وعندما رحل مارون النقاش إلى إيطاليا واطلع
على المسرح الغربي عاد إلى لبنان وكتب مسرحيته البخيل على غرار" البخيل
لموليير"، ومثلها في 1847م في بيروت،وأعلن أن غايته من نشر هذا الفن تهذيب
الأخلاق ونشر الفضيلة، ولذلك وافقت الدولة العثمانية على إنشاء مسرحه ولم تتعرض له،
بل حضر مسرحياته كبار رجال الدولة في بيروت وولاتها والقناصل الأجنبية فيها، وربما تأثر به أبو خليل القباني،أو تأثرهذا
بالمسرح التركي،إذ كان أبواه تركيين من مدينة قونية، فأدخل المسرح إلى دمشق، وكذلك
حصل يعقوب صنوع وخليل النقاش على إذن بالتمثيل في مصر .... وهكذا عاد المسرح
العربي إلى الظهور في العهد العثماني في كل من بيروت ودمشق والقاهرة، وبدأ التمثيل
فيه على مرأى من الولاة العثمانيين .
ولكن هؤلاء المسرحيين أخلوا بالشروط التي
كانت الدولة العثمانية قد شرطتها عليهم، إذ مثل مارون النقاش مسرحية " هارون
الرشيد وجعفر " فجعل هذه الشخصية العظيمة زير نساء، ونقل من مغامرات "
ألف ليلة وليلة " ما شوه به صورة هذا الخليفة الذي كان يحج سنة ويغزو سنة،
والذي كان قد قضى على غطرسة الإمبراطور البيزنطي "نقفور" بعدما تعدى على
حقوق المسلمين إذ انتصر عليه في معركة هرقلة، كما كرر مارون النقاش عرض هذه
المسرحية، ومثلها أيضا يعقوب صنوع وهو يهودي مصري، كما سخر هذا من تعدد الزوجات في
الإسلام، وندد بحكم الخديوي إسماعيل فأوقف مسرحه، فلما جاء سليم خليل النقاش إلى مصر سمح له بإنشاء مسرح شريطة
المحافظة على القواعد الصحيحة وترك كل ما يخل بالآداب العامة، ولكنه كعمه مثل
مسرحية " هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " فشوه بذلك صورة هذا
الخليفة العباسي الراشد فأوقف مسرحه بعد سنة واحدة .
أما في دمشق فقد مثل أبو خليل القباني
مسرحيات متعددة في ذلك العهد من أمثال " ناكر الجميل، والشاه محمود، فشجعه
الوالي العثماني فيها على إنشاء مسرح له، ولكنه أدخل العنصر النسائي فيه، إذ كان
يمثل في فرقته المكونة من اثني عشر شخصية أربعة نسوة، ثم كرر خطأ الآخرين فمثل
" هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " فأبلغ أحد العلماء الأمر للسلطان
العثماني فأمر بإغلاق المسرح، وكان ذلك في 1884م .
ويقول د. محمد يوسف نجم معلقا على ذلك "
فقام الشيوخ الرجعيون وقعدوا لظهور هارون الرشيد على المسرح على شكل أبي الحسن
المغفل، ورفعوا الاحتجاج إلى الدولة العثمانية " فمنع من التمثيل .
وهنا يبدو الأمر واضحا وضوح الشمس، فالدولة
العثمانية لم تمنع المسرح وإنما كان تشويه صورة عظمائنا السبب في المنع، والدليل
على هذا أن الدولة سمحت بالتمثيل في بيروت
ودمشق ومصر، ولكنها كأي سلطة رسمية تضع قوانين ضابطة، وهذا أمر بدهي، وأرى أنه ليس
من قبيل المصادفة أن يركز هؤلاء على هذه الشخصية التاريخية الفذة ... .
و قد سمح للقباني بعد ما رحل إلى مصر أن
يؤسس مسرحا له فيها، فعرض " أنس الجليس، وعنترة، ومجنون ليلى، "ولم
يعترض عليه أحد، ولكنه لما مزج المسرح بالرقص والغناء أحرق مسرحه، ولعل ذلك كان من
الشعب حفاظا على الأعراض أن تنتهك، وقد عوض له السلطان عبد الحميد الثاني ما أنفقه
على المسرح وأعاده إلى دمشق وخصص له راتبا يكفيه وأسرته إلى أن مات بعد أن ترك
التمثيل .
ثم افتتح سلامة حجازي مسرحا، وكذلك أنشأ كل من
إسكندر فرح وسليمان القرداحي ويوسف الخياط، ومثل على مسارحهم مسرحيات متعددة، ولكن
هؤلاء تطرفوا تطرف من سبقهم فمثلوا في الإسكندرية مسرحية " هارون الرشيد أو
غرام الملوك "، و "هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل "، كما مثل
يوسف الخياط وهو يهودي مسرحية " الظلوم " انتقد بها حكومة الخديوي
إسماعيل فأوقف هذا مسرحه أيضا، ولكنه على ما يبدو وجد في الإنكليز مساعدا له في
مصر فذهب إلى الريف في 1886م ومثل فيه فأوقف مسرحه، ثم عاد في 1890 إلى الظهور
ثانية فمنعته السلطة حتى مات في 1900م .
إزاء هذا كله أدركت الدولة العثمانية
ضرورة تشديد الرقابة على المسرح، ووضعت قانون مراقبة الجرائم السياسية في 1902
الذي يقضي بمراقبة الروايات التمثيلية في الآستانة قبل تمثيلها، وذلك لضمان خلوها
من الطعن بتراثنا وعظمائنا، فضاق هؤلاء ذرعا بالقانون وراحوا يطعنون به وبالسلطان
عبد الحميد الثاني، ويصورون الرقابة خنقا
لحرية الرأي !!...، وقالوا " لن تقوم للمسرح قائمة بعد اليوم " ولو أنهم
كانوا صدقوا ما عاهدوا عليه لما منعهم أحد، إذ كان عدد المسرحيات التي مثلت في
الأراضي العربية في العهد العثماني بين عامي 1847-1914م قد بلغت حوالي ثلاثمئة بين شعرية ونثرية ، وقد
اقتبست موضوعاتها من القصص الديني ومن التاريخ الجاهلي والإسلامي ومن الحياة
العامة،بل إن كثيرا من الجمعيات الخيرية الإسلامية وغير الإسلامية اتخذت المسرح
وسيلة للمساعدات الإنسانية، ونشط المسرح المدرسي أيضا، وهذا ينم عن أن موقف الدولة
العثمانية من المسرح كان كموقفها من أي فن، إذ لايعقل أن يسمح باتخاذ الإبداع
الفني وسيلة للطعن بشرع الله وبتراثنا
وشخصياتنا، ومن يفعل ذلك يلق أثاما ويوقف عند حده، وتلك غيرة لله ودينه وما نشاهده
اليوم من تشويه للحقائق التاريخية و لصورة الرسول صلى الله عليه وسلم يكفي لأخذ
العبرة وفهم الأمور على حقيقتها، ومن ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن
يعتقه من النار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق