمنصور.
والله المستعان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق