من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم
جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني
الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ
وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم
، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه
هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف
حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة الحُجُرات [
الآيات 1- 5 ]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ
أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن
الجزء السادس والعشرين، متحدثاً في هذا الأدب العظيم الذي يجب أن يكونه المسلم في حضرة
الرسول صلى الله عليه وسلم:
تبدأ السورة بأول نداء حبيب، وأول استجاشة
للقلوب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )
نداءٌ من الله للذين آمنوا به بالغيب. واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم
بأنهم له، وأنهم يحملون شارته، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنهم هنا لأمر يقدّره
ويريده، وأنه حبَّبَ إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختياراً لهم ومنَّةٌ عليهم، فأولى
لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه
وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم، ويسلم ويستلم:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
يا أيها الذين آمنوا، لا تقترحوا على الله
ورسوله اقتراحاً، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم. ولا تقولوا في أمر
قبل قولِ الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول
رسوله.
قال قتادة: ذُكِر لنا أن ناساً كانوا يقولون:
لو أنزل في كذا كذا. لو صح كذا. فكره الله تعالى ذلك.
وقال العوفي: نهوا أن يتكملوا بين يديه،
وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه.
وقال الضاحك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله
من شرائع دينكم.
وقال علي بن عباس رضي الله عنهما: لا تقولوا
خلاف الكتاب والسنة.
فهو أدب نفسي مع الله ورسوله. وهو منهج
في التلقي والتنفيذ. وهو أصل التشريع والعمل في الوقت ذاته.. وهو منبثق من تقوى الله،
وراجع إليها. هذه التقوى النابعة من الشعور بان الله عليم.. وكل ذلك في آية واحدة قصيرة،
تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصيلة الكبيرة.
وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم؛
فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدلي به؟
وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو
حكم، إلَّا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول..
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه
بإسناده عن معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن:"
بم تحكم؟ "
قال: بكتاب الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: " فإن لم
تجد؟!
قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
قال صلى الله عليه وسلم:" فإن لم تجد؟"
قال رضي الله عنه: أجتهد رأي.
فضرب في صدره وقال: " الحمد لله الذي
وفق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله ".
وحتى لكأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، يسألهم عن اليوم الذي هم فيه، والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم،
فيتحرجون أن يجيبوا إلَّا بقولهم: الله
ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدُّمٌ بين يدي الله ورسوله!
جاء في حديث أبي بكرة بن الحارث الثقفي-
رضي الله عنه- أن النبيصلى الله عليه وسلم
سأل في حجة الوداع:
" أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله
أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: "أليس ذا الحجة؟" قلنا:
بلى! قال: "أي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه
بغير اسمه. فقال: " أليس البلد الحرام؟ " قلنا: بلى! قال: "فأي يوم
هذا؟ ! قلنا: الله
ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه
بغير اسمه. فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى!.. إلخ.
فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى،
التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى،
تقوى الله السميع العليم.
والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث
والخطاب؟ وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم؛ ويميز شخص رسول
الله بينهم، ويميز مجلسه فيهم؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب؛ ويحذرهم من مخالفة
ذلك التحذير الرهيب:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (1).
يا أيها الذين آمنوا.. ليوقروا النبي الذي
دعاهم إلى الإيمان.. أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.. ليحذروا هذا المزلق الذي قد
ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم، وهم غير شاعرين ولا عالمين، ليتقوه!.
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب،
وهذا التحذير المرهوب، عمله العميق الشديد:
قال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي،
حدثنا نافع بن عمر، عن أبي مليكة. قال: كاد الخيران أنْ يهلكا.. أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما.. رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم (في
السنة التاسعة من الهجرة) فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع
(أي ليؤمره عليهم)، وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع: لا أحفظ اسمه (في رواية أخرى أن
أسمه القعقاع بن معبد) فقال: أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت الَّا خلافي. قال:
ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك. فانزل الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
قال ابن الزبير رضي الله عنه: فما كان عمر
رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه!..
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لما
نزلت هذه الآية: قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلَّا كأخي السرار (يعني كالهمس
!).
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان
بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)
وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت.
فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا من أهل النار.
حبط عملي. وجلس في أهله حزيناً. ففقده
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض
القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مالك؟ قال: أنا الذي أرفع
صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر بالقول. حبط عملي. أنا من أهل النار.
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا بل هو من أهل الجنة". قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا
ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك
النداء الحبيب، وذلك التحذير الرعيب؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون. ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم! ولكن هذا
المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم، فخافوه
واتقوه!
ونوّه الله بتقواهم، وغضِّهم أصواتهم عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير عجيب:
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
فالتقوى هبة عظيمة، يختار الله لها القلوب
بعد امتحان واختبار، وبعد تخليص وتمحيص، فلا يضعها في قلب إلَّا وقد تهيأ لها، وقد
ثبت أنه يستحقها. والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها
لتلقي تلك الهبة. هبة التقوى. وقد كتب لهم معها وبها
المغفرة والأجر العظيم.
إنه الترغيب العميق، بعد التحذير المخيف.
بها يربّي الله قلوب عباده المختارين، ويعدها للأمر العظيم. الذي نهض به الصدر الأول
على هدى من هذه التربية ونور.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما،
فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. فقال: لو
كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً!.
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا: إنه يكره
رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام
احتراماً له في كل حال.
ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين
قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام التاسع. الذي سمّى " عام الوفود"..
لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة، ودخولهم في الإسلام، وكانوا أعراباً جفاة،
فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطلّة على المسجد النبوي الشريف،
يا محمد اخرج لنا، فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه
الجفوة وهذا الإزعاج، فنزل قوله تعالى:
( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
فوصفهم الله بان أكثرهم لا يعقلون. وكرّه
إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله
عليه وسلم وحرمة رسول الله القائد والمربي. وبيّن لهم الأولى والأفضل، وهو الصبر والانتظار
حتى يخرج إليهم.
وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغَّبهم في
المغفرة والرحمة. وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم. لا يزعجونه حتى يخرج إليهم؟ ولا يقتحمون عليه حتى
يدعوهم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق